مثلما فعل عندما تباهى أمام 600 حاخام يهودي أميركي أوائل الشهر الماضي بأن الفضل يعود لإدارته في استئناف المفاوضات المباشرة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الاسرائيلي، كرر الرئيس باراك أوباما هذا التباهي باعتباره انجازا لإدارته في السياسة الخارجية قد يساعد حزبه الديموقراطي في انتخابات الكونغرس النصفية الشهر المقبل، لكن انهيار هذه المفاوضات قبل ان تبدأ بسبب فشل إدارته في ممارسة الدور القيادي للولايات المتحدة في كل مكان في العالم باستثناء اسرائيل وبسبب عدم وفائه بوعوده للعرب نتيجة لذلك قد حول هذه الجائزة المجانية التي قدمها له قادة جامعة الدول العربية ورئاسة منظمة التحرير إلى فشل ذريع لإدارته وله شخصيا وربما لحزبه في الانتخابات الوشيكة، وهو فشل أميركي في المقام الأول.
وليس من المتوقع أن يدعي أوباما الفضل في هذا الفشل لنفسه أو أن يحمل مسؤوليته لحكومة دولة الاحتلال في موسم انتخابي خشية خسارة حزبه للأصوات اليهودية، لكنه وأركان إدارته بذلوا كل ما في وسعهم عشية اجتماع سرت الليبية الوزاري نهاية الأسبوع الماضي لجعل العرب يدفعون ثانية ثمن فشله وعجز إدارته بالامتناع عن إعلان فشل المفاوضات المباشرة، وقد كان له ما أراد، إذ بدلا من أن ينهي النظام العربي الرسمي والقيادة الفلسطينية المفاوضة رهانهم على الولايات المتحدة مرة واحدة وإلى الأبد، استنكفوا عن إعلان فشل التفاوض كاستراتيجية وحيدة للتوصل إلى "عادل ودائم" للصراع العربي الصهيوني في فلسطين بعد حوالي عشرين عاما من العمل بها، ومنحوا أوباما وإدارته "مهلة" شهر "للاستمرار في جهودها لتهيئة الظروف المناسبة لإعادة العملية السلمية إلى مسارها الصحيح"، وهي في الحقيقة مهلة لمداراة العجز العربي أكثر منها مهلة لإدارة أوباما وأقل ما يقال فيها أنها استمرار في الصيد العربي بحثا عن اسماك في بحر اميركي ميت لا حياة ترجى فيه.
وبينما فشل المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل خلال جولته الأخيرة في تليين التعنت الإسرائيلي قيد انملة، فإنه خصص باقي جولته لاستباق أي موقف عربي قد يخرج على إصرار إدارته على استئناف المفاوضات خلال اجتماع سرت، وترك لوزارة الخارجية في واشنطن التحذير المباشر لهم، فقبل يومين من اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في لجنة متابعة مبادرة السلام العربية قال الناطق بلسان الخارجية الأميركية فيليب كراولي: "إن ما نريده من الجامعة العربية هو استمرار الدعم للمفاوضات المباشرة" ولم يخف أن بلاده على اتصال مع الدول العربية الأعضاء، "ورسالتنا واضحة: .. نريد أن نرى المفاوضات تستمر".
وكان مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان قد تخلى حتى عن اللباقة الدبلوماسية عندما حذر بلغة تهديد صريح من أن إدارته "توضح للفلسطينيين بأننا لا نعتقد بأن من مصلحتهم الخروج من المحادثات".
ولنقل هذه الرسالة الأميركية الفجة بالتأكيد هاتفت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، الرئيس عباس يوم الخميس، قبل يوم من اجتماع سرت، وفي يوم الاجتماع ذاته هاتفت رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني الذي يراس لجنة المتابعة العربية.
وكانت صحيفة النيويورك تايمز قد ذكرت بأن إدارة أوباما "أقنعت الدول العربية بالتمهل"، مما لا يترك مجالا للتردد في الاستنتاج بأن "مهلة" سرت كانت مهلة أميركية لا عربية، وبأن القرار العربي الرسمي ما زال قرارا أميركيا، بينما ما يزال القرار الأميركي نفسه قرارا اسرائيليا، وبالتالي فإن ما سيحدث بعد انتهاء مهلة الشهر التي اعلنت في سرت سوف يظل أمرا منوطا بالقرار الأميركي – الاسرائيلي.
وفي المقابل، تستمر إدارة اوباما في تقديم "الحوافز" لدولة الاحتلال الإسرائيلي لكي تجنح إلى التفاوض، لابل حتى لتمديد تجميد جزئي للاستيطان "لمدة شهرين إلى ثلاثة" كما قال سفير دولة الاحتلال في واشنطن مايكل أورين للواشنطن بوست، بدل الضغوط،، مما يشجع دولة الاحتلال على الاستمرار في ابتزاز واشنطن لانتزاع المزيد من إذعانها لأجندة التفاوض الاسرائيلية. ألم يعترف أوباما ب"يهودية" دولة الاحتلال تكرارا وهو وكبار المسؤولين في إدارته ؟ وعلى ذمة يديعوت أحرونوت الخميس الماضي، يريد نتنياهو أن ينتزع من أوباما الآن التزاما بتعهدات سلفه بوش الخطية لرئيس دولة الاحتلال الأسبق آرييل شارون عام 2004 حول الحدود والاستيطان واللاجئين، التي وصفها الفلسطينيون في حينه ب"وعد بلفور الثاني"، مقابل موافقته على تجميد جزئي مؤقت للاستيطان!
لذلك فإن "البدائل" التي اشار إليها بيان سرت إشارة غامضة دون أي توضيح لن تخرج عن استمرار الدوران العربي في إطار القرار الأميركي، بدليل أن رئيس دائرة شؤون المفاوضات د. صائب عريقات قد أوضح لوكالة رويترز السبت الماضي بعض هذه البدائل، ومنها النظر في الطلب من الولايات المتحدة أن تعترف بدولة فلسطين على حدود عام 1967، ودراسة امكانية الذهاب إلى مجلس أمن الأمم المتحدة لاستصدار قرار منه يعترف بدولة كهذه.
أما القيادي في حركة فتح ووزير الاعلام الفلسطيني الأسبق، نبيل عمرو، المعتكف في منطقة رمادية بين المعارضة واللامعارضة لإخوانه في الحركة والمنظمة وسلطتها، فقد اضاف في مقال اخير له (الشرق الأوسط) "بديلا" محتملا ثالثا عندما كتب: "قيل إن الرئيس الذي جاهد طويلا من أجل حل الدولتين سيسحب هذا الحل مستبدلا به حل الدولة الواحدة". إن تعليق عمرو على هذا البديل المحتمل الثالث، الذي تعتبره "اسرائيل صيغة دبلوماسية لتصفيتها وانهاء أي احتمال للحل السياسي معها"، كما كتب، يسقطه كحل تفاوضي واقعي. أما تعليقه اللاذع على البديل الثاني الذي ذكره عريقات فغني عن البيان، ف"الذهاب إلى الأمم المتحدة" لن ياتي بجديد أو يغير شيئا في الوضع الراهن، "لأن الأمم المتحدة كانت وعلى مدى عقود موطن القرارات الكثيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، حتى أن أحد اسباب اندلاع الثورة (الفلسطينية) المعاصرة أنها كانت نوعا من التمرد على رتابة المعالجة الدولية للقضية، واستبعاد الحلول السياسية العادلة لها تحت أسقفها".
أما الطلب من الولايات المتحدة أن تعترف بدولة فلسطين على حدود عام 1967 كبديل، فإنه ينسف أي "واقعية سياسية" طالما ادعاها المفاوض الفلسطيني لتسويغ نهجه التفاوضي كاستراتيجية وحيدة للحل، وتسويغ رهانه الخاسر المستمر على حسن النوايا الأميركية. ففلسطين ليست كوسوفو لكي تعترف واشنطن من جانب واحد بدولة لها، وهي ليست أبخازيا أو أوسيشيا الجنوبية لكي تعترف روسيا بدولتها من جانب واحد.
وإن المرء ليحتار حقا في تفسير الأسباب التي تجعل مفاوض منظمة التحرير يفكر حتى في أن "بديلا" كهذا هو ممكن واقعيا وسياسيا، اللهم إلا إذا كان في جعبة أسراره ما لايعرفه غيره، أو أنه عن سابق عمد وتصميم مصر على أن يستمر شعبه في اللهاث وراء الوهم السياسي.
ألم يعد الأميركيون المفاوض الفلسطيني بمفاوضات حول "الوضع النهائي" تنتهي ب"حل الدولتين" عام 1999، ألم يجدد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الوعد بترحيل موعده إلى عام 2005 ثم بترحيله ثانية إلى عام 2008، ثم ألم يرث الرئيس الحالي أوباما الوعد من أسلافه ويحدد له سقفا زمنيا بعامين يقاربان الآن على الانتهاء دون تحقيق الوعد الذي أعرب عن أمله بتحقيقه العام المقبل عندما خاطب الأمم المتحدة الشهر الماضي قائلا إن المفاوضات المباشرة "إذا نجحت" فإنه "يمكننا التوصل إلى اتفاق سوف يقود إلى عضو جديد في الأمم المتحدة – دولة فلسطين مستقلة ذات سيادة". أليست كل هذه الوعود المتكررة الجوفاء اعتراف أمر واقع أميركي بدولة فلسطينية، ومع ذلك تحول عمليا إلى غطاء اميركي لترسيخ الاحتلال بالاستيطان ؟
فهل يمكن أن يثق العرب وبخاصة الفلسطينيون منهم في هذه الوعود وهم يرون الوعد بتحقيقها يتأجل المرة تلو الأخرى، وسنة بعد أخرى، وهل يمكنهم الوثوق بها وهم يرون صاحبها الأميركي أعجز من إلزام ربيبه أو حليفه الإسرائيلي بتنفيذ التزاماته بموجب الاتفاقيات الموقعة المؤقتة والانتقالية ؟ فهل الأميركي الذي يعجز منذ عام 2000 عن إلزام دولة الاحتلال الاسرائيلي بتفكيك حوالي مائة مستوطنة "عشوائية" تقول حكومات دولة الاحتلال المتعاقبة إنها "غير شرعية" لأنها لم تصرح ببنائها، أو الذي يعجز عن إلزامها بالعودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل إعادة احتلالها لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني عام 2002، هل هذا الأميركي سيكون قادرا على الزامها بالتجميد الكامل لكل مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية لنهر الأردن بناء على الطلب الأميركي نفسه لكي تستانف المفاوضات ؟ إن الفشل الأميركي الذريع في انتزاع إجراءات إسرائيلية حتى ل"بناء الثقة" لا يؤهل الوعود الأميركية "الأكبر" بأي مصداقية يمكن أن تجد لها مشترين بين العرب بعد الآن.
والبديل "الواقعي" الوحيد الذي يملكه المفاوض الفلسطيني هو استمرار الوضع الراهن، وهو ليس وضعا ساكنا بل يتحرك سريعا تحركا لم يعد يترك للمفاوض إلا مساحة تضيق يوميا من الأرض يتحرك فوقها ومساحة أضيق من الأرض يتفاوض عليها. وهذا الوضع في نهاية المطاف هو صناعة أميركية خالصة، يحميه السلاح الأميركي، والمال الأميركي، والدعم السياسي والدبلوماسي الأميركي، والاحتكار الأميركي للحل دون العالم كافة، مما يطيل أمده، ويغذي الاستعمار الاستيطاني الذي يهدد باحباط كل الجهود الأميركية لاستئناف المفاوضات حاليا. ويدرك حتى الطفل الفلسطيني تحت الاحتلال أو في مخيمات اللجوء والمنافي أو في الشتات أن رفع الدعم الأميركي عن الاحتلال ودولته يكفي وحده لاقناع دولة الاحتلال بإنهاء مشروعها الاستيطاني في الأراضي المحتلة عام 1967 والرضوخ لاستحقاقات السلام في حده الأدنى الذي يقبله المفاوض الفلسطيني.
وقال ويقول الرئيسان عباس وأوباما والوزيرة كلينتون وشركاؤهم العرب في "عملية السلام" ونظراؤهم في الاتحادين الأوروبي والروسي والأمم المتحدة وبقية المجتمع الدولي إن استمرار الوضع الراهن "غير قابل للاستمرار"، لكن كل هؤلاء مسؤولون عن استمرار الوضع الراهن منذ ثلاثة وأربعين عاما، وحسب المعطيات الحالية فإن هذا الوضع قد يستمر لمدة مماثلة أو أطول، وبذلك يتحول الوضع "الانتقالي" الذي تمخض عن "عملية السلام" الذين يسعون جميعهم إلى استئنافها الآن - - أي ترتيبات أوسلو المفترض ان تكون مؤقتة - - إلى وضع دائم يغيرون فيه اسم الحكم الاداري الذاتي "للسكان" إلى اسم "دولة" فحسب.
ومثل هذه البدائل التي تدور في الفلك الأميركي لها معنى واحد فقط هو أن المفاوض الفلسطيني والعربي لا يملك أية بدائل وطنية أو قومية على الاطلاق، سواء استؤنفت المفاوضات أم لم تستأنف، وسواء كانت هذه المفاوضات مباشرة أم غير مباشرة، وسواء نجحت أم فشلت في التوصل إلى اتفاق تسوية، لأن الفشل هو أميركي في المقام الأول، ولأن لجنة المتابعة العربية ما زالت مصرة على منح هذا الفشل "فرصة" أخرى متجددة، ولأن "الرئيس الفلسطيني سوف يستمر في العمل مع الادارة الأميركية"، كما قال عريقات، بالرغم من فشلها، بحثا عن بدائل غير واقعية. والمحير ان المفاوض الفلسطيني يراوغ ويداور للتهرب من البديل الوحيد المجدي المتبقي، وهو إعلان دولة فلسطينية من جانب واحد وبلا حدود -- كدولة الاحتلال -- يتوحد الجهد الوطني الفلسطيني على المقاومة بكل اشكالها المشروعة من أجل انتزاعها من براثن الاحتلال دون قيد أو شرط او اتفاق أو تفاوض، ومثال انجاز المقاومة اللبنانية قدوة حية ماثلة للعيان.
*كاتب عربي من فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق