قتل أطفال الثورات العربية وتشويه جثثهم/ حمّودان عبدالواحد

( قراءة في المعاني الرمزية لمثال الشهيد السوري حمزة الخطيب )

تناقلت مؤخرًا مواقع على الإنترنت خبرًا مفاده أنّ الشيخ العرعور دعا أتباعَه في سورية إلى أن يرفعوا من وتيرة القتل والاغتصاب ويركزوا على قتل الأطفال وتشويه جثثهم ثم يرموهم في أمكنة يسهل فيها إيجادُهم لنقلهم إلى المستشفيات من أجل كسب المزيد من التحريض ضد النظام. ويُختمُ هذا الخبرُ - حسب الرسالة التي نُسبَت إلى العرعور – بكلام يبرّر فيه دعوته المزعومة هاته : " فأنا أريد أن أشفي غليلي من هذا " الوحش " بما أنني لم أستطع أن أشفي غليلي من "والده ". وبغض النظر عن صحة هذا الخبر أو كذبه ، ومن هو مُحرّر نص الرسالة التي كان الغرض منها بكل وضوح هو الترويج لمحتواها ، فإنّ الموضوع الذي سنسلط الضوءَ عليه في هذه السطور ينبع من فكرة " التركيز على الأطفال وتشويه جثثهم " ، ومحاولة ربطها بالانتقام من والد بشار الأسد الرئيس الحالي لجمهورية سورية. لماذا التركيز على قتل الأطفال وتشويه جثثهم ؟ ما محل كلمة " الوالد " في الوعي السياسي واللغة الإيديولوجية للنظام الحاكم في سوريا ؟ سننطلق ، للكشف عن المستور والمخبوء في كلّ هذا ، من مثال الطفل الشهيد حمزة الخطيب.


اللافت للإنتباه في حدث قتل هذا الطفل ، أنّ السلطات ، على عكس عادتها ، قد ردّت جثمانه إلى أهله. ما هي الرسالة التي أرادت أن توصلها من خلال هذا التصرف ؟ ولمن بالضبط أرادت أن توجّهها ، ألأهل الجيزة فقط أم لكل الشعب السوري ؟ أللكبار أي الأمهات والأباء أم للأطفال خصوصا ، ومن شابَهَهُم من مراهقين وشباب ؟
صحيح أنّ المعنى المباشر الذي يفرض نفسه هنا هو أنّ السلطات أرادت أن تمرّر، عن طريق تعذيب حمزة وبتر عضوه التناسلي وتشويه جثته وقتله رميا بالرصاص ، رسالة إرهابية مرعبة لكل من سوّلت له نفسه - من الكبار والصغار على السواء - تحدّي النظام كما فعل الطفل القتيل ، لكن يحسن بكلّ من يبحث عن إجابات غير مباشرة للأسئلة أعلاه ، أن يبدأ بوقفة مع حمزة – شأنه شأن ما يقرب مائة طفل سقطوا شهداء في سوريا - في دلالته كطفل من جانب ، وفي علاقة طفولته بالثورة والشعب من جانب آخر. بمعنى آخر، لن يتسنى للباحث التعمق في مدلولات الثورة والشعب ما لم يطل التأمل والنظرفي ظاهرة الطفولة. لماذا ؟ لأنّ الطفل – على حد تعبير جول ميشلي Jules Micheletفي وقوفه على الثورة الفرنسية - هو المفسِّر للشعب ، بل هو الشعب نفسه في حقيقته الأصليّة الأولى أي الطاهرة النقيّة ، قبل أن يطرأ عليه تغيّر وتحوّل ، وفيه تتجلى كل مظاهر الشعب الطبيعية. إنّ كلّ ما يصدر عن الطفل من مطالب وكلمات وسلوكات تعبّر عن نفسها في عفوية ، تجسيدٌ لأحلام الشعب وتطلعاته قبل أن يشل إرادته شعورُ الخوف أو يسيطر على فكره صنم الإيديولوجيا فيقع في فخ غسل الدماغ الجماعي. الطفل هو الذي " يُظهرُ للجميع كيف أنّ الشعب مضطرّ دون انقطاع للبحث عن لغته والحصول عليها ، وهما في الغالب يجدان ما يبحثان عنه عن طريق طاقة عجيبة مشحونة بالسعادة ". تأمل مثلا ما يشهد به الشاعرُالليبي عبدالسلام العجيلي حين يقول : " ثورة 17 فبراير لم تقم بها النخبة السياسية أو العسكرية، ولكن قام بها الصغار وتورط فيها الكبار، الشباب كسروا حاجز الخوف، (...) ، لأول مرة يسألني أطفالي عن معنى الوطن وليبيا، وقد أخرجوا الأطلس من تحت غبار المكتبة لمعرفة خريطة بلادهم : الزنتان ومصراتة والبريقة وأجدابيا وجبل نفوسة وككلة. وامتد اطلاعهم على مواقع مدن تعز وصنعاء في اليمن". وهذا البحث عن الوطن الحقيقي أي الليبي والعربي في نسخته الشعبية لا الرسمية ، وهذه الأسئلة التي يطرحها الصغارُ على الشاعر حول مفهوم الهوية هي التي مَكّنتْ هذا الأخير من الوصول إلى ما كان عاجزاً عن تحقيقه من قبل : " بدأت أخيرًا في العثور على نفسي وفهم ذاتي، أعيش حالة ممزوجة بالفرح الكبير الناقص ما دامت لدينا مدن ما زالت تحت حكم القذافي ".
ولعله من المفيد ، ونحن بصدد الحديث عن الأطفال كصناع للثورة ، أن نُذكّر القارىء بقصة لتامر زكريا ، الكاتب السوري ذي اللغة الإيحائية والأسلوب الرمزي ، عنوانها " الصغار يضحكون " ، حتى يقفَ بنفسه على بعض بواذر الثورة ، والكيفية التي تبدأ بها ، وسرّ قوتها وعلاقتها الوثيقة بالأطفال. هذه القصة يُمْكن تلخيصها على النوع التالي : رأى ملكٌ ذات يوم أطفالا يلعبون وهم يضحكون ، فسألهم لماذا يضحكون ، فأجابوه - واحد تلو الآخر- لأنّ السماء زرقاء ، والاشجار خضراء ، والطيور تطير... ولمّا نظر الملكُ إلى السماء والأشجار والطيور وجدها لا تضحك فظنّ أنّ الأولاد كانوا يضحكون عليه... رجع الملك إلى قصره وأعلن قرارا يمنع الشعبَ من الضحك ، فأطاع الناسُ الكبار، أمّا الصغار فلم يهتمّوا بأمر الملك ، وظلوا يضحكون لأن السماء زرقاء والأشجار خضراء والطيور تطير...
رفض الصغارُ في عفوية وتلقائية ودون هدف سياسي أو قصد إيديولوجي إلا أن يَتحَدّوا الملكَ لا لأنه لا يعجبهم أو لأنهم أرادوا أن يضحكوا عليه ... لا ، لا ، أبدا... بل لأنّ خيالهم الخصبَ الواسعَ يحلمُ باستمرار بزرقة صافية تسكن سماءَهم اللامتناهية ، ويرون بعيونهم الطبيعية كل الأشجار خضراء ، ولا يخطر على بالهم أبدا أن توجد طيور لا تطير... بل إنّهم يمزجون بين أنفسهم والشعور بالفرح ، وبين خضرة الطبيعة وزرقة السماء وتحليق الطيور... نحن أمام استعارة تتكلم من خلالها الحرّيّة ، والضحكُ الطبيعي والعفوي وجه ٌ من وجوهها المرفرفة ، جناحٌ من أجنحتها البيضاء ، والأطفال في كرْكرَتِهم الطليقة قلبٌ في حالة انفتاح ورديّ ، وصدرٌ في أجمل انشراح نفسي ، كالماء ينساب دون تعثر أو وقوف أمام عائق ما ، عذبا صافيا لا تقدر على إفساده أو تكديره قوّة ما... أو كالريح في هبوبها التي لا يعرف أحدٌ متى ستقف وكيف ستنتهي !
وهذه العلاقة القائمة بين الاشياء الموجودة في العالم الخارجي وبين الأطفال هي علاقة ليست مادية ولا منطقية أو موضوعية ، إنّما هي نفسية وتنبع من واقع الخيال ... وكل شيء يصبح ممكنا بموجب هذا الجنس من العلاقة بين الذات والعالم الخارجي ! وهذا ما لم يفهمه الملك لأن العلاقة بينه وبين الاشياء وغير الأشياء بعيدة عن منطق القرب والإصغاء والانفتاح على الحياة لاستنشاق نبضها واستشفاف إرادتها .
وهذه الإرادة الطبيعية ، إرادة الحرية والحياة الموجودة في الإنسان والنبات والطير والحيوان وسائر المخلوقات والكائنات هي التي عابها النظامُ السوري على حمزة ولم يغفرها له. لم يكن حمزة إرهابيا ولا معارضا سياسيا ولا محاربا للنظام يحمل السلاح ، إنّما كان طفلا لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر وقام بشيء بسيط للغاية هو ذهابه إلى درعا لنقل الطعام إلى أهلها المحاصرين ، وقد أوقِفَ حسب شهود من أهل الجيزة عند حاجز الأمن حيث بدأت مأساته المهولة. الحق أنّ الأبعاد الرمزية التي تحيط بحالة هذا الطفل القتيل ناتجة عن علاقات موجودة في عمق الوعي الباطني بين عدة عناصر تتفاعل وتتحرك في إبهام وغموض في نفسية المجرمين الذين قتلوه .
الذي يسترعي النظرَ في حدث قتل هذا الطفل ، أنّ القاتل ( جمع بصيغة المفرد ) والمقتول لهما أسماء متقاربة من جهة الدلالة ، إذ أنّ معنى اسم حمزة في اللغة العربية هو الأسد ، مع إضافة " الشدة " كوصف رئيسي من أوصافه الكثيرة. هل هذا التقارب أو التناسب في عناصر دلالة التسمية هو مجرد صدفة أم أنّ هناك علاقة سرّيّة ذات بعد رمزي يمكنها تفسير هذا الشبه ؟ هل أراد الحاكم الشاب " بشار " مباشرة أو غير مباشرة عن طريق أخيه " ماهر " وزبانيّتهما من حبيشة وغيرهم أن " يبشر بمهارة " ناذرة محيطه العشائري وشعبَه المعبّد في آن واحد بموت " الأسد " الصغير الناقص التجربة - بالمقارنة مع " الأسد الوالد " - فقام للتدليل على ذلك بقتل حمزة الخطيب أي الطفل الشبل الذي تمرّد – خارج السياسة لانه كطفل لا يعرفها - على الأسد فكان لتمرّده هذا زمجرة أدخلت الرعب على قلوب الأسود الكبار ؟ هل من الممكن القول بأنّ نظام الأسد أراد من خلال قتل حمزة أن يعلن ميلاد " زمن الأسد الكبير" الذي أصبح يتجاوز كما يفعل كبار الزعماء في العالم كل ما يُسمّونه " الأخلاقيات الصغيرة " ؟
وفي هذا السياق بالضبط ، سياق مدلول كلمة الأسد ( مفرد يحيل على جمع ) يتدخل بعدٌ رمزيٌ آخر فحواه أنّ النظام لا يقبل بأن يكون في الشعب من يشارك رئيسَ الهرم السلطوي في اسمه أو وصف من أوصاف الأسد... الشعب لابد أن يخضع لمنطق الغنيمة والقطيع ، الشعب عليه أن يستسلم كما ترضخ الفريسة لمخالب الأسد... لهذا لا يُسمح لأي كان – حتى ولو كان الأمر يتعلق بالمعاني اللغوية " حمزة " - أن يكون الظل أو الند أو القرينَ للاسد ، ملك الغابة وحاكم الحيوانات...
لا تحسبنّ أيها القارىء أنّ هذا النوع من التفسيرفيه مبالغة أو مجازفة ، إنّما هو اجتهاد يدخل في باب استكشاف المعاني ، وخصوصا البعيدة منها أي التي لا تسلم عناصرَها ولا اشتغالها بسرعة وسهولة ، وعلى الدارس أن يتحلى بالصبر وعمق النظر حتى يستخرجَها من الأفعال أو الأقوال وأنواع الخطابات الأخرى كما يُستخرَجُ الكنز الثمين من بطن الأرض أو عمق البحر... المهم في مسألة المعاني ما خفي منها لأنّ مستوى اشتغالها يوجدُ في البنية التحتية للغة التي يجب ، من أجل الوقوف عليها ، الغوصُ في أعماق الوعي التاريخي والانطروبولوجي للأفراد والمجتمعات على السواء.
من هنا أهمية الإلتفات إلى عنصر آخر من عناصر الدلالة الرمزية يدعو بحق إلى الفضول
: حمزة هو اسم صحابي جليل ، مشهور جدا ويعرفه الكبير والصغير ، هو حمزة بن عبد المطلب ، وكان عمّا لرسول الله محمّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ، وعلامته من بين الصحابة الآخرين أنه " سيد شهداء الإسلام ". وحمزة هذا تذكره كتبُ تراجم الصحابة وسيرهم مقرونا بخاصيات الشدة والقوة ، والشجاعة والشدة ، وكانت هوايته - ويالها من صدفة ! - " صيد الأسود " في البراري والصحاري. والغريب في الأمر ، أنّ قتل حمزة الصغير وحمزة الكبير تمّ بشكل فيه تشابه يدعو للدهشة : كلاهما تعرض وهو جثمان هامد للتمثيل الهمجي والطعن الوحشي. فمثلما أنّ حمزة الصحابي الكبير قد فتحت هند بنت أبي سفيان صدرَه وأخرجت كبدَه فعضتها ونهشتها تعبيرا منها عن نار الحقد والانتقام التي كانت تلتهب في نفسها ، فكذلك عومل حمزة السوري الصغير فقد أفرغَ فيه السفاحون المجرمون كلّ ما يطبع ثقافة المتخلفين من جُبن وغباء وجهل وعمى وتجبّر وحيوانيّة ... ، فعَذبوه وقطعوا عضوَه التناسلي ورموه بالرصاص ومثلوا به شرّ تمثيل !

بالإضافة إلى هذا ، لا نبالغ إذا أرجعنا قتل حمزة وأمثاله من الأطفال والمراهقين العرب الذين شاركوا في المظاهرات... ، إلى عامل بعيد يكمن في التاريخ العربي الإسلامي الذي لا ريب أنّه حاضر ، من خلال الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية ، بشكل دائم في وعي السلطات العربية اليوم. كيف ذلك ؟ يخبرنا هذا التاريخ بأنّ " القطيعة بين السلطة والشباب كانت أقوى منها في الغالب بين السلطة وجيل الكهول والشيوخ ". وكانت هذه القطيعة تؤدّي عموما إلى قيام ثورات يكون وراءها شباب كما كان الحال مثلا مع ثورة " الفتوة " التي كانت سلمية. وهذه الانتفاضات حاضرة في عمق الوجدان الشعبي العربي ، وفيما يخص الشام بالضبط ، تبقى حركات " الأحداث " - التي سمّاها المؤرخون هكذا نسبة إلى الشباب وحضور المراهقين وأحيانا الصغار فيها – مهيمنة بشكل مخيف على الوعي السياسي للسلطات العربية كتهديد محتمل الوقوع لكيانها ولا يمكن استبعاد خطره الافتراضي من الحسابات السياسية الحالية... ولا يمكن تفسير درجة القمع والعنف الوحشييْن الذيْن عاملت بهما قوات الأمن والجيش المتظاهرين
الشباب السلميّين إلا من زاويةٍ استراتيجيةٍ تحاول وأدَ انتفاضة الشعب ومنع وصولها إلى مرحلة الثورة .
من جهة أخرى ، يمكن تفسير بتر العضو التناسلي للشهيد حمزة بعوامل نفسانيّة تتحرّك بشكل صامت وخفي لكن فتاك في لاوعي السلطات المجرمة. نعتقد هنا بالعلاقة اللاشعورية الموجودة بين العضو التناسلي للذكر وما يرمز إليه أي مبدأ الأب وشبحه القوي الدائم الحضور عند الأبناء. والحالة هذه، لا نستبعد أن يكون أبناءُ النظام ( بشار و ماهر وآخرون وهم كثيرون ) قد قاموا بقتل الأب ( حافظ ) في وعيهم الباطني ليتخلصوا من هيمنة صورته التي تلعب دورَ المراقب الثقيل ، وسيطرة صوته أو أصداء أوامره ونواهيه التي تُذكّر بسلطانه وسلطويته. إنّه لمن المحتمَل جدا ، أن نكون هنا أمام تعبير مثالي عن الشعور بمسؤولية الإبن اتجاه الأب وفي نفس الوقت بالثورة عليه. قام نظام الأسد منذ جلوس بشار على كرسي الرئاسة باحترام وصية الأب ، لكنّه دخل منذ انفجار غضب السوريّين - بعد أربعة عقود من استبداد الحزب الواحد - مرحلة تطبيقها بطريقة هستيرية جعلته يتجاوزها ويعلن أمام الجميع أنه ليس فقط المنفذ للوصية بل أكثر من ذلك أنه الثائر عليها بالزيادة عليها وكذلك بإحلال وصايا أخرى تعوضها وتحل محلها. هنا تظهر الحالة النفسية المبهمة من خلال ازدواجية الشعور اتجاه الأب : عن طريق نفس الفعل ( بتر العضو التناسلي لحمزة ) ، يهدي الإبن لوالده أكبردليل على حبّه له أو لأبوّته..، وفي نفس الوقت يحقق رغباتِه اتجاهه أي يصبح هو نفسُه أبًا في دائرة السلطة أو ينصب نفسه أبا في مكان والده.

علاوة على هذا ، يمكن القول أنّ " ذكر " حمزة يُمَثل في " ذاكرة " السلطات الخائفة من شبح الثورة " تذكارا " – كما التمثال - لكل ما من شأنه أن يكون واقفا منتصبا ، رافع الرأس أي ذا حياة وإرادة في التعبير عن نفسه والنظر إلى الأفق و السعي إلى المطلق مثلما هي أصوات الثائرين المرتفعة ولافتات المطالب والرايات التي تعلو رؤوس المتظاهرين وأقلام المثقفين المناضلة وهي تكتب... وكأنّ الذين نفذوا عملية بتر العضو التناسلي لحمزة يقولون للفتى الذي تصرف كما يتصرف الرجال الحقيقيّون : " أنت لست رجلا ، وإذا كنت تحسب نفسك كذلك لأنّك تملك ذكرًا فها نحن نقطعه لك عِقابا لتحدّيك لنا ، نحن الرجال..." . هكذا ، أراد الزبانية أن ينفوا من دائرة الثورة عنصر " الطفولة " لأنها عندهم ليست " رجولة " ، لكنّهم – وهنا تظهر الهشاشة الكبرى لتصوراتهم للأشياء وانحرافهم الخطير عن المعاني الانسانية – بالتركيز على جزءية جنسية بالمعنى الضيق للكلمة من جسد الطفل ، خلطوا بين " الذكورة " و " الرجولة ". ولسنا نتعجب من هذا الخلط – و المجرمون يستعملون عادة في أزمنة الحروب مثلا اغتصاب النساء كسلاح لمحاربة الأعداء ، والسوريون منهم هم الذين وجّهوا هنا تهمة سخيفة وعبثية لحمزة تقول بأنّه حاول اغتصاب نساء جنود النظام ! - ، لأنّ احتمال وجودِه يأخذ أوجُهَه الغامضة في اللاشعور الجماعي للعرب كلما اقتربنا من دوائر السلطة المختلفة حيث تُسَيّرُ شؤونُ الرعية والمواطنين انطلاقا من مركز اسمه " الأبوّة " التي سرعان ما تتحول إلى " أبويّة " Paternalisme تحت تأثير السلطوية والاستبداد Despotisme. والحق أنّ محاولة حصر مفهوم " الرجولة " في خاصية " الذكورة " البيولوجية ، تتنافى مع محتوى" الرجولة " الرائج في الثقافة العربية وكما تفهمه الشعوبُ المنتمية إليها ، إذ هي مجموعة من القيم الشخصية والاجتماعية والانسانية كالشهامة والإباء والعفة والكرم والشجاعة والأمانة والوفاء بالعهود والذوذ عن المظلوم ومحاربة الظالم ، وقول الحق... إلخ.

يمكن القول إذن أن قتل الطفل السوري حمزة بالطريقة الشنيعة والوحشيّة التي تعرض لها تعكس على الأقل شيئين عميقين : - أولا ، هي في آن واحد ، محاولة من الأسد ، كعشيرة ونظام ، للتخلص من قرينه الذي يماثله في خاصية شبه ، لكن أيضاً رغبة باطنية غير مباشرة للفرار أمام ضغوط النفس والتحرّر منها ولو بقتلها... وكأن نظام الأسد يطلب بوضعه حَدّا لحياة حمزة - أي الأسد الطفل أي الأسد المواطن أي الأسد الشعب أي الأسد السوري - النجدة... هكذا نكون أمام نداء إغاثة ينبأ بنهاية وشيكة وحتمية لطالب النجدة... - ثانيا ، تحيل الطريقة التي تم بها وضع حد لحياة حمزة ( الشعب السوري الفتي الشجاع القوي المتدفق المندفع كما هو نداء الحياة في نموها الطبيعي... ) على مدى استفحال عقدة الكراهية المزدوجة التي يشعر بها الأسد - كنظام قمعي جبان - اتجاه ضعف شخصيته وعجزنفسه ، وجمود فكره وفقر خياله ، وفي نفس الوقت اتجاه القيم التي يملكها الآخرُ وتدفعه إلى المطالبة بحقوقه ، وهي قيم الشهامة والجرأة والإقدام التي توجد في حمزة...
نعم ، ما من شكّ في أنّ هذا الشهيد هو رمز سوريا الفتية التي لا تنطفأ شعلة طفولتها وشبابها ، الناظرة نحو الأفق، الواثقة بالمستقبل ، الحالمة بغد تسطع فيه شموس الحرية ...، سوريا المتطلعة إلى ما وراء الحدود والحواجز، والسدود والقضبان ... نعم ، حمزة هو سوريا التي قررت بإرادة الحياة أي إرادة الرب الخالق واهب الحرية والكرامة للإنسان ...، أن تتكلم ، أن ترفع صوتها ، أن تعرّي عن صدورها ، أن تتحدى نيران زبانية السلطات ، أن تتنفس الصعداء بعد أزمنة الإهانة والاستبداد والاستعباد...
وإني – صدّقوني – لأسمع من بعيد روح حمزة ، أميرالأشبال الشهداء ، وهي " تخطب " في الشعب السوري والشعوب العربية على السواء ، تدوّي في زمجرة رعدية تنبثق شرارات من عمق بركان ساكن في ذاكرة الشعوب العربية الغاضبة ، الكريمة الحرّة الأبيّة.. تُحَذرالأسد :

لا تحْقِرَنّ صغيرًا في معاملة قد تُدْمي البعوضةُ مُقلة الأسدِ

أما وأنك ذهبتَ بعيدًا في إهانتك للطفل حمزة ، رمز الشعب العظيم ، فأبشر يانظام بشار.. أبشر بنهاية الأسد... ذاك الحيوان المتسلط الظالم ، الفتّاك المفترس ، الراقد في رعين " الحزب الواحد " و " العشيرة " وأدغال " الشبيحة " !

ولنتأمّل ، في النهاية ، الخطابَ الثالث الذي ألقاه بشار الأسد يوم الاثنين 20.06.2011 بجامعة دمشق لنتأكد من أنّ حمزة كان حاضرا بكل ثقله في لغة الخطاب والمكان الذي ألقيت فيه وردود الأفعال الرافضة له. - أولا ، وَصَفَ الأسد - بعد تصنيفه المتظاهرين إلى ثلاثة أنواع " أصحاب مطالب " و" المخربين " و" أصحاب فكر متطرف " ، وما تتعرّض له بلاده بمؤامرة – المتآمرين ب " الجراثيم التي تتكاثر في كل مكان ...". وهي كائنات صغيرة الحجم لكن مفعولها فتاك وخطير على الصحة ... وهو ما عيبَ على حمزة الصغير ! - ألقى الأسد خطابَه في جامعة دمشق ، لكن أمام شخصيات من الناس الكبار والكهول والشيوخ ، أما الطلبة أي الشباب مستقبل سوريا فكانوا غائبين. - ثالثا ، مِن بين ردود الأفعال السلبية اتجاه الخطاب ، جاء تصريحٌ صحافي ذكي ، يعبّر عن وعي ونضج كبيريْن في تقييم المحتوى السياسي للخطاب : " خطاب الأسد الثالث تعبير عن أزمة يعاني منها النظام، وأهمها أزمة فهم الواقع، وإدراك مطلب الشعب في الحرية ". هذا التصريح صدر عن "ائتلاف شباب الثورة السورية الحرة" ، وهو تنظيم سياسي ظهر منذ أيام قليلة... والكلمة المركزية فيه التي تذكّر بحمزة الخطيب ، رمز الأطفال والفتيان السوريّين الشهداء ، ويمكن اعتبارُها استمرارا لروحه الثائرة ... هي " شباب " !
هذه الكلمة هي نفسها التي نجدها في " شباب ثورة تونس " و " شباب ثورة مصر " ، وتحيل - كما تشهد بذلك الوقائع في هذين البلدين – إلى نوع وعمق وقوة الخيال والخصوبة والحيوية والعقيدة والإرادة التي صنعت الثورة. وهي كلمة ترتعد لسماعها قلوبُ الصناديد وأفئدة
الطغاة ، وتسقط أمامها الأصنام !

CONVERSATION

0 comments: