لقد ادخل البحث في مطلب الوعي منذ الوهلة الأولى التساؤل عن ماهية الإنسان إلى صميم التفكير الفلسفي ولقد أيد المعنى الايتيمولوجي هذا الربط بين المعرفة والأخلاق وحازت ملكة الوعي على لقب الضمير.
غير أن الجديد الفلسفي عند ديكارت بالمقارنة مع السابقين هو المعنى البسيكولوجي الذي أعطاه للوعي وذلك بالانتقال من تعريف الإنسان بكونه جوهر ميتافيزيقي وحيوان ناطق يخضع إلى نواميس الكون عند الإغريق والعرب والرومان إلى التعامل معه على أنه ذات عارفة وأنا مفكر وثنائية تتصل فيها النفس بالجسم ولكن النفس تحدد وفق ثلاثة معان:
- النفس هي مبدأ حيوي يغذي ويوجه الجسم.
- النفس موجود روحي متميز عن الجسم وغير فان ويجعل من الإنسان كائنا دينيا وأخلاقيا.
- النفس هي جوهر كل طبيعته أو ماهيته تقوم على الفكر.
على النحو يعرف ديكارت الذات بالاعتماد على الوعي والكوجيتو وإذا كان الوعي هو الإدراك الذاتي والمعرفة التي يتقاسمها المرء مع غيره وينقسم إلى وعي مباشر يرافق كل واحد منا في حركاته وأفكاره ووعي منعكس على ذاته يطرح نفسه في علاقة مع موضوعه سواء كان وعيا بالذات أو وعيا بالعالم الخارجي ووعي أخلاقي وهو ملكة خاصة بالحكم على القيمة الأخلاقية للأفعال بطريقة عفوية فإن الذات تتمثل في الكائن الذي نتكلم عنه بالتعارض مع الصفة التي تحمل عليه أيضا تتحدد في الكائن الذي يكون مبدءا لأفعاله وعارفا أفكاره التي يعرفها بالتعارض مع الموضوع المعرف. غير أن الأهم هاهنا هو اعتبار الكوجيتو جوهر الذات ويقين أول ومبدأ الفلسفة ويربط بين التفكير الشخصي والوجود الذاتي بحيث ينقطع التواجد إذا كف المرء عن الحضور في الذات عن طريق الوعي ويترك المجال لتدخل فرضية ميتافيزيقية حافظة هي فكرة الإله الضامن المتعارضة مع فرضية الشيطان الماكر التي هي مصدر الشك والتضليل.
لكن هل يمكن أن نعرف الإنسان بواسطة الوعي؟ أو هل يكفي الكوجيتو لوحده لتحديد جوهرية الذات؟
إن طرح واقعية الجوهر المفكر قد مكن ديكارت من إثبات سيادة الفكر على مجموع انتاجاته ومن المماهاة بين الفكر والوعي وبين الشك والتحرر وبين الأنا والذات وان المبتغى الذي تحقق هو أن هذا الوعي الديكارتي قد جعل من الإنسان ذاتا منطوية على ذاتها ومشاهد خارج الأشياء ينظر إليها من موقع متعال.
يعلق سارتر على فكرة الكوجيتو الديكارتي:"إن كل ما يتصور خارجا عن هذه الحقيقة الأولية، حقيقة أنا أفكر أنا موجود يقع في عالم امكانيات لا يتصل بالواقع والحقيقة وهو لذلك يذوب في العدم. إننا لا نستطيع أن نحدد الممكن إلا إذا تملكنا الحقيقي الواقعي إذن فمن شروط إيجاد حقيقة ما يجب أن نعتمد حقيقة مطلقة، وهذه الحقيقة بسيطة للغاية: هذه الحقيقة هي في متناول الجميع وهي لا تعني أكثر من أن علينا أن نعي أنفسنا بأنفسنا وبدون أية واسطة كانت"[2].
ان اللافت النظر هو أن الكوجيتو الديكارتي تعرض إلى قراءات متنوعة ومراجعات عديدة من كل الاتجاهات تقريبا سواء كانت تجريبية مثل هوبز وهيوم ولوك و أو مثالية مثل باركلي وفيخته وشيلينغ وهيجل أو نقدية مثل كانط وماركس ونيتشه أو علمية مثل فرويد ولاكان وكلود ليفي ستروس ولكن أهم المنهجيات المعاصرة التي اشتغلت عن كثب على هذا المبدأ هي المدرسة الفنومينولوجية من خلال منهج الوصف والتمعين والتفسير والتأويل والفهم وهي اجراءات متفرقة قام بها هوسرل وسارتر ومارلوبونتي وريكور.
لقد تفطنت الفنومينولوجيا في البداية الى وجود وعي قبل تفكيري هو الذات من حيث هي موجودة في العالم وتحوز على وعي يحضر في العالم وتلقي به نحو الأشياء من أجل إعطائها دلالة وجودية. كما انتبه إلى خضوع الوعي إلى جملة من الشروط الموضوعية عند ظهوره ويرافق عادة ظاهرة الحياة عندما تبلغ درجة عليا من النمو والتعقيد وتحوز على ملكة إحساس ناضجة وتخيل واسع وتذكر عميق ويعكس ثراء البنية العلائقية التي تربط الكائن الفردي بالأسرة والجماعة والطبقة والمجتمع والتاريخ والمطلق اللامتناهي. فهل يمكن أن نفسر الذات تفسيرا متكاملا بواسطة الوعي؟ ولماذا نقوم برسم حد فاصل بين الوعي وموضوعه؟ وألا ينبغي أن نعود إلى الإنسان كما هو موجود العالم قبل كل معرفة مسبقة؟
على هذا" لا يتوانى هوسرل في التأكيد بأننا لا نستطيع إذابة الأشياء في الوعي...إن الوعي يتطهر وهو واضح مثل ريح قوي ولا يوجد شيء فيه سوى حركة هروب منه وانزياح من ذاته."[3]
من هذا المنطلق يكشف مارلوبونتي عن وجود ثلاثة معان للوعي:
1- معنى نفساني ويتمثل في إدراكي لذاتي ككائن مفكر وهي تجربة فورية ويقين مباشر لا يمكنني أن أشك فيه يمنحني الوجود ما دمت أفكر. وهذه الحقيقة الأولى المفهومة تظل هي الحقيقة الوحيدة أو لا تستطيع أن تصاغ كحقيقة ولذلك فهي تختمر في اللحظة ويقع التثبت منها بصمت.
2- معنى مثالي لا يقتصر على فعل التفكير وإنما يتعدى ذلك إلى المواضيع التي يقصدها هذا الفكر وهنا تحصل بداهة ليس فقط بالوجود الخاص بل وأيضا بالأشياء التي يفكر فيها أو على الأقل كما يتمثلها وهنا يكون الكوجيتو هذه البداهة المثالية حيث تكون الذات شفافة تماما بالنسبة إلى ذاتها.
3- معنى واقعي ثابت هو حركة الشك التي تضع بين قوسين كل المواضيع التي تطالها التجربة الإنسانية وتعي ذاتها كتجربة واقعية قائمة الذات ولا يمكن أن تضع ذاتها في موضع شك. إن اليقين الذي تكون الذات عن ذاتها هو إدراك واقعي وعلى الحقيقة.
"ان الكوجيتو هو الحصول على الوعي بهذه الباطنية. لكن كل دلالة هي من هنا مدركة بذاتها بوصفها حركة فكر وبوصفها عملية للأنا المجرد."[4] ألا تمثل هذه الباطنية نوع من الأنانة أو الأناوحدية؟ وكيف السبيل للخروج من الانفصال عن العالم والتعالي عن الجسم الذي يسم الوعي الديكارتي؟
غني عن البيان حسب مارلوبنتي"أن الفكر معطى إلى ذاته وقد قذف بي بشكل ما في الفكر وأدرك ذاتي بذلك. وبهذا العنوان أنا متيقن من أني أفكر في هذا أو ذاك في نفس الوقت الذي أفكر فحسب."[5]
يتمثل التصور الفنومينولوجي للوعي في إشباع العقل في مقابل كثافة المادة وإعادة الاعتبار إلى سمو الشخص بالنظر إلى الفكر بكونه ملقى به في العالم وفي مواجهة الأشياء وهو فكر متحرك نحو جملة من المقاصد وملتزم بجملة بالمهام ولذلك يمكن الخروج من الوعي النفساني والبحث عن كوجيتو كوني خاصة وأن الوعي ليس حدثا متكونا وإنما هو فكر يتحرك ولا يقدر على بلوغ حقيقته المثالية وبالتالي لا يستطيع في كل عملية تفكير أن يقدم جميع شروط تحققه ولذلك يفضل أن يكون الأفق لكل عملياته فحسب. ان"القصدية التي نحن هنا بصددها ليست قصدية وجدان ترنسندنتالي، إنها قصدية حياة كما يقول هوسرل قصدية شخص غائص في أعماق العالم الأصلي لذلك يبحث مرلوبونتي عن مصدرها في الجسد ذاته"[6].
من هذا المنطلق إن الوعي الفنومينولوجي هو وعي قصدي يتجاوز فراغ المحتوى وحالة الانثناء على الذات ويهم بالخروج نحو عالم الأشياء دون مبارحة عالم الذات وذلك بأن يكون لحركة الوعي وجهة ومشروع تنجزه. بين إذن أن "الوجود - يقول هايدغر- هو الوجود في العالم، وافهموا هذا الوجود في العالم بمعنى الحركة. إن الوجود هو الانفجار في العالم ، انه الانطلاق من عدم العالم والوعي من أجل الانفجار فجأة وعيا في العالم."[7]
لكن كيف ينظم الوعي عملياته التفكيرية؟ وما الفرق بين الذات الواعية والموضوعات التي تظهر على سطح الوعي؟ وكيف يستطيع المرء أن يرى في ذاته العالم الخارجي وهو ليس له وعيا واضحا بذاته؟ وكيف يستطيع أن يرى ما يحدث داخل ذاته وهو ليس له وعيا واضحا بالعالم الخارجي؟
إن العمل المميز للوعي يتمثل في حفظ الماضي عبر الذاكرة والانتباه إلى الحاضر عبر التعقل والفطنة وتوقع المستقبل المداهم عبر الافتراض والتخيل ولذلك يفترض الوعي قدرة الذات على رؤية ذاتها بل أكثر من ذلك بعبارة الضمير المتكلم: إني أريد أن أرى أني أرى وذلك لكون الوعي هو القدرة على الترائي والرجوع إلى الذات تماما مثلما يحدث في العملية البصرية لاسيما وأن عمل الوعي ينقسم بين التصور والنظر ويكون إذن أساس الحرية والمعنى ،وفي اختبار الوعي يدرك المرء عمله وكأنه معروض أمامه في خزانة من البلور المضاءة ويتكلم عنه ويصدر بشأنه قرارا نفيا أو إثباتا.
إن الوعي هو بالأساس استعداد المرء للانخراط في تجربة التفكير والنظر عبر المفاهيم والتمثلات نحو العالم والالتزام النقدي بالبحث عن الحقيقة والمعرفة ، وفي الوقت الذي يفكر فيه في المواضيع الخارجية لا ينفك يفكر في نفسه ولا يستطيع ألا يدرك ذاته وعندما يفكر في نفسه لا يمسك نفسه عن النظر في حقائق العالم الذي يندرج ضمنه ويضفي عليه المعنى. وكما يقول مارلوبونتي:"انه داخل ذواتنا نعثر على وحدة الفنومينولوجيا ومعناه الحقيقي...وان الأمر يتعلق بالوصف وليس بالتفسير ولا بالتحليل...وان العودة إلى الأشياء ذاتها يعني العودة إلى هذا العالم قبل المعرفة حيث تتكلم المعرفة دائما عنه."[8]
في النهاية يمكن طرح بعض الاعتراضات مثل :هل يمكن أن يعكس الوعي الذاتي الفردي وعي المجموعة الثقافية التي ينتمي إليها؟ ماذا لو كان شعور المرء بأنه واع مجرد أضغاث أحلام وشعور زائف؟ ألا يمكن التمييز بين الوعي المباشر والوعي المنظور الذي يعطي المرء اليقين إلا بتفعيل التفكير؟ وهل اللاوعي هو عدم القدرة التي عند المرء في تذكر الماضي وصعوبة الانتباه إلى الواقع الحاضر والخطأ في توقع المستقبل؟ وهل يؤدي ذلك إلى استحالة وجود كوجيتو كوني ووعي كلي؟
المراجع:
جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1983.
جان فرنسوا ليوتار، الظاهرتية، ترجمة خليل الجر، سلسلة ماذا أعرف 43، المنشورات العربية.
Jean – Paul Sartre, situations1, Gallimard, 1947.
M. Merleau-Ponty, phénoménologie de la perception, éditions Gallimard, paris, 1945.
M. Merleau-Ponty, le primat de la perception et ses conséquences philosophiques, Bulletin de la société française de philosophie, Armand Colin (oct- dec.1947).
[1] Jean – Paul Sartre, situations1, Gallimard, 1947, p.33.
[2] جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1983.ص.ص.70-71.
[3] Jean – Paul Sartre, situations1, Gallimard, 1947, p.32
[4] M. Merleau-Ponty, phénoménologie de la perception, éditions Gallimard, paris, 1945,p.172.
[5] M. Merleau-Ponty, le primat de la perception et ses conséquences philosophiques, Bulletin de la société française de philosophie, Armand Colin (oct- dec.1947),p.p.129-130.
[6] جان فرنسوا ليوتار، الظاهرتية، ترجمة خليل الجر، سلسلة ماذا أعرف 43، المنشورات العربية، ص.57.
[7] Jean – Paul Sartre, situations1, Gallimard, 1947, p.33.
[8] M. Merleau-Ponty, phénoménologie de la perception, avant propos II- III.
0 comments:
إرسال تعليق