يجمع المحللون الإستراتيجيون على أن العامل الأول في تجاوز الهزيمة نحو نصريْ الاستنزاف وأكتوبر هو "الفرد المُقاتل المُتعلم"، الذي تربى في منظومة متكاملة فُتحَت أمام "كل" المجتمع. فمع نضج مؤسسة التعليم التي وضعتها الثورة في قلب مشروعها النهضوي، ضُخَّت دماء جديدة في مؤسستنا العسكرية الجريحة، ليُعاد بناؤها على أسس علمية وتكنولوجية واكبت عصرها.
مبكراً أدرك (جمال) الأهمية القصوى للتعليم.. فردياً واجتماعياً ووطنياً. نقرأ في خطاب نشره الزميل أسامة خالد بالمصري اليوم 23 يوليو الماضي عن "همّ" سيطر عليه ليكمل شقيقه تعليمه، كانت رسوم الدراسة باهظة على موظف البريد حسين عبدالناصر. في الخطاب، بداية الأربعينيات، يناشد جمال صديقه حسن النشار مساعدته في المجانية لـ(الليثي) الذي حصل على 70% لتخف الرسوم قليلاً، لكنها تظل عبئاً عليه، فبعد أن اتفق مع الأب على اقتسام نفقات تعليمه.. يبدو أنه سيتحملها وحده.
في نهاية الأربعينيات، رفض مجلس النواب مجانية التعليم، حجة أحدهم وفق المضبطة: "لما ولاد الفلاحين ح يدخلوا المدارس.. مين ح يخرج ببهايمنا الصبح". كان "ولاد الفلاحين" 70% من مصر، أصبحوا معظم "الجيش إللي حررها.. والشهدا في كل مدارها"، ومنهم خرج أول شهداء العبور وفقاً للوثائق العسكرية: مهندس (محمد حسين محمود مسعد) ابن قرية سِنديون قليوبية، خريج مدرسة قليوب الثانوية 1964 وزراعة الزقازيق 1968. والشهيد الحي يسري عمارة آسر عساف ياجوري، خريج مدرسة تلا الثانوية 1966.
في نهاية الأربعينيات "قَسَّمت" عائلة من كبار المُلاك أسر فلاحين بالمنوفية.. لتنقل "جزءاً" منها للبحيرة. أمي الرضيعة في حِجر جدتي (آمنة) وبجوارها ابناها توحيدة وأحمد.. مع "بهائم" العائلة الثرية في لوري واحد. الكبيرة (كعب الخير) تركتها في قرية (تبلوها) بـ(تلا) مع أخيها الأكبر رمضان. روت جدتي لنا حادثة النقل "وسط البهائم"، ثم كيف "ضحكت" على خفير المركز في منتصف الخمسينات بـ: "نبوية ماتت"، لتهرب بأمي من إلزامية تعليم تُغَرِّم قوانين يوليو من يخالفها. لم تدخل أمي المدرسة، لكنها رحلت تاركة ستة أبناء تخرجوا كلهم من منظومة تعليم مُجمع على جودتها. ظلت نبوية تتندر بنقلها مع البهائم، وتحذرنا: "الشهادة حماية للولد والبنت"، ورفضت، هي وأبي، مع تراجعات السبعينيات والثمانينات إخراج أي منا من المدرسة، رغم خنقة الحياة.
لم تكن حالة جدتي وأخوالي فردية... فالسياق العام يُهدر مستقبل ملايين المصريين.. ويحشر بعضهم مع البهائم. ولم تكن بطولة أمي استثنائية.. فالسياق العام فتح أمام ملايين المُعدمين آفاق الحلم بأن يصبح أولادهم "بشراً منتجين"، قبل أن يرتد ليُغلقه ثانية. لم تع أمي من فوائد التعليم سوى تأمين مستقبل أحسن لأولادها. لم يبلور وعيها أن ما تؤمن به هو "حراك اجتماعي"، أو يدرك، كما وَعَتْ كل التجارب النهضوية، أنه يطور ويُفجر "كل" طاقات من يسكنون معاً على أرض واحدة ويتمتعون بحقوق واحدة.. ويدفعون نفس ضريبة الدم، ويتيح فرصاً متساوية، نسبيا، للفرز الطبيعي فيما بينهم. لم تفهم معنى أن يتساوى في ذات المنظومة أبناء الفلاحة المُعدمة وأبناء موظف البريد البسيط.. مع أبناء كبار الملاك وأبناء "الرئيس" عبدالناصر، ولا أن التعليم "العام" هو أول خطوة لتمازج فئات وأعراق وثقافات المجتمع، ليكمل الجيش صهرها في بوتقته.. وأنهما درعه ضد التفكك والفوضى. لم تدرك أهمية التعليم الجيد كدرع للعقل ضد التشوه والتخلف، أو خطورة تشظي منظومته الموحدة إلى قطاعات.. أحيانا متناقضة، تفرز فئات متصارعة. "أفكار كُلية" لم تصل لعقلها.. فهي لم تتعلم.
أفكار كُلية وعتها دولة يوليو، كما التقطها كمال أتاتورك.. وخصمه السياسي حزب العدالة التركي، ثم الماليزي مهاتير محمد، والبرازيلي لولا دا سيلفا. أفكار لن تُترجم واقعياً إلا بالتخلص من مُعرقلي تقدم الوطن.. السوس الذي ينخر جسده، ليُسهل للعدو هزيمته. الآن لنبوية أحد عشر حفيداً.. "تفرقوا" بين مدارس عامة وتجريبية.. خاصة أو يرعاها الإخوان. تفرقة "تُشتِّت" مستقبل الوطن. للخاص 13.4% من المدارس، وللأزهري 16% بها "خُمس مستقبلنا". والعام "يُجَهِّل" معظم الغد.. وإن تميز بينهم 283 ألف تلميذ بالمدارس التجريبية. يكتمل "العُدوان التعليمي" مع تقرير التنمية البشرية لعام 2010، فـ٢٧% ممن بين ١٨ ـ ٢٩ سنة لم يكملوا التعليم الأساسى، ١٧% تسربوا و١٠% لم يلتحقوا أصلاً بالمدارس.
مع أول مواجهة له مع العدو في الفلوجا، أدرك المقاتل جمال عبدالناصر أن هزيمة "عدو مصر" تبدأ من القاهرة، بإزالة ما يُجهض تحديثها، فكان طبيعياً أن يضع التعليم في قلب مشروعه النهضوي. منظومة تعليم متكاملة، طوّرت عقول وفجرت طاقات.. أبدعت في قتال التخلف والعدو معاً. من يمد يده سيجد آلاف النماذج، المهندس المدني الذي ضبط إيقاع عملية إيلات، خراطيم المياه التي مهدت التربة لبناء السد.. هي ذاتها التي "أكلت" الساتر الترابي للقناة، ابتكار أسمنت خاص لخزانات السد.. بنفس تركيبة أسمنت حائط الصواريخ. والأهم: دماغ جَمْعيَّة لم تفرق بين فؤاد غالي وسعد الشاذلي.
لا نسيج واحد ولا تحرر للوطن ولا لناسه بدون منظومة تعليم متكاملة. في أكتوبر 73 أزلنا آثار العدوان على الأرض، فمن يُزيل آثار العدوان على مصنع الدماغ.
في القلب
** تكلفة طباعة (الرفاعي) لجمال الغيطاني.. لن تُضلع مؤسساتنا الوطنية. وتوزيعه على طلبة الإعدادي والثانوي لن يُحيي فقط مبدأ الشهادة، سيذكرهم أيضاً بقدرة طين مصر على الخلق.
العربي القاهرية
0 comments:
إرسال تعليق