ثانيا: في أستراليا..12
ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وإن إقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر.. سأفعل ذلك لإستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات العمر اللي فات..
دعونا الآن نكمل الحكاية..
توقفت فترة عن كتابة الذكريات لانشغالنا جميعا لما يحدث للمسيحيين سواء في مصر او ما حدث ويحدث في العراق..
لكن الأيام تجري وأنا ارقض معها وأريد أن أنتهي من كتابة الذكريات لأخلد إلى الراحة والأبتعاد عن القلم وما يسببه لي من قلق مستمر على ما يدور حولنا من احداث سواء في أستراليا او مصر خاصة والعالم عامة. وهذا لا يعني ان العالم وأستراليا ومصر وما يحدث يكون قلمي هو السيف الذي اخوض به القتال.. قتال الاصلاح وبث روح المحبة بين الناس.. لكن انا مجرد فرد مشغول بهم وطني مصر ووطني أستراليا. ومع ذلك سأحاول ان انتهي من ذكرياتي في أستراليا في القريب وابدأ في ذكرياتي عن الإعلام المصري في أستراليا خاصة والعربي عامة.. وهذا سيأخذ بدون شك فترة اخرى.
توصلنا في الذكريات الماضية الى اصراري على ترك مستشفى كانتربري وتوقيعي على مسؤوليتي الشخصية مغادرة المستشفى والذهاب الى المنزل.
ما أحلى الرجوع اليه.. لم أجد كلام وأنا اخطو اول خطوة لي داخل المنزل غير ان اشكر الله واردد ما أحلى الرجوع إليه.. حقا الحمد والشكر لله الذي نجاني من موت محقق والعودة إلى الحياة الطبيعية على الرغم من انني لم اكن قد تعافيت تماما.. لكن دكتور ووكر بدأ معي العلاج التأهيلي للعودة إلى الحياة العملية بارسالي إلى مستشفى آخر (ليدكمب هوسبيتل) حيث خضعت الى نظام تدريبي رياضي لاستعيد القدرة على الحركة والعمل وتقوية عضلة القلب بالذهاب كل يوم والعودة بعد انتهاء التدريب الى المنزل، ساعد ذلك على عودتي الى العمل بعد اطول فترة قضيتها بدون عمل منذ ان وطأت قدماي ارض أستراليا.
بعد عودتي إلى العمل وفي اليوم الأول طلبني نائب المدير، سألني عن حالتي الصحية وعن قدرتي على العمل.. أخبرته بكل شيء وبموافقة الطبيب المعالج على العمل العادي الطبيعي الذي كنت أمارسه قبل الذبحة الصدرية. ومع ذلك عرض علي عرضاً آخر..
كما سبق وذكرت ان العمل مستمر على مدار 24 ساعات في ورديات يكمل بعضها البعض بحيث لا يتوقف العمل لحظة واحدة. فكانت وردية الساعة السادسة صباحاً والتي تستمر إلى بعد الثانية بعد الظهر.. يليها وردية الساعة الثامنة صباحاً والتي تستمر إلى بعد الثالثة بعد الظهر.. تليها وريدة الساعة الحادية عشر صباحا ولمدة 6 ساعات فقط ووردية بعد الظهر تبدأ الساعة الثانية وتنتهي بعد التاسعة مساء، ثم وردية الليل التي تبدأ في العاشرة مساء وتنتهي في السادسة صباحا. عملت في كل تلك الورديات ما عدا وردية الساعة 11 صباحاً والساعة السادسة مساء لأنهما ورديتان PartTime .. وكان يصرف لنا مبلغ اضافي لكل وردية على ما اتذكر 10 او 15 في المئة من الراتب ووردية الليل 30 بالمئة ما عدا وردية الساعة الثامنة صباحا وكانت الحجة في ذلك التوجه الى العمل قبل شروق الشمس بالنسبة لوردية الساعة السادسة صباحاً، وبعد غروب الشمس بالنسبة لوردية الساعة الثانية بعد الظهر وطبيعي المبلغ مضاعف بالنسبة لوردية الليل، وكنت افضل وردية السادسة صباحاً.. لكن نائب المدير العام كان له رأي آخر.. فقد عرض علي عملا ثابتا في وردية ثابتة.. العمل أن استمر في القيام بأعمال الـ SPOI إلى ان يتم تثبيتي وبدون اعادتي للعمل كموظف عادي في دوريات مختلفة ما عدا وردية الليل وتضحيتي بما يدفع من اجر اضافي بالنسبة للورديات الأخرى. وكذلك لا يوجد عمل إضافي بالنسبة لهذه الوردية والذي يتمتع به كل راغب للعمل لمدة ساعتين عند الحاجة لبقية الورديات.. يعني خسارة مادية مضاعفة إن كان بالنسبة لما يدفع لبقية الورديات وايضا العمل الاضافي لمن يريد العمل.
شرح لي نائب المدير سبب اختياره لهذه الوردية موضحا انه يهتم بالمقام الأول بظروفي الصحية والاستقرار في وردية واحدة مما يتيح عدم الاستيقاظ المبكر او النوم المتأخر. زاد في عرضه انني سأحصل بصفة دائمة على نسبة زيادة الأجر للعمل الرئاسي الذي سأقوم به.
قبلت على الفور وشكرته على اهتمامه وبدأت العمل بالفعل..
قد يسأل القارئ عن سبب الشرح المطول هذا وماذا سيعود عليه؟! وردي في ان أعود بالقارئ الى ما سبق وكتبته بذكرياتي في مصر وعملي الوحيد بمصلحة الأحوال المدنية منذ نشأتها كقسم تابع لمصلحة تحقيق الشخصية إلى استقلالها التام باسم جديد وهيئة جديدة ومدير جديد وان كان يحمل اسم القائم بأعمال المدير وسأعود واذكر القارئ بحقوق الموظف في مصر وحقوق الموظف في أستراليا.
في مصر وفي الشهور الأولى لبداية عملنا كقسم البطاقات الشخصية وانتقالنا الى عمارة يوسف الجندي وتولي رئاسة القسم بكباشي كان رحمه الله يظن نفسه رئيساً مثل البكباشي عبد الناصر.. طلب منا العمل الاضافي من الساعة الخامسة بعد الظهر الى السابعة مساء وبدون أجر. نفذنا ذلك.. وحدث انه خرج من مكتبه فوجد احد الزملاء واقفا قبل الموعد بخمس دقائق فأمر بعدم السماح لنا بالتوقيع بالانصراف إلا في السابعة والنصف.. وتكرر التأجيل لنفس السبب حتى وصل الأمر الى الانصراف في التاسعة مساء.. اربع ساعات عمل إضافي وبدون أجر.. إلى ان اجتمع بنا وحدث ما حدث بيني وبينه في ذلك الاجتماع.
عندما اضيف عمل بطاقة التموين الينا (وكنا قد اصبحنا مصلحة مستقلة) جمعنا نائب المدير العام العميد انور حبيب في ذلك الوقت واخبرنا بأننا سنعمل لمدة ساعتين بعد الانتهاء من العمل مباشرة باجر إضافي يصل الى 30 بالمئة من المرتب، صفقنا وفرحنا.
بدأنا العمل وبعد الأسبوع الأول اجتمعت بالمجموعة التي تعمل معي وكان عددهم 15 موظفاً وقلت لهم:
- ابتداء من الأسبوع المقبل سأضع جدول ببقاء احدنا في المكتب بدلا منا في فترة العمل الاضافي ليقوم بالتوقيع بالانصراف للباقين.. لأنني متأكد من انه لن يصرف لنا اي مرتب عن هذا العمل.
سألني احدهم:
- وماذا عن الشاويش التوبتخي الذي بيده دفتر الانصراف؟
- سأتصرف معه.. وعلى كل واحد منا ان يتفاهم معه بسيجارة أو كوب شاي.
وبالفعل استمر الحال هكذا حتى انتهت الفترة المحددة.. وبعد فترة صرفوا لكل موظف 10 جنيهات في عمل إضافي استمر لاكثر من ثلاثة اشهر ولرؤساء المناطق 18 جنيها فقط لا غير وللمفتشين مائة جنيه لكل منهم مع العلم انه لم يكن يبقى في العمل الأضافي منهم سوى واحد بالتناوب و كان من الطبيعي ان تحدث حالة تذمر.. ورددت عليهم:
- احمدوا ربنا.. انا كان عندي بعد نظر.. واعتقد ان ما اخذتوه فيه الكفاية وأكثر لعمل اسبوع واحد.
رد علي زميل:
- ولكن كنا ننهي العمل المفروض عمله في الوقت الاضافي أثناء وقت العمل العادي!
- ودا طبعا يثبت إننا يمكن أن ننتج أكثر
انتهى الأمر على هذا الأساس.. لكن اتمنى ان اكون قد اوضحت النقطة التي اريد ايضاحها عن حقوق الموظف في مصر والدول العربية وحقوقه في الدول الغربية.. واتمنى ان يعي العرب المهاجرون بالدول الغربية ان يحافظوا على ما اكرمهم به الله في غربتهم من احترام حصولهم على حقوقهم الكاملة بغض النظر عن جنسهم او دينهم او لونهم.
أعود إلى عملي في أستراليا وقبولي لعرض نائب المدير العام، في الحقيقة سعدت بالعمل.. لكن بعد فترة بدأت أشعر بالتعب لوقوفي طوال فترة العمل .. وفكرت في إلغاء عملي والعودة إلى عملي السابق مع بقاء إسمي بالقيام باعمال إدارية كتابية وغالبا في وردية الساعة السادسة صباحاً.
وافق المدير الجديد على طلبي وبدأت بالفعل العمل وإستمريت به متنقلا من عمل إلى عمل إلى يوم 26/6/1986 وكان عملي في ذلك اليوم مراجعة الطرود ووضعها في ذكائب لإرسالها إلى جهاتها المعنية.
قبل الظهيرة رفعت احدى الذكائب وكانت ثقيلة لاضعها في (تانك) .. بعد ان فعلت ذلك أردت ان اتحرك فلم استطع شعرت بإرهاق وتعب.. جرى الموظف المساعد وأجلسني فوق الكرسي ثم أخبر السوبر فيزر الذي اتصل بالطبيب الملحق بالمصلحة والذي ارسل بممرض وكرسي متحرك.
تم الكشف علي ومنحني إجازة مرضية لمدة إسبوعين..
قبل انتهاء المدة وصلني خطاب من القومسيون الطبي العام لتوقيع كشف عام علي..
ذهبت في الموعد المحدد وأجري لي فحصا طبيا دقيقا.. ومنحوني إجازة مرضية مفتوحة.
وصلني خطاب من العمل يخبرني باستمرار صرف راتبي كما هو الى أن يتم النظر في حالتي الصحية.
في اوائل عام 1987 استدعتني الإدارة المالية للمصلحة لعرض ما تم الاتفاق عليه من ناحية احالتي إلى المعاش المبكر ولإختيار صرف المعاش المستحق لي مدى الحياة .التي كانت تتناقش معي سيدة غاية في الاخلاق وكان العرض ان اختار بين اخذ 50 في المئة من المعاش نقدا والخمسون الباقية تصرف لي مع صرف مرتبات الموظفين كل اسبوعين لمدى الحياة.. ويحق لزوجتي بعد الوفاة في الحصول على نسبة من المعاش لها ولأي من البنين او البنات الصغار، او عدم اخذ اي مبالغ نقدية والحصول على 75 بالمئة من المرتب مدى الحياة في اوقات صرف مرتبات الموظفين وايضا يحق لزوجتي وأي من ابنائي القصر نسبة من المعاش عند الوفاة. اخذت الخمسون بالمئة واخذت المبلغ وكنا قد بعنا بيت كينجز جروف واشترينا شقة صغيرة من غرفتين. في نفس الفترة كانت ادارة الهجرة قد وافقت على هجرة شقيقتا زوجتي وصلت الأولى وبعد بيعنا البيت وشراءنا للشقة علمنا بخبر وصول الشقيقة الاخرى والعائلة مما دفع بي للبحث عن بيت كبير للبقاء معنا حتى يقوم زوجها المدير العام باحدى الشركات في مصر بمعادلة بكالريوس التجارة، الحاصل عليه منذ سنوات عديدة.
أخذت ابحث وابحث ولكن جنون الاسعار بدأ يرتفع مما اضطرني للذهاب الى احياء لم نكن نفكر السكنى بها لبعدها الى حد ما..
اخيراً اشترينا منزل من 4 غرف في حي ماكواري فيلد وجاءت الاسرة بسلامة الله وبقينا سويا لمدة 6 أشهر فقط وبدأت اسرة شقيقة زوجتي في البحث عن سكن لهم.
تم لهم ذلك وكانت زوجتي ما زالت تعمل فقررنا ترك المنزل واستئجار شقة قريبة من عملها. لذا عندما قررت اخذ الـ 50 بالمئة فقد كان لغرض دفع ماتبقى علينا للبيت وزواج ابني مجدي بعد تخرجه وحصوله على بكالرويوس في العلوم الرياضية بامتياز مع مرتبة الشرف وكان قد التحق بالعمل بهيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية Telstra ولم يكن قد انهي دراسته، وقد سمحوا له بالذهاب الى الجامعة في الترم الأخير.
جاءني يخبرني ان استاذ أحد المواد وبالجامعة (جامعة ولنجونج) هو نفسه عميد جامعة (برزبن) طلب منه..
والى اللقاء مع ذكريات العمر اللي فات.
0 comments:
إرسال تعليق