كاتبٌ وباحث فلسطيني
مخطئ من يظن أننا نستطيع أن نستميل الإدارة الأمريكية إلى جانبنا، أو أن نتمكن من تغيير مواقفها التاريخية المؤيدة والمساندة لـ "إسرائيل"، أو أننا نستطيع أن نحملها على الإيمان بعدالة قضايانا العربية، ومساندتنا في مطالبنا وحقوقنا المشروعة، فهذا وهمٌ وخيال، وحلم صعب المنال، وغايةٌ أبداً لن ندركها، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تتخلى بحالٍ عن "إسرائيل"، ولن تتركها نهباً للأحداث، ولن تقف مكتوفة الأيدي إزاء التحديات الكبرى التي تواجهها، وستبقى تتصدى معها أو نيابةً عنها لمواجهة المخاطر التي تحدق بها، وتعرض أمنها ومستقبلها للخطر، وسيكون من السهل على الولايات المتحدة الأمريكية التضحية بحلفاءها العرب والمسلمين إذا تعارضت مصالح "إسرائيل" معها، فالوفاء للمشروع الصهيوني لدى الإدارات الأمريكية عهدٌ متوارث، وعقدٌ مقدس، لا يقوى أي رئيسٍ أمريكي أن يتحلل منه، أو أن يخل ببنوده وأصوله، سواء إيماناً منه بواجب حماية "إسرائيل"، وتحقيق أمنها وتفوقها، أو خوفاً من سيفها المسلط في الحملات الانتخابية الأمريكية المتعددة، وحرصاً على الصوت اليهودي، ونفوذ اللوبي الصهيوني النشط والمؤثر في نتائج الانتخابات الأمريكية.
نخطئ كثيراً عندما نعتقد أن الخطاب السياسي الأمريكي تجاه العرب والمسلمين قد تغير، وأن نبرة الإدارة الأمريكية إزاء "إسرائيل" قد تغيرت، وأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد كشر عن أنيابه، وأبدى غضبه وسخطه تجاه الحكومة الإسرائيلية، وأنه أعرب مراراً عن عدم رضاه عن سياسة الحكومة الإسرائيلية، وأن إدارته غير راضية عم الممارسات الإسرائيلية في مدينة القدس، ضد سكانها وممتلكاتهم، وضد مقدساتها وحقوق أهلها، فالغضب الأمريكي تجاه "إسرائيل" لم يكن إلا سحابة صيف، رغم إهانة الحكومة الإسرائيلية للإدارة الأمريكية، وقد مرت موجة الغضب الأمريكية كالبرق اللامع، ولم تترك على صفحة العلاقات الثنائية أثراً، فالذين راهنوا كثيراً على برودة استقبال ووداع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لضيفه بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية في زيارته قبل الأخيرة إلى واشنطن، قد أصيبوا بنكسة أمام الاستقبال الحار واللافت الذي حظي به نتنياهو من قبل مضيفه في البيت الأبيض، الذي لم يكتفِ بحفاوة الاستقبال، بل بالغ في وداعه راجلاً معه حتى باب سيارته، في رسالةٍ واضحة إلى اللوبي الصهيوني، والحكومة الإسرائيلية أن موجة الغضب التي استعرت من قبل الإدارة الأمريكية ضد "إسرائيل" كانت أكبر من الحقيقة، وأنها لم تكن تعبر عن جوهر علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بـ "إسرائيل"، كما كانت رسالة واضحة إلى كل الذين راهنوا على توتر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وعلى تغير لهجة الخطاب الأمريكي تجاه "إسرائيل"، مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتخلى عن "إسرائيل"، ولن تنقلب عليها، ولن تسمح لأحدٍ بأن يهددها، أو يعرض أمنها للخطر.
وفي الوقت الذي ألانت فيه الإدارة الأمريكية خطابها لقادة الدول العربية، وألحت عليهم لمنح الحكومة الإسرائيلية المزيد من الوقت لإثبات حسن نيتها، وصدق توجها نحو السلام، وطالبتهم بالضغط على السلطة الفلسطينية للقبول بإجراء مفاوضاتٍ غير مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية مدة أربعة أشهر، ظن قادة الدول العربية أن ربيع العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد انتهى، وأن فصل الخريف قد حل، وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد قلبت ظهر المجن لـ "إسرائيل"، وأنها باتت تلتفت إلى مصالحها في المنطقة، وإلى صورتها التي ساءات أخيراً بسبب سياسة الإدارة السابقة، وأنها قد تضحي بعلاقاتها الاستراتيجية مع "إسرائيل" من أجل صون مصالحها، وحماية جنودها وقواعدها العسكرية في المنطقة، مخافة اندلاع حربٍ أو فوضى في المنطقة في حال مهاجمة إيران، ولكن الإدارة الأمريكية قد خيبت آمال قادة الدول العربية، وبدلاً من تمارس ذات الضغط على الحكومة الإسرائيلية، قامت بتوجيه رسالة تحذير إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهي في حقيقتها رسالة تحذير إلى قادة الدول العربية جميعاً، مفادها أن تعودوا جميعاً إلى حظيرة المفاوضات المباشرة، وأن تقلعوا عن وضع الشروط، وخلق العقبات، وإلا فإن الغضب الأمريكي سيحل على السلطة الفلسطينية، وعلى الأمة العربية والإسلامية، وسيدفع الفلسطينيون مزيداً من الثمن، حصاراً وتجويعاً وقتلاً وتشريداً، ولن تلقِ الإدارة الأمريكية بالاً إزاء المعاناة الفلسطينية، ولن تطالب إسرائيل بالتخفيف عن الفلسطينيين، فضلاً عن أنها ستحرم الفلسطينيين وسلطتهم من المنح الأمريكية، ومن الوعود الدولية لهم بالرخاء والنعيم.
هذا هو الموقف الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية، وهذه هي سياستها الحقيقية إزاء "إسرائيل"، وتجاه المنطقة العربية والإسلامية، فهي الحليف الأكبر لـ "إسرائيل"، وهي الضامنة لأمنها، والساعية لتحقيق تفوقها وتميزها، وهي الكفيلة بإزالة أي خطرٍ قد يحدق بها، وهي على استعداد لسحق أي قوة قد تهدد مستقبل الدولة العبرية، وأما معاني التغيير والإصلاح التي أبداها الرئيس أوباما في خطاباته الشهيرة الموجهة إلى الأمتين العربية والإسلامية في القاهرة وأنقرة، فهي ليست أكثر من سراب، وقد كانت محاولةً لذر الرماد في العيون، سعياً لتحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية الآخذة في التشوه والتدهور، ومحاولةً من الإدارة الأمريكية لصنع اصطفافٍ عربي إلى جانب دول الحلفاء لمواجهة الخطر النووي الإيراني، كما أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يتطلع إلى الانتخابات النصفية لمجلس الشيوخ، والذي يطمح في دورةٍ رئاسية ثانية، لن يفرط في هذه الآمال، ولن يعرض مستقبله الشخصي، ومستقبل حزبه لأي خسارةٍ ممكنة، ولن يعلق مصيره بمصالحٍ عربية مضمونة، ونفوذٍ عسكري في مناطقهم محقق وموجود، لعلمه أن الأنظمة العربية في حاجةٍ لها أكثر من حاجة الولايات المتحدة لهم، فبقاء هذه الأنظمة رهنٌ بالرضا الأمريكي، واستقرار الأوضاع في بلادهم رهنٌ بمدى طواعية هذه الأنظمة إلى الإدارة الأمريكية.
استمالة الإدارة الأمريكية تجاهنا وهمٌ وسراب، وتحقيقُ تغييرٍ في مواقفهم لصالحنا استحالةٌ وخيال، والرهان على عدالتهم ونزاهتمهم خرفٌ وسفه، والانجرار وراء وعودهم تيهٌ وضياع، وخسارةً للحقوق أكثر، ومغادرةٌ لمواقع القوة أخطر، فلا شئ يجبر الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوروبية على تغيير مواقفهم، أو تعديل سياساتهم، غير التمسك بالحقوق، والركون إلى القوة، والاعتماد على خيارات الأمة، ودعم صمودها، وتمكين مقاومتها، فهي السبيل الوحيد القادر على إجبار معسكر الأعداء، "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية ومن يساندهم، على مغادرة مربعات الظلم والعداء، والتاريخ خير شاهدٍ على انتصار أصحاب الحقوق، ودحر عتاة قوى الاستعمار والاحتلال، فأصحاب الحقوق الذين ثبتوا على مواقفهم، ولم يغيروا قناعاتهم، هم الذين حققوا الغايات، ووصلوا إلى الأهداف، أما قوى الظلم والبغي فهي التي تراجعت وانكفأت، وهي التي غيرت خطابها وانكسرت، ولكن سنة التغيير لا تتحقق إلا إذا آمن أصحاب الحق بحقوقهم، وثبتوا رغم القهر على مواقفهم، ولم يراهنوا على خُلقِ العدو بأن يغير خطابه، أو أن يتراجع بمحض إرادته عن سياساته.
0 comments:
إرسال تعليق