شاهدت منذ أيام برنامج علي قناة "الفراعين" بعنوان "هل مصر فرعونية أم عربية"، و"المصريون عرب أم فراعنة؟"، وكان المتحاورون د. "سيد نصر الدين"- أستاذ إدارة المعرفة باحدي جامعات "كندا- والطرف الثاني الكاتب "محمد عصمت سيف الدولة".
وكان الأول يتبني فكرة "مصر" فرعونية بدراسة أكاديمية وبحثية ومن منظار تاريخي، أما الطرف الثاني فكان يدافع دفاعًا مستميتًا أن "مصر" عربية إسلامية، وأن "مصر" منذ فتحها بواسطة "عمرو بن العاص" أصبحت دولة عربية، أو إمارة عربية تتبع الخليفة. وأكَّد علي عروبة "مصر" وإنها ضمن منظومة الدول العربية، وأن هويتنا عربية إسلامية، وأن كل الناس "بيقولوا إنهم عرب". والدليل الهام علي ذلك أن لنا لغة واحدة عربية، وأن الفاتح "عمرو بن العاص" طرد الأجانب من "مصر"، وأن الدستور المصري نص علي عروبة "مصر"، وأن مقر الجامعة العربية قائم بـ"مصر"، وأن أمين الجامعة العربية مصري.. وطبعًا كلام ليس علمي أو أكاديمي، لكن يهمني في الأمر موضوع اللغة العربية؛ لأنه موضوع اللغة لا يفهمها الأكثرية من شعب مصري، ولا يدرون بأي لغة يتكلمون، وإنهم قالوا لهم: إن لغتنا عربية.
وفي الحقيقة دُهشت جدًا لكلام السيد "محمد" الذي يتكلم بوجهة نظر دينية بحتة, والكلام في الدين لا يعطي للإنسان فرصة للتفكير الصحيح, بل يضعه في حيز ضيق يخالف حقيقة التاريخ. ولي ملاحظة قبل أن احقق موضوع اللغة وهو اعتبار سيادته أن الرومان أجانب لكن العرب ليسوا أجانب فجاءوا ليطردوا الأجانب (واحتلوا مصر بدلها)! والحقيقة أن السيد "محمد" طرح عدة أمور بها أخطاء تاريخية وأكاديمية سنأتي إليها بعد أن ننتهي من موضوع اللغة, ولا أعرف علي أي أساس يتم اختيار المحاورين بقناة "الفراعين"؟؟
أولاً: هل حقيقةً أن الرومان أجانب والعرب ليسوا أجانب؟
هذا منطق أعوج؛ فكل من ليس مصري أجنبي بغض النظر عن جنسيته روماني أو عربي.. وهل نعتبر الجزائري أو التونسي أو المغربي أو...الخ مواطن مصري أم أجنبي؟ وهل يتعامل المصري مع الدول العربية كجنس واحد أم كغريب ويلزم تأشيرة دخول للبلد؟ سؤال يحتاج إلي إجابة.
ثانيًا: يدَّعي بأن اللغة العربية هي المظلة لكل البلاد العربية، وهي التي تؤكِّد علي عروبة كل المنطقة بما فيها "مصر".
وسؤالي: من قال إنك تتكلم العربية؟ وما الدلائل علي صحة كلامك؟ يبدو إنك أخذت الأمور علي علتها دون دراسة أو تفكير..
نحن نتكلم اللغة المصرية الحديثة، وهي الطور الرابع من مصر القديمة وتلي اللغة القبطية مباشرة.
فاللغة ليست مجرد كلمات، وإلا نكون بمثابة معجم أو قاموس. والألفاظ وحدها لا تصلح لغة.. ويظل نظام النحو والصرف المصري هو صاحب البيت كما يظل محتواها الحضاري هو حجر الزاوية الذي تقوم عليه وتواصل مسيرتها.
فاللغة المصرية امتدت وتطورت في ثوب الحروف (العربية) المتطورة عن النبطية، ووليدة اللغة الآرامية.
يقول المؤرِّخ ومحقق التراث الأستاذ "عبد العزيز جمال الدين": ولكن ما يمكننا قوله في هذا المجال- وعلى أساس ما بيدنا من كتب التاريخ مثل كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك لـ"المقريزي"، وكتاب عقد الجمان في تواريخ الزمان لـ"العيني"، وكتاب الفاشوش في حكم قراقوش لـ"ابن مماتي"، وكتاب تاريخ البطاركة لـ"ساويرس بين المقفع": إن اللغـة المصرية القديمة في صوتياتها وتراكيبها وظواهرها النحوية والصرفية، وابداعاتها الأدبية، ظلت حية في لغتنا المصرية الحالية، ذلك أن الشعب المصري احتفظ في وجدانه وتعاملاته اليومية بالتراث الثقافي للغته المصرية...
وللتدليل على ذلك: إنه حين غزا العرب "مصر" كان للمصريين أقدم لغة في التاريخ وهي أم اللغات.. وأن ظروف حياتهم المادية التي تميزت بالزراعة كان لها الدور الأساسي في تشكيل اللغة التي تعاملوا بها ولا يزالون.. فهم لم يتحولوا بالغزو العربي من حياة الزراعة في الصحراء، بل استمروا يستعملون لغتهم بألفاظها ونظام جملها الذي يتلاءم ويتفق مع نشاطهم الزراعي وحياتهم الخاصة.
والكلام للأستاذ "جمال الدين": حقيقةً أن عددًا من الألفاظ العربية قد دخلت اللغة المصرية تمامًا مثل الألفاظ القبطية، وجرت على ألسنة المصريين مثلما دخلتها بعض الألفاظ الفارسية والتركية والفرنسية والإيطالية واليونانية والألمانية والإنجليزية واللاتينية... إلخ، وبالرغم من كلماتها العربية الكثيرة التي دخلت اللغة المصرية، إلا إنهم قد غيروا في صورها وأصواتها وكتابتها، وتم تمصيرها لتتألف مع نظام نطقهم وتخضع لقواعد لغتهم..
فنحن مثلاً في لغتنا المنطوقة لا تستعمل أسماء الإشارة العربية.. هذا وهذه وهذان وهذين وهاتان وهاتين وهؤلاء فلا تقول: (هذا الولد) و(هذه البنت)، بل تقول: (الولد دا) و(البنت دي). ثم إننا مع المثنى المذكر والمؤنث وكذلك مع الجمع المذكر والمؤنث نتعامل باسم واحد هو (دول)، فنقول: (الولدين دول) و(البنتين دول) و(الأولاد دول) و(البنات دول)، وأن أسماء التحديد ثلاثة فقط هي: (دا) و(دي) و(دول)، وهي لا تسبق الاسم بل تأتي بعده.. فاللغة المصرية القديمة لا تتعامل بأية أسماء للإشارة بل تتعامل بأسماء التحديد.. ولا يختلف اسم التحديد باختلاف المحدد أو وضعه في الجملة... وأن هذا النظام الذي نتعامل به في لغتنا المنطوقة الحالية هو نفسه نظام لغتنا المصرية القديمة.
وإذا كنا في الاسم الموصول لا نستعمل "الذي" و"التي" و"اللذان" و"اللذين" و"اللتان" أو"اللتين" و"اللائي"...الخ، ونستعيض عنها جميعًا باسم موصول واحد فقط هو "اللي"، نجد أن المصريين القدماء كانوا يستعملون اسما واحدًا للموصول في جميع الحالات مثلما نفعل الآن تمامًا.
أما المعرَّف بالنداء في لغتنا على المفرد المذكر والمؤنث ثم الجمع بنوعيه.. نقول: "يا ولد" "يا بنت" "يا أولاد" "يا بنات" لا غير .. ولا يوجد معرف بالنداء للمثنى.. مذكرًا كان أو مؤنثًا.. فنحن لا نقول "يا ولدين" و"يا بنتين"، بل ننادي عليهما "يا أولاد" و"يا بنات".
وفي الضمائر لا نفرِّق بين الجمع المؤنث أو الجمع المذكر، فيقال: "هم في البيت" للدلالة على الجمعين، كما لا توجد ضمائر للمثنى الذي يعامل دائمًا معاملة الجمع في اللغة المصرية القديمة، كما هي الحال في لغتنا الحالية.
وتجدر ملاحظة أن جميع اللغات الحديثة الحية قد ألغت صيغة المثنى منها نهائيًا مما يؤكد حيوية اللغة المصرية قديمًا وحديثًا، ومواكبتها لتطور الحياة.
وفي النطق، تتبع العامية المصرية النطق القبطي: يختفي حرف الثاء "ث" من العامية المصرية ويتحول إلى تاء، وذلك لعدم تواجده في المصرية مثل الكلمات الآتية هي كلها أصلاً بالثاء وتحوَّلت: اتنين، تلاتة، تمانية، تعلب، يتمر، متبت، تارن تعبان، توم، توب، تلج، تَمَن، حرت، كتير، تور، تمن.
ويختفي حرف الذال "ذ" وحرف الظاء "ظ" ويحل محلهم حرف الدال "د" ضهر. دبانة، ديب، دبلان، آدان، دبح، داق، ديل، أخد، ودن (أذن)، دٌره، دراع، دقن، دكر، دهب.
تختفي بعض الهمزات أو تتحول إلى حرف "ي" وذلك لقلتها في القبطية: دايم، عدرا، عباية، حداية، أٌمَرا (أمراء)، جدايل، قوايم.
وتتحول النون إلى ميم مثلا: أمبوبة (أنبوبه)، كرمب (كرنب)، امبطح (انبطح)، أمبا (أنبا)، الأمبياء (الأنبياء).
توجد أداة أمر مستقاه من القبطية، وهي (ما) التي تأتي قبل الفعل المبدوء بحرف (ت)، وهي غير موجودة في اللغة العربية وأضيفت عليها في العامية المصرية، مثلاً: ما تيجي، ماتاكلوا، ما تقوم، ماتعدي، ماتشربي.
في بعض مناطق صعيد "مصر" تتحول السين إلى شين أو العكس: (الشم = السمس، شجرة = سجرة، مرسيدس = مرشيدس. جيم معطوشة بيجامة، والجيم المعطوشة جيم عادية جامعة.
وهذا لأن حرف السين والشين كانوا يتبدلان ما بين الصعيدية والبحيرية في اللهجات القبطية في صعيد "مصر"..
وتوجد بعض المناطق التي تنطق الجيم دال (جرجا= دردا)، وهذا من تأثير بعض اللهجات القبطية.
وأيضًا الأفعال، فقد عمد المصريون إلى تجسيد كثير من الأفعال بإضافة بعض الحروف إليها فالفعل "يتعظم" ينطق "يتمعظم" و"يتبختر" "يتمختر"، فإضافة "الميم" إلى أفعال التعاظم أو التدلل أو غيرها بمنحها مزيدًا من الدلالة والتأثير.
ولعل أهم ما طوَّرته اللغة المصرية على ما تتعامل به من أفعال هو زمن جديد لفعل يمثل الاستمرار continuous tense وذلك بإضافة حرف بسيط وهو (الباء) إلى الفعل المضارع، واستعمال كان أو مشتقاتها للتعبير عن فعل الاستمرار في الماضي.. كما في "يشرب" "بيشرب" و"كان بيشرب"..
وتؤثر لغة الحياة السريعة المباشرة في النظام الصرفي مدفوعة بالحاجة إلى التوحيد.. وذلك بتحويل كثير من الكلمات إلى صيغ متشابهة مما يفضي إلى إقصاء العناصر الصرفية الثقيلة النطق أو غير المتداولة، وخلق عناصر جديدة تفرضها الحاجة إلى تعبير جديد، أو انسجام صوتي في الاستعمال..
وأيضًا أوزان الكلمات:
يُلاحظ أن اللغة المصرية قد استراحت في القياس إلى أوزان معينة رأتها أقوى تعبيرًا وأعمق تأثيرًا، فحدَّدت تعاملها مع الأوزان (مفعل- فعيل- وفاعل) أحيانًا.. وفضَّلت عليها "فعال وفعلان" انطلاقًا من خبرتها الخاصة بهذه الأفعال اليدوية، فمالت إلى الوزن "فعال" بدلا من "فاعل"، كما في "شغال" بدلاً من "شاغل" لما يمله من دلالة الاستمرار والإصرار.. كذلك الوزن "فعلان" بدلاً من "فاعل" كما في "جوعان" بدلاً من "جائع" لتجسيد حالة الجوع والشعور به... و"بردان" بدلاً من "بارد" ثم "تعبان" عوضًا عن "متعب" على وزن "مفعل".. ولعل إنهاء الكلمة بالمد مع إضافة النون يحمل معنى دوام الوضع وألم المعاناة بالشكوى..
وفي النفي بنقول: لا أعرفه او ماعرفهوش.. لم أأكل أو ماكلتش
سيأخذنا البحث إلي مقالات عديدة لفض الاشتباك بين اللغة المصرية الحديثة واللغة العربية...
0 comments:
إرسال تعليق