رحلت سنة 2010 ومعها انعكاسات ما جرى على الساحة السياسية اللبنانية؛ فحكومة "الوفاق الوطني"، التي كانت أطاحت بنتائج الانتخابات وجعلت الأكثرية النيابية ترضخ لشروط الأقلية وتعتمد بيانا وزاريا متناقضا مع شعاراتها، لم تعط الثقة المطلوبة للاستمرار لا بل زادت من التشرذم ودفعت بجنبلاط أكثر فأكثر إلى أحضان دمشق، بينما خف وهج العماد عون مسيحيا ولبنانيا بالرغم من استمرار حزب الله في هجومه باتجاه المزيد من المكاسب على حساب الدولة القادرة.
أما على صعيد التحضيرات العسكرية فقد شهدت السنة نفسها تصعيدا في التهديدات والتهديدات المضادة بين إسرائيل وحزب الله ومزيدا من التدريبات على كافة السيناريوهات والمناورات ما ضبط جموح الفريقين لتنحصر التحديات في المنازلات الصحافية والتسريبات حول المعارك القادمة بالرغم من أن حادثة عديسة، التي كانت صفعة للمؤسسة العسكرية اللبنانية والتي جاءت بعد سلسلة التحرش بقوات اليونيفيل، كادت أن تطيح بالهدنة التي فرضها القرار الدولي 1701 وتعيدنا إلى أجواء الحرب الفعلية.
أما على صعيد الخطب الرنانة فقد شهدت هذه السنة تصاعدا في عدد خطب السيد نصر الله والتي تدرجت من مواجهة إسرائيل بكافة الأسلحة والوسائل وفي عمق "فلسطين المحتلة" بقصف المدن والمنشآت وحتى المفاعلات النووية في ديمونة إلى قطع طرق البحر والبر، لتنتهي بمواجهة المحكمة الدولية والداخل اللبناني والسيطرة بالقوة على الشارع وفرض حالة انقلابية عند صدور القرار الظني، وما إلى هنالك من فرضيات ونظريات أسقطت الأقنعة من جهة وأخذت معها الهالة التي رافقت السيد لفترة من الزمن، فكانت ظاهرة التحديات المضادة والحديث عن أجواء المعسكرات المستقلة والأمن الذاتي.
أما على صعيد الحركة الإقليمية وتشعباتها فقد كانت زيارة الرئيس الأسد مصحوبا بالملك فهد إلى لبنان خطوة سعودية باتجاه إعادة سوريا إلى الحظيرة العربية ولكنها لم تؤد مفاعيلها لا بل تركت سلبيات على صعيد عودة التدخلات السورية في الشأن اللبناني وخاصة مذكرات الجلب التي صدرت عن محاكم سورية بحق شخصيات لبنانية مقربة من الرئيس الحريري. وكانت زيارة الرئيس نجاد أضافت من السلبيات بما حملته من رمزية للبعد الإيراني في لبنان وعدم اعتراف النظام الفارسي، أقله في الشكل، بالسيادة اللبنانية على أجزاء من البلاد بما فيها المطار الدولي، ومن ثم جاءت زيارة رئيس وزراء تركيا، التي تحاول استعادة دورها في الشرق الأوسط بواسطة حصان فلسطين وأسطول المساعدات لغزة، لتشكل الوجه الآخر للهيمنة الأقليمية في لبنان وتقاسم النفوذ، وكأن البلد ساحة سائبة أو ملعبا مفتوحا لعرض العضلات، أو كأن الساحة العربية كلها بدأت تستعد لدور الرجل المريض وتوزيع ممتلكاته.
وبقي وضع أهلنا الجنوبيين على حاله فلا الدولة أخذت بوعد رئيس البلاد في قسم اليمين بأن صدرها يتسع لكل أبنائها، ولا خف التشديد على الدخول والخروج من وإلى لبنان، ولا انضبطت المحكمة العسكرية في توزيع الأحكام جزافا وبدون محاكمة، ولم تنته الملاحقات المجحفة بحق المواطنين لا بل زادت تحت شعارات مختلفة. ولم يعد أحد من السياسيين يقارب موضوع المفقودين والموقوفين ظلما في السجون السورية وكأنهم سبب البلايا، وحتى الاحزاب الكبرى التي احتفلت بالعودة إلى الملعب بكل ثقلها لم تجرؤ على ذكر أحد أركانها الذي خطف في وضح النهار وذاب كغيره في سجل المفقودين. وقد كان أضيف إلى هؤلاء أسم جديد هو جوزيف صادر الموظف في مطار بيروت بينما غاب أيضا وفي نفس السجل انفجار الطائرة الأثيوبية وحق ركابها وأهلهم بمعرفة الأسباب كما كانت وئدت قضية طائرة البنين من قبلها.
أما على الصعيد الدولي فقد شكلت المحكمة الدولية والقرار الظني الموعود العمود الفقري لكل التطورات السياسية في لبنان، فحزب الله قرر فجأة بأن المحكمة سوف تطاله وتبرئ سوريا من أية علاقة، ومن هنا التهديدات بالانقلاب على الدولة وتغيير الوضع في البلاد وعودة فترة الفلتان الأمني والتعديات التي تزيد من الفوضى وتشل الحكم إذا لم تستطع السيطرة عليه. وكانت العقوبات على إيران مفتاحا جديدا لحلول الشرق الأوسط التي سيسبقها بالطبع تزايد الأزمات حتى حدود المواجهة. ولكن الأغرب في هذه السنة كان تسريبات ويكيليكس التي أربكت البعض وسهلت للبعض الآخر سبل المواجهات باعتمادها مصدرا للمعلومات حول نوايا الدول تجاه القضايا التي تهمهم.
فماذا ستحمل لنا السنة الجديدة وهل تكون بداية الحلول أم أنها وكغيرها من السنوات سيستمر فيها انتظار اللبنانيين للفرج وتحقيق الحلم بالاستقرار والسلام الذي يعم المنطقة؟
تسارع الأمور وتشابكها يوحي للبعض بأنها تسير نحو التصادم، ولكنها قد تكون، ومع تداخل المصالح في عالم اليوم، مؤشرا نحو الحلول الأثبت، فالحروب التي تحسم المواقف وتنهي الأسباب بالقضاء على الخصم وفرض رضوخه لم تعد أول الخيارات ولا أفضلها، وتقاطع المصالح في مناطق أوسع تفرض أكثر فأكثر دقة في الحسابات ومراجعة عميقة لكل قرار. ويوم يصبح قرار الحرب والسلم في المنطقة متطلبا موافقة إيران وتركيا بالاضافة إلى السعودية ومصر دون أن ننسى الدول الكبرى وحتى الدولتين النوويتين الجارتين الهند وباكستان، يصعب جدا الاندفاع نحو الصدام الشامل لأن اللاعبين كثر والمهتمين بتطور الأوضاع لا يمكن دفعهم بسهولة للموافقة على مثل هذه القرارات، من هنا، ولو بدا الوضع معقدا بعض الشيء، إلا أنه يوحي بالأمل في تجاوز المشكلات المطروحة والتوصل إلى حلول تؤدي إلى المزيد من الاستقرار ولا سيما اعتماد السلام والحوار والدفع نحو تثبيت القانون والحق بشكل أعمق وأوضح للتخفيف من التصادم.
يعتقد البعض بأن بذرة التصادم والمواجهة تكمن في تركيبة البشرية ومن هنا كانت الألعاب الرياضية إحدى المتنفسات لهذه الطاقة التصادمية وقد اعتمدت منذ غابر الأزمنة داخل المجتمعات الواحدة، وبالرغم من محاولة تعميم الألعاب الرياضية والتنافس المجدي على مستوى مجموعة دول العالم والتركيز الاعلامي حولها، إلا أن بذرة الصراع الدموي يبقى لها مؤيدون ويعتمدها بعض الشعوب التي لم تدخل نادي التطور والاستقرار بعد أو التي تكبر عندها الطموحات التوسعية، ويحاول العالم ضبط هذه الصراعات في مساحات محددة تقلل من مفاعيلها، وهي لا بد أن تؤدي في آخر الأمر بأصحابها إلى الاكتشاف بأن أضرارها تفوق الأرباح وعندها تبدأ مرحلة التحول نحو النظام الذي تعتمده بقية الشعوب حيث تقل النزعة التصادمية ليحل محلها اعتماد الانضباط في التصرف وتخفيف الدعوات للتقاتل والتعبئة للحروب. فهل يمكن أن نتأمل بأن منطقتنا على اختلاف شعوبها وتوجهاتها سوف تصل إلى مستوى تقبّل النظام والاعتراف بالآخر واعتماد التعاون بدل التصادم في عالم اليوم وبعد أحداث وحروب جرت ولا تزال فيها؟
السنة الجديدة لا بد أن تحمل لنا بعض الأجوبة إن لم يكن الحلول، فهي لا بد أن تشهد صدور القرار الظني من المحكمة الدولية وبالطبع بعض ردات الفعل المتعلقة به ولو أن سلسلة التهديدات قد نفست قليلا وهج المفاجأة وأفهمت الفرقاء بأن الاتجاه صوب العنف لن يؤدي إلا إلى زيادة الجرم وبالنتيجة تسريع الأحكام التي ستليه. وقد تحمل لنا هذه السنة حلحلة بموضوع المشروع النووي الإيراني الذي كان قمة الانفلاش في تدرج إيران من لعب دور القوة الأقليمية الكبرى إلى دور القوة العظمى التي يحلم بها نجاد، فلما لم يعترض أحد على تدخلها في العراق ولبنان بدأت إيران بالتدخل في باكستان وأفغانستان ولم تلبث أن مدت ذراعها صوب جيرانها في الخليج واليمن لتصل إلى أفريقيا السوداء لا بل تتجاوزها إلى أمريكا اللاتينية حيث تتعاون مع شافيز في فنزويلا وتحاول التقرب من البرازيل، ولكنها لا تزال تخاف من المواجهة الشاملة الحقيقية وتحسب حساب الداخل الهش والذي ينام على ضيم بعد سلسلة القمع التي تعرض لها قسم من أركان النظام وقادة الثورة. فهل تكون العقوبات الدولية مدخلا لكبح جماح نظام نجاد وتخفيض موازنات العمليات الخارجية؟ وهل يكون الكونغرس الأميركي الجديد الذي يقوده الجمهوريون دافعا للتشدد في الملف الإيراني وحافزا لنجاد وحرسه الثوري للقيام بحركة انتحارية؟ أم أن الحكمة الفارسية ستغلب وتدفع باتجاه تثبيت المكاسب والتنازل في المفاوضات للحفاظ على الحد الأدنى منها؟
السنة الجديدة ستحمل بالطبع تغييرات على تصرف حزب الله في لبنان فقد أفل نجم "المقاومة" التي كان اللبنانيون يجمعون على دعمها (ولو بقصر النظر)، وانتهت اسطورة زعمائها "الشرفاء" والوطنيين الذين لا يهمهم الداخل ولا السلطة وهمهم الوحيد "تحرير البلاد" فقد ظهر جليا أن ما أسموه مقاومة لم يكن سوى وحدة عسكرية تابعة لإيران تسللت بمعاونة سوريا إلى داخل الطائفة الشيعية خلال الأزمة والضياع فقبضت عليها وأسرتها وأذلت قادتها ومفكريها وهي اليوم تضعها بمواجهة العالم بدون أي سبب سوى تغطية جرائم ومخططات لا تمت بصلة إلى مصالح البلد أو الطائفة. فهل سيتخذ حزب الله القرار الصائب بتسليم سلاحه إلى الدولة والانخراط فعليا ببناء مؤسساتها ومشاريعها والاعتذار من اللبنانيين على كل الأخطاء التي قام بها ولا سيما محاولة تغطية المجرمين؟ أم أن قبضة الحرس الثوري لا تزال تمنع أي تحرك بهذا الاتجاه؟
اللبنانيون اليوم يعيشون هاجس الفوضى ولا يزال الحكم الغير متجانس، والذي تتحكم به أهواء ومشاريع فئة لا تمت بصلة إلى مصلحة اللبنانيين ولا يهمها مصير البلاد، غير قادر على إضفاء أجواء من الثقة بالمستقبل أو بقدرته على ضبط الأمور، وكأن البلد، بالرغم من تضافر الجهود وإدراك اللبنانيين بأن مصلحتهم تكمن بالاستقرار ودولة القانون والانتهاء من وضع الساحة المفتوحة، لا يزال معرضا للهزات التي تسيرها دول الجوار وتقررها أوامر خارجية. فهل تحمل لنا السنة الجديدة أملا بالتخلي عن الوضع الشاذ الذي يمنعنا من التركيز على مصلحة الوطن والمواطن والتلهي بكل ما عداها؟ أم أنه كتب علينا أن نبقى وقودا لمشاكل الشرق وساحة لصراعات أممه؟
وإذ نتمنى أن يعم السلام والخير هذه البلاد وسكانها نضرع إلى الله عز وجل أن تنتهي أشكال الصراع ويعود كل إلى اتزانه وتتركز الجهود نحو بناء حضارة التعاون وتطوير مجالات الخلق والابداع فتنفتح القلوب وتزول الحواجز وينتشر مبدأ التعاون على الخير ثقافة جديدة تحل محل ثقافة الحقد التي رافقت بلادنا وشرقنا الحبيب قرابة قرن من الزمن.
كل عام وأنتم بخير...
0 comments:
إرسال تعليق