18 شهراً مرّت حتى الآن على وجود إدارة الرئيس أوباما في "البيت الأبيض" دون أن يظهر بعد أيّ تحوّل مهم في مجرى السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
فالحرب على أفغانستان في نهاية العام 2001 ثمّ الحرب على العراق في مطلع العام 2003، وما رافق هاتين الحربين من انتشار عسكري أميركي في محيط دول الشرق الأوسط، وإقامة قواعد في بعضها، كانت وما تزال أعمالاً عسكرية من أجل خدمة رؤية سياسية لها مضامين أمنية واقتصادية.
ولقد سعت إدارة بوش في عهدها الثاني لتوظيف سياسي وأمني واقتصادي لما قامت به الإدارة بعهدها الأوّل في المجال العسكري، وما زال هذا التوظيف مستمرّاً على أراضي الشرق الأوسط في العديد من بلدانه رغم تغيّر الإدارة في واشنطن.
ولعلّ أبرز هذه المضامين، بالرؤية الأميركية للشرق الأوسط منذ إدارة بوش، هو ضمان التحكّم مستقبلاً في منابع النفط كأحد أهمّ مصادر الطاقة الدولية لعقود عديدة قادمة، خاصّةً وأنّ المنافسين الجدد للقطب الدولي الأعظم الآن يعتمدون في نموّ اقتصادهم على نفط الشرق الأوسط.
ولأنّ التواجد العسكري الأميركي لم يكن وحده كافياً من أجل تحقيق الرؤية الأميركية المستقبلية للمنطقة، فإنّ عناصر سياسية ثلاثة عملت إدارة بوش على توفّرها بشكل متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:
1- تغيير التركيبة السياسية القائمة في بعض دول العالم الإسلامي لتصبح مبنيّةً على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية.
فالديمقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي تكون حصيلة تعزيز المشاعر الانقسامية في المجتمع الواحد)، يمكن أن توجِد أنظمة وحكومات تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأميركية، كما جرى بين واشنطن وبعض بلدان أوروبا الغربية، أو مع الحكومة التركية بشأن العراق وإيران والقضية الفلسطينية.
أيضاً، فإن إثارة الانقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر سياق ديمقراطي ضابط لها في إطار من الصيغة الدستورية الفيدرالية، يمكن أن يجعلها سبب صراعٍ مستمر يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود بالرؤية الأميركية، ويجعل القوات الأميركية المتواجدة بالمنطقة عرضةً للخطر الأمني المستمر في ظلّ حروب أهلية مفتوحة هي أيضاً لتدخّل وتأثير من أطراف تناهض السياسة الأميركية.
إضافةً إلى أنّ التركيبة الفيدرالية القائمة على آليات ديمقراطية ستسمح للولايات المتحدة بالتدخّل الدائم مع القطاعات المختلفة في داخل كلّ جزء من ناحية، وبين الأجزاء المتّحدة فيدرالياً من ناحية أخرى.
2- التركيز على هويّة "شرق أوسطية" كإطار جامع لبلدان المنطقة، إذ أنّ العمل تحت مظلّة "الجامعة العربية" أو "المؤتمر الإسلامي" يمكن أن يؤدّي مستقبلاً إلى ما ليس مرغوباً به أميركياً من نشوء تكتلات كبرى متجانسة ذات مضامين ثقافية متباينة مع الرؤية الأميركية، كما حدث ويحدث في تجربة الاتحاد الأوروبي، رغم وجود القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا، ورغم وجود حلف الأطلسي والانتماء المشترك لحضارة غربية واحدة.
لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في "الشرق الأوسط الكبير" المنشود أميركياً، إذ بحضوره الفاعل، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل.
3- العنصر الثالث المهم، في الرؤية الأميركية للشرق الأوسط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وقبل تحقيق التسوية الشاملة. وتجد الإدارة الأميركية أنّ تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى التسوية والقبول بحدود دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء الصراعات المسلّحة حتّى من غير تسويات سياسية شاملة، وسيساعد على وقف أيّ أعمال مسلّحة في المنطقة.
إذن، كخلاصة، فإنّ حروب واشنطن تحت إدارة بوش أرادت "ديمقراطيات سياسية" في المنطقة لكن ليس إلى حدّ الاستقلال عن القرار الأميركي. حروب شجّعت على صراعات سياسية محلية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، لكن ليس إلى حدّ الصراعات الأهلية المفتوحة، كما جرى في ضبط صراعات العراق ولبنان والسودان. حروب رغبت بصيغٍ فيدرالية جامعة لأجزاء في كلّ وطن، لكن ليس إلى حدّ الانصهار الوطني الكامل. حروب تريد إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي، لكن ليس بالإعتماد على الحق والعدل بل على ما تحدّده المصالح الأميركية/الإسرائيلية المشتركة. حروب تريد ترسيخ التواجد العسكري والأمني في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بأوضاع حروب داخلية استنزافية أو الاضطرار لإبقاء قوات كبيرة العدد إلى أمد مفتوح.
ولعلّ خلاصات هذه الرؤية تفسّر المواقف الأميركية الآن من عدّة حكومات وقضايا عربية. فالعراق والسودان مثلاً يسيران على النموذج الديمقراطي/الفيدرالي المرغوب فيه أميركياً. أمّا فلسطين ولبنان، فقد حدثت فيهما تطوّرات أرادت إدارة بوش أن تدفع من خلالها باتجاه تحقيق العناصر الكامنة في الرؤية الأميركية السابق ذكرها، لكن الأهداف لم تتحقّق بسبب صمود حالة المقاومة في المكانين .
ولم يكن ممكناً طبعاً فصل ملف الأزمة الأميركية مع إيران عن ملفات "مثلّث الأزمات" في المنطقة: العراق، لبنان، وفلسطين. فإيران معنيّة بشكل مباشر أو غير مباشر في تداعيات أي صراع حدث أو قد يحدث في هذه الأزمات العربية المفتوحة.
ومن رحم هذه الأزمات على أراضي العراق ولبنان وفلسطين توالدت أزمات سياسية وأمنية عديدة أبرزها كان مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى الصراعات السياسية والتنافس على السلطة والحكم، بل وعلى المعارضة أحياناً.
ولعلَّ ما حدث ويحدث في العراق وأفغانستان، وفي لبنان وفلسطين والسودان، إضافةً إلى التأزّم في العلاقات مع إيران، أزمات ارتبطت كلّها بالسياسة العنجهية الخاطئة التي قادتها إدارة بوش منذ تسلّمها الحكم في مطلع العام 2001، حيث أدرك العالم كلّه عدم صحّة التبريرات والأعذار التي أعطتها إدارة بوش لحربها على العراق، وبأنّ هذه الحرب كانت مقرّرةً قبل أحداث أيلول/سبتمبر 2001، وقبل بروز ظاهرة الإرهاب باسم جماعاتٍ عربية وإسلامية.
ومع اقتراب ذكرى مرور عامين على انتخاب رئيس أميركي جديد وعد بتصحيح مسارات عديدة في السياسة الخارجية، نجد أنّ مفاصل السياسة الأميركية في المنطقة العربية تحديداً وتجاه الصراع العربي/الإسرائيلي ما زالت مشدودةً إلى رؤية الإدارة السابقة ولم تحدث فكفكة لهذه السياسة ولا تراجع فعلي حدث عن مضامينها.
لكن من "إيجابيات" سلبيات "النموذج العراقي" أنَّ الإدارة الأميركية اضطرّت إلى التراجع عن مقولة "النموذج الديمقراطي العراقي" للمنطقة التي طرحتها إدارة بوش عقب غزو العراق مباشرة، ثمّ ألحقتها بشعار "الفوضى البنّاءة"، ثمّ بأطروحة "الشرق الأوسط الجديد". وكلّها سياسات أميركية أثبتت التطوّرات فشلها حتى الآن.
والمحصّلة من ذلك كلّه، أنّ إدارة أوباما تمارس مراجعة عميقة لهذه السياسة على أعلى المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية في واشنطن، ولكن من غير تراجع واضح عن مضامينها.
وخلال هذه الفترة الزمنية من "المراجعة الأميركية"، فإنّ الصراعات مستمرّة في "الشرق الأوسط" لكن بأسلوب "عضّ الأصابع"، لا قطع الرؤوس أو كسر الرقاب.
0 comments:
إرسال تعليق