(إن انعدام الشفافية في العلاقات الهندية – الإسرائيلية والسرية التي تتسم بها وطابعها الأمني إنما يخلق مساحة غموض واسعة تثير الكثير من الأسئلة العربية والفلسطينية المشروعة التي ما تزال دون أجوبة)
إن التغيير في سياسة "الديموقراطية الأكبر" من حيث عدد السكان في العالم تجاه الصراع على الوجود الدائر في فلسطين، من الانحياز لقضية الشعب الفلسطيني العادلة إلى الحياد السلبي فيها، سوف يظل أحد الخسائر الاستراتيجية الرئيسية التي منيت بها حركة التحرر الوطني الفلسطيني لا يوجد نظير لها سوى الانتقال الصيني المماثل من الانحياز إلى هذه القضية إلى الحياد فيها، وسوى خسارة دعم الاتحاد السوفياتي السابق لهذه الحركة بانهياره الذي كان أحد العوامل الرئيسية في هذا التحول الاستراتيجي في السياسة الخارجية الهندية.
وتؤكد مسارعة الهند إلى الاعتراف الدبلوماسي بدولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1992 - - أي قبل عام من توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبعد عام من انعقاد مؤتمر مدريد للسلام - - على أن القرار الهندي إنما كان ينتظر فقط فرصة فلسطينية أو عربية سانحة لتغيير موقفه الاستراتيجي لعوامل هندية خالصة.
يوم الخميس الماضي، وقعت "الكلية الدولية للدراسات الأمنية" في نيودلهي و"الكلية الإسرائيلية للأمن والتحقيقات" مذكرة تفاهم لإنشاء كلية للتدريب الأمني والاستخباري في العاصمة الهندية. وفي السادس من الشهر الجاري، استهلت "ذى تلغراف" الهندية تقريرا لها من القدس المحتلة بالقول: "تصوروا ذلك! إن جنرالات الجيش الهندي يتلقون محاضرات حول حقوق الإنسان من نظرائهم الإسرائيليين"، للاسترشاد بها في مهماتهم "ضد الإرهاب" في جامو وكشمير. والخبران ليسا إلا مجرد قمة جبل الجليد الظاهرة لحجم العلاقات الاستراتيجية "الدفاعية" والأمنية والاستخبارية التي تطورت في سرية كاملة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين دولة عريقة في صداقتها للعرب ورائدة في دعمها للقضية الفلسطينية مثل الهند، بينما كل الأضواء مسلطة على "عملية السلام" العربية الإسرائيلية.
وحسب "التلغراف" الهندية، كان أحد المحاضرين في الجنرالات الهنود دانييل ريسنر، الكولونيل الحالي في قوات الاحتياط الإسرائيلية الذي كان يرأس الدائرة القانونية الدولية في جيش الاحتلال، والذي أعاد كتابة "قواعد الاشتباك" مع رماة الحجارة الفلسطينيين لكي يفتي بأن سياسة الاغتيالات (الإعدام خارج القانون) واستخدام كل وسائل التحقيق لانتزاع الاعترافات من الأسرى الفلسطينيين هي سياسة "مشروعة"، والذي نفى أن يكون جيش الاحتلال قد ارتكب أي انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء العدوان الشامل على قطاع غزة أوائل عام 2009 ودافع عن استخدام البلدوزرات العسكرية لاقتحام بيوت المدنيين الفلسطينيين، وقد أبلغ ريسنر الجنرالات الهنود بأن سياستهم في كشمير "لن تنجح إلا إذا قرروا عزل أعدائهم المدنيين عزلا كاملا مثلما تفعل إسرائيل الآن في قطاع غزة بعد صعود حماس إلى السلطة فيها"، على ذمة "التلغراف"!
والهند ومنظمة التحرير الفلسطينية كلتاهما تنفي أن تكون العلاقات الفلسطينية – الهندية قد تأثرت سلبا بالعلاقات الهندية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهذه علاقات وصفها رئيس وزراء دولة الاحتلال الحالي، بنيامين نتنياهو، بقوله: "إن روابطنا مع الهند ليس لها حد"، ووصفها أكاديمي أميركي (هارش في. بانت من كلية العلوم السياسية بجامعة نوتردام الأميركية) بأنها "تبدل ميزان القوى، ليس فقط في جنوب آسيا والشرق الأوسط، بل أيضا في القارة الآسيوية على اتساعها"، وهي علاقات لا يتردد كثير من المحللين الغربيين بوصفها أنها جزء لا يتجزأ من "محور أميركي – هندي – إسرائيلي ضد الإرهاب".
خلال زيارته الأخيرة لنيودلهي، لم يكن أمام الرئيس محمود عباس الذي وقع اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ بواشنطن عام 1993) أي خيار سوى الدفاع عن استراتيجيته عندما سأله الصحفيون عن العلاقات الهندية المتنامية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ليقول إنها "لا تثير قلق الفلسطينيين" وإنها "قرار سيادي" هندي. لكن وزير خارجية سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني الأسبق، نبيل شعث، كان أقل دبلوماسية من عباس أثناء زيارته للهند أواخر الشهر الثامن من عام 2003، بعد أن كشفت الزيارة التي قام بها رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق آرييل شارون للهند حجم العلاقات السرية التي تطورت إلى علاقة "دفاعية" استراتيجية. ففي مقابلة مع "ذى هندو" قال شعث إن "البيروقراطيين والسياسيين على أعلى مستويات صنع القرار السياسي في الهند يعتقدون بأن أمن الهند يمكن تعزيزه في المستقبل فقط بإقامة علاقة استراتيجية ثلاثية الأضلاع مع الولايات المتحدة وإسرائيل."
وما قاله شعث قبل سبع سنوات قد تحول الآن إلى سياسة هندية رسمية معلنة، وهي سياسة تضع الهند في خندق واحد مع الدولتين الوحيدتين المدانتين عربيا وفلسطينيا وإقليميا وإسلاميا كقوتي احتلال في فلسطين والعراق وأفغانستان، وهذا تخندق هندي مثير لقلق عربي وفلسطيني عميق، بعكس ما أعلنه عباس، وهو بالتأكيد ليس أساسا موضوعيا لصدقية عدم انحياز الهند المعلن كسياسة رسمية، بقدر ما يشكك في صدقية الخطاب الرسمي الهندي المعارض للاحتلال و"المتضامن" مع الخاضعين للاحتلالين الإسرائيلي والأميركي.
ويتساءل المراقب عما إذا كانت الهند سوف تعتبر أي علاقة لأي دولة عربية أو لمنظمة التحرير مع باكستان أو مع كشمير الهندية مماثلة للعلاقات الهندية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قرارا "سياديا" عربيا وفلسطينيا "لا يثير القلق".
* إرث المهاتما غاندي
في أواخر شباط / فبراير الماضي خاطب رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ مجلس الشورى السعودي بالرياض قائلا: "لا توجد أي قضية أكثر أهمية للسلام والاستقرار في المنطقة من قضية فلسطين. وإنني أغتنم هذا الفرصة لتكرار الدعم المبدئي والقوي والثابت لحكومة الهند وشعبها لنضال الشعب الفلسطيني". وفي الثامن من الشهر الجاري أكدت السيدة فيجايا لاثا ريدي، نائبة وزير الخارجية الهندي، على هامش الجولة الخامسة للاجتماعات التشاورية للمنتدى العربي الهندي بالقاهرة، بأن علاقات بلادها بدولة الاحتلال الإسرائيلي "لا تؤثر في علاقاتها بالدول العربية"، ولا "في دعم ومساندة الهند للقضية الفلسطينية".
لكن مثل هذه التأكيدات لم تعد تستقبل عربيا وفلسطينيا بأكثر من الترحيب الذي تقتضيه الأعراف الدبلوماسية. فحجم العلاقات الهندية – الإسرائيلية، وسرعة نموها، وسريتها، ومضمونها "الدفاعي" الأمني، وكونها جزء من محور ثلاثي مع الولايات المتحدة، وكون "مكافحة الارهاب" هو أساسها دون أي تمييز هندي واضح وصريح بين الإرهاب وبين المقاومة العربية والفلسطينية للاحتلالين الإسرائيلي والأميركي، هي جميعها وغيرها عوامل لا تمثل أساسا موضوعيا للثقة العربية والفلسطينية في التصريحات الرسمية الهندية التي تنفي أن يكون للعلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تاثير في علاقات الهند مع الدول العربية وفي تضامنها مع الشعب الفلسطيني.
ومكافحة الإرهاب هي المسوغ الرئيسي الذي يسوقه صانع القرار الهندي لتبرير الانقلاب الاستراتيجي في سياسته الخارجية، وهو انقلاب وصفه رئيس قسم الثقافات والحضارات الهندية ب"جامعة إنديانا في بلومينغتون" الأميركية، سوميت جانجولي، بأنه انقلاب "أخلاقي" أيضا: "خلال معظم الحرب الباردة، كان لسياسة الهند الخارجية أساس أخلاقي أصيل" دعم بقوة عملية إزالة الاستعمار وعارض بلا هوادة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا "ودافع عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير"، لكن "منذ انتهاء الحرب الباردة، وبالرغم من الاستمرار في خطابها الأخلاقي، وجدت سياسة الهند الخارجية نجما قطبيا هاديا جديدا هو: السعي دون مواربة وراء المصالح الذاتية" كما كتب جانجولي (الوول ستريت جورنال في 29/7/2010).
ولأن العلاقات الهندية الإسرائيلية تتخذ من مكافحة الإرهاب عنوانا لها يسوغها، تقع على الهند مسؤولية تبديد الشكوك الفلسطينية بأن هذه العلاقات لا تعني تصنيف المقاومة الفلسطينية "الإسلامية" للاحتلال الإسرائيلي في خانة الإرهاب، كما يروج إعلام دولة الاحتلال. إن الشكوك الفلسطينية في انعكاس الاتفاق الهندي الإسرائيلي على مكافحة الإرهاب سلبا على المقاومة الفلسطينية للاحتلال هي شكوك وطنية فلسطينية لا تقتصر على حركة المقاومة "الإسلامية" حماس.
وبالرغم من حجم الوجود الإسلامي الكبير في الهند الذي جعلها تعتبر نفسها أهلا لمقعد في منظمة المؤتمر الإسلامي طلبته ولم تحصل عليه، فإن عمق تضامن الشعب الهندي مع الشعب الفلسطيني وأسس العلاقات التاريخية العريقة بين الشعبين ومرجعية دعم الهند الرسمي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني جميعها حقائق تعود إلى موقف وطني هندي أكبر كثيرا من حجم المسلمين في الهند، فتضامن مسلمي الهند مع الشعب الفلسطيني هو إضافة هامة إلى الدعم الهندي وليس أساسا لهذا الدعم، فالمهاتما غاندي غير المسلم هو الأساس، ومن المؤكد أن أي تخل عن إرث غاندي في السياسة الخارجية الهندية تجاه القضية الفلسطينية سيكون خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني، لكنه إن حدث سوف يقود بالتأكيد إلى بحث فلسطيني عن تضامن مسلمي الهند.
إن الانقلاب الاستراتيجي في سياسة الهند الخارجية على الأساس المبدئي الأخلاقي المستوحى من إرث المهاتما غاندي الذي عارض الصهيونية كأيديولوجيا وكحركة سياسية، وآمن بأن فلسطين تنتمي الى العرب "بالمعنى نفسه الذي تنتمي فيه انكلترا للانكليز وفرنسا للفرنسيين" وأن "من الخطأ فرض اليهود على العرب" لأن "إقامة وطن قومي" لليهود في فلسطين، "جزئيا أو كليا" سوف يكون "بالتأكيد ... جريمة ضد الإنسانية"، .. إن هذا الانقلاب لم يستطع بعد أن يتحرر في خطاب سياسته الخارجية من إرث غاندي، وهو خطاب ما زال على سبيل المثال يستخدم مصطلحات مثل "القضية الفلسطينية" و"قضية فلسطين"، وهما مصطلحان تخلى عنهما الخطاب الرسمي العربي والفلسطيني في بياناته الرسمية التي استبدلتهما ب"قضية الشرق الأوسط" أو "قضية السلام في الشرق الأوسط"، لكنه احترام لفظي يتناقض تماما مع التغيير الاسراتيجي من الانحياز المبدئي والسياسي لعدالة القضية الفلسطينية إلى الحياد السلبي المدفوع بالمصالح المجردة فقط.
إن فلسطين ليست كشمير. فالهند نفسها وباكستان وبنغلادش وكشمير هي شظايا شبه القارة الهندية التي نجح الاستعمار البريطاني في تقسيمها على أساس طائفي، لكن فلسطين أرض محتلة وتقسيمها الحالي ناتج عن احتلال أجنبي لا عن تشظي طائفي. لذلك فإن ما يوحي به الاتفاق الهندي – الإسرائيلي على "مكافحة الإرهاب" من مقارنة غير موضوعية وغير عادلة بين احتجاجات في كشمير من أجل تقرير المصير الطائفي وبين المقاومة الفلسطينية من أجل التحرر وتقرير المصير الوطني هي مقارنة ظالمة للهند نفسها، فهي ليست قوة أجنبية محتلة في كشمير، فلماذ تجد لنفسها "قضية مشتركة" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي؟ فما هي القضية المشتركة حقا بين دولة علمانية كالهند وبين دولة تصر على هويتها الدينية كإسرائيل؟ إن انعدام الشفافية في العلاقات الهندية – الإسرائيلية والسرية التي تتسم بها وطابعها الأمني إنما يخلق مساحة غموض واسعة تثير الكثير من الأسئلة العربية والفلسطينية المشروعة التي ما تزال دون أجوبة.
إن علاقات الصداقة والمصالح المتبادلة العربية والفلسطينية التاريخية التقليدية مع الهند، التي انقلبت عليها السياسة الخارجية الهندية الراهنة، وحجم المصالح العربية الهندية الحالية التي لا يمكن لهذه السياسية الهندية أن تكون ضمانة موضوعية لنموها وتطورها، وإدراك العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون لمدى اتساع التأييد والصداقة لهم في أوساط الشعب الهندي العظيم، هي العوامل التي تحول دون القلق العربي الراهن من التغيير الاستراتيجي في السياسة الخارجية الهندية والتحول إلى نهج سياسي ليس صديقا للهند، على أمل أن يكون هذا التغيير مجرد انحراف عارض سرعان ما يصحح مساره.
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
0 comments:
إرسال تعليق