كاتبٌ وباحث فلسطيني
كثيرة هي الشخصيات الإسرائيلية والصهيونية التي خدمت المشروع الصهيوني، وقدمت الكثير للوصول إلى حلم الدولة الإسرائيلية، وحمايتها وتحصينها وتمكينها بكل أسباب القوة والتفوق، وإمدادها بالسكان والمستوطنين، وتزويدها بالسلاح والمال والعتاد، وخلق المناخات الدولية الحامية والحاضنة والضامنة لأمنها ومستقبل وجودها، ولكن مناحيم بيغن، زعيم عصابات الهاغاناة الصهيونية، التي شكلت عصب الجيش الإسرائيلي بعد ذلك، ورئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم حزب الليكود الأسبق، وأحد أبرز المتشددين في مركز حيروت، يعتبر من أهم الشخصيات في تاريخ الدولة العبرية، منذ ما قبل التأسيس وحتى نشوء الدولة، وتكون جيشها، وتنامي قوتها، وبناء سلطتها، وتشكيل علاقاتها وتحالفاتها الدولية، وتنفيذ مخططاتها، وتوسيع مشروعها، وتكريس وجودها، وترسيخ أقدامها في المنطقة كقوةٍ عسكريةٍ فاعلة، قدم خلالها بيغن إلى جانب عشرات الشخصيات الصهيونية جهوداً لافتة وكبيرة مازالت آثارها إلى اليوم بادية، وجعلت منه أحد أهم الرموز الإسرائيلية، التي امتازت بالقوة والعناد، والمثابرة والإصرار، وقد ورَّث بيغن أفكاره لنجله بيني، الذي لا يقل عن والده تطرفاً وتشدداً، وزرع أحلامه في عقل بيبي الذي يتطلع لأن يكون وريث بيغن، فأصر على أن يكون نجله بيني بيغن رفيقاً له في الحزب والحكومة وفي مسار تنفيذ سيل الأحلام والمشاريع والأطماع والطموحات الإسرائيلية.
ولعل أهم ما قام به مناحيم بيغن بعد المساهمة في تأسيس الدولة العبرية، قيامه بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، بعد أن وافق على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء المصرية، مفككاً ما بنته الحكومات الإسرائيلية فيها من مستوطناتٍ ومطاراتٍ عسكرية، وقواعد ومعسكراتٍ عديدة للجيش الإسرائيلي، في سابقةٍ لم يكن يتوقعها أحد من زعيمٍ إسرائيليٍ يمينيٍ ليكوديٍ متشدد، ولكن مناحيم بيغن كان يدرك أنه بتوقيعه اتفاقيةً للسلام مع الحكومة المصرية، فإنه يخرج أهم وأقوى دولة عربية من دائرة الصراع، ويحيدها عن المعركة، ويبعدها عن ميزان القوى معها، ويجعل الأطراف العربية الأخرى ضعيفة بغير مصر، فيمكن الحكومات الإسرائيلية من فرض شروطها، والمضي في مشاريعها، ومواجهة خصومها دون خوف، وسحب فرقها العسكرية من على جبهة سيناء، وإعادة تموضعها على جبهاتٍ خطرة أخرى، وليكون بإمكانها فتح جبهات قتالية جديدة، كما فعل بغزوه لبنان في يونيو 1982، وإخراجه قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بعد أن ضمن جمود مصر، وعدم إمكانية تحريك قواتها المسلحة لنجدة أو نصرة أشقاءها العرب، فكان ما صنعه مناحيم بيغن في كامب ديفيد، نقطة تحولٍ كبرى في تاريخ الدولة العبرية، كان لها نتائج وآثار بعيدةٍ المدى على أطراف الصراع مع الكيان الصهيوني.
فقد نجح مناحيم بيغن في إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، ونأى بها عن المواجهة، وأحال جبهة سيناء من ساحة مواجهة إلى مناطق سياحية، ومنتجعاتٍ صيفية، يرتادها السواح الإسرائيليون وغيرهم من شتى أنحاء العالم، بعد أن منع أي وجودٍ عسكريٍ مصريٍ فيها، اللهم إلا ما يكفي لحماية الحدود، وضمان الأمن، ومنع التسلل، وقد نعمت إسرائيل بهذا الأمن سنيناً طويلة، ولم يعكر صفو أمنها سوى عملياتٌ عسكرية معدودة ومحدودة الأثر، لم تؤثر كثيراً على جوهر الهدف الذي كان بيغن يتطلع إليه.
ولكن بنيامين نتنياهو وريث بيغن، والأمين على أحلامه وأطماعه وطموحاته، مطالبٌ في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر، بالحفاظ على مصر بعيدة عن المواجهة، فلا يقع فيها شئٌ يهدد استقرار واستمرار الاتفاقيات الموقعة معها، بما قد يعرض أمن إسرائيل للخطر، ولذا فهو وحكومته قلق على مستقبل الأوضاع في مصر، ومعنيٌ إلى درجة كبيرة باستتاب الأمن لجهة انتقال الحكم، فلا تقع فوضى تسقط كامب ديفيد، وتذهب الأمن الذي حظيت به إسرائيل على مدى أكثر من ثلاثة عقود، والسلم الذي نعم به مواطنوها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو قلقٌ كبير يؤرق القادة الإسرائيليين، من الفوضى التي قد تعيد الخوف على أمنها وسلامة مواطنيها على الجبهة المصرية، والتي قد تضعف السلطة المصرية الحاكمة، التي احترمت الاتفاقيات على مدى السنوات الماضية، فتثب إلى الحكم جماعاتٌ وأحزاب تعادي إسرائيل، وتدعو إلى إبادتها واستئصالها وشطب وجودها عن الخارطة السياسية، الأمر الذي سيعيد إسرائيل إلى مربعات الصراع الأولى، وسيجعلها في مواجهة حقيقية ومباشرة مع شعب أكبر وأقوى دولة عربية.
لذا فإن مهمة نتنياهو في ظل الصعوبات والخطوب التي يواجهها وحكومته، أن يطمئن إلى عبور مصر إلى المرحلة التالية، في ظل الحديث المتكرر عن تدهور صحة الرئيس المصري محمد حسني مبارك، فيكون انتقالاً آمناً ومستقراً، سهلاً وسلساً، بما لا يهدد اتفاقية كامب ديفيد بالسقوط، ولا ينقب الجدار الآمن الذي بني بين البلدين منذ سنين، ولا يعيد مصر إلى موقعها الحقيقي المدافع عن الأمة، والمتصدر لكرامتها وعزتها، ولذا كانت زيارته إلى القاهرة، ومن قبل زيارة رئيس الكيان شيمعون بيرس، ليطمئنا على أنه لا خطر يتهدد إسرائيل في مرحلة انتقال السلطة، رغم أن مستشاريه الأمنيين والسياسيين يبدون قلقاً كبيراً إزاء مستقبل الأيام في مصر، ويخشون من عدم القدرة على انتقال السلطة انتقالاً سلمياً، ويشككون في قدرة الخلف على الالتزام بالاتفاقيات الموقعة، وحماية السلام الهش القائم بين البلدين، ولهذا يكثرون من نصائحهم لرئيس حكومتهم بضرورة مراقبة الأوضاع في مصر، ومتابعة التطورات العامة والخاصة بصحة الرئيس المصري، وعدم الركون إلى الآليات المصرية الذاتية وحدها في تسيير أمور الانتقال، وإنما الطلب من الولايات المتحدة الأمريكية، ضرورة متابعة ما يجري في مصر، وأن يكون لها الكلمة الفصل فيما يتعلق بالسلطة، بما يحمي الاتفاقيات الموقعة، ويضمن استمرار حالة السلم البارد القائمة، وإلا فإن إسرائيل وحكومتها ستقع في مأزقٍ كبير، وستصبح في مواجهة الدول الإقليمية الثلاثة الكبار، تركيا وإيران ومصر، فهل تنكث مصر غزل بيغن، وهل يعجز نتنياهو عن حماية شعث كامب ديفيد، وتعود مصر من لتغزل المواقف العربية العزيزة من جديد.
0 comments:
إرسال تعليق