الحرية الإنسانية بين الوجه السلبي والوجه الايجابي/ زهير الخويلدي


"لماذا أطيع أنا وغيري شخصا آخر؟ لماذا لا أعيش كما يروق لي؟ هل يحتم الواجب الطاعة؟ هل أجبر على الطاعة إن عصيت؟ ومن يجبرني على ذلك والى أي مدى وباسم من ومن أجل ماذا؟"[1]

قد تمارس فكرة الحرية من التأثير في الناس والقوة في التاريخ ما لا تضاهيها أية فكرة أخرى وذلك لكونها مرتبطة بالنشاط والفعل والممارسة والنظرية العملية وحركة الطبقات الاجتماعية وطموح الناس إلى نيل أهدافهم وتعتبر خير الوسائل الممكنة لإحراز الاستقلال بالنسبة للدولة ولحصول المجموعات على الاعتراف وبعض من الحقوق الثقافية والحكم الذاتي ولذلك يصعب أن تكون مجرد حلم هادئ لفيلسوف ينظر في موقع متعال وإنما هي من المشكلات العويصة والتحديات الجسام ومن الغايات النبيلة التي يمكن أن تتحول إلى عنف وأداة إنتاج للصراع والهيمنة ما لم يقع ترويضها والتفنن في إبداعها والتعاطي معها.

لقد ارتبطت الحرية في البداية بالفرد وحقه في التمتع بحياته وتنمية ثرواته وبالملكية الخاصة وامتياز السيادة وسلطة التحكم والتوجيه ولكنها ما لبثت أن أصبحت تعنى الاستقلالية الذاتية وحق المجموعة عن التعبير عن هويتها وقدرتها على تسيير شؤونها الثقافية والدينية بنفسها وتصرف الشعوب في أوطانها. على هذا النحو تناقض استعمال مصطلح الحرية مع مفاهيم الرق والعبودية والطغيان في الميدان السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتجابه بشكل لافت مع مفاهيم القضاء و القدر والجبرية والمصير في المجال الوجودي وتجادل أيضا مع الحتمية والضرورة والقانون في المجال المعرفي. وكان قريا من الاختيار والإرادة والروية والمداولة والتعقل والفعل والكرامة والكسب والعزيمة والنقد وتحقيق إنسانية الإنسان.

اكتسب مصطلح الحرية عدة معان وتنزل في عدة سياقات وامتلك عدة وجوه اشتهر منها في تاريخ الفلسفة وجهين هما الوجه السلبي والوجه الايجابي وقد شاع بطريقة فيها الكثير من الخلط والتعميم أن الوجه السلبي للحرية هو أن يفعل الإنسان ما يشاء في ظل غياب كل إكراه وضغط وأن الوجه الايجابي لها هو أن يستعمل المرء ما امتلكه من قوة وإرادة وتصميم في انجاز الفعل الذي اختاره وترك غيره، ولكن هذا التحديد على ما فيه من محاولة وتوجه صادق لا يستوفي حقيقة المصطلح ولا يمكن الإنسان من التمييز بين الفعل الحر بإطلاق والحركة الاضطرارية التي يختلط فيها الخضوع بالطاعة والرهبة بالرغبة.

من هذا المنطلق حري بنا العودة إلى ايزيا برلين في كتاب "حدود الحرية" من أجل التثبت من التمييز بين الوجهين وتجاوز حالة اللبس والغموض في استعمال هذه الكلمة النبيلة التي ظلت محل استقطاب وتجاذب.

الوجه السلبي للحرية:

"إذا كانت الحرية شيئا مقدسا ومبدأ لا يمس فلا يمكن أن يكون هناك ما يبرر التلاعب بها."[2]

يتضمن الوجه السلبي للحرية الإجابة على السؤال: ماهو المجال الذي يُترك فيه للفرد حرية العمل أو أن يكون هذا الفرد ما يستطيع أن يكون من غير تدخل أي فرد أو أفراد في ذلك؟

الحرية بهذا المعنى هي غياب التدخل الخارجي في النشاط الداخلي وانتفاء القيود والإكراهات في العمل الذاتي وذلك لأن إجبار المرء على القيام بأشياء لا يحبها ودون موافقته ورضاه يعني تقليص في مساحة اختياره وفعله للأعمال التي يميل إليها ويستحسنها عن غيرها. عندئذ إن فقدان الحرية هنا يعني فقدان الاستقلالية وتكريس التدخل في شؤون الذات والاستعباد والعجز عن المبادرة والتبعية للآخر.

إن منح حرية للبعض يعني حرمان فئات أخرى منها وان الحرية الفردية قد لا تتحقق إلا بالتضحية بحرية المجموعة وبالتالي لا يمكن محاصرة الحرية عند الكثير من أجل تمتيع عدد قليل بها ولا يمكن أيضا محاصرة الحرية بالمعنى الجوهري من أجل الحصول على حريات أخرى ومنافع أخرى كالثروة والأمان والعدالة والمساواة والسعادة والرفاه. والدليل على ذلك هو أن" إذا كانت حريتي أو حرية طبقتي الاجتماعية أو حرية شعبي تتطلب شقاء الآخرين فإن النظام الذي يسمح بهذا هو نظام جائر وعقلاني."[3]

يتبين لنا أن الحرية هي المبادئ والحقوق التي لا يجب التنازل عنها ولا يمكن تعويضها ولا تأجيلها وإهدارها يعني إهدار كرامة الإنسان والإساءة إليها يعني الإساءة إلى الإنسان ولا تقبل الزيادة ولا النقصان وبالتالي لا معنى للحديث عن حرية الحد الأدنى والتضحية بشيء من الحرية من اجل الحفاظ على ما تبقى منها ولذلك ينبغي أن نكون أحرار بشكل كامل وأن نسعى إلى تحقيق ما نرمي إليه بالوسائل التي وقع عليها اختيارنا بحرية ويجب منع الآخرين بالقانون من حرمان الناس من الحرية.

هكذا يقترن الدفاع عن الحرية بالمطالبة بحماية الفرد من كل تهديد وانتهاك خارجي وبالمطالبة بالحقوق المدنية، وتؤدي أفعال الضغط والإكراه والمنع إلى الإحباط والعجز والعزوف عن التحرر والاستقلال.

إن حرية الفكر هي شرط تنمية القدرات وتفجير المواهب وإطلاق طاقات الإبداع والخلق لدي الإنسان ولذلك يجب على المرء يحاول اكتشاف الحقيقة بنفسه وأن يطور شخصيته وينشد الحرية طالما أن ذلك علامة على يقظته واستنارته وتحمله مسؤولية وجوده وسيادته على نفسه واستعداده للمشاركة في الفضاء العمومي وتجذير قيم المواطنة وزرع الثقافة الديمقراطية. إن الحرية السياسية في وجها السلبي تعني عدم تدخل الدولة في شؤون الأفراد وتربط بين الديمقراطية والفردانية وتطرح بجدية سؤال : من يحكمني؟ ، ولكن ماهو المفهوم الايجابي للحرية ؟ ألا ينبغي الانتقال من "الحرية من..." إلى "الحرية ل..."؟ أليس من الأجدى أن يعامل الناس لا بوصفهم أحرارا بصفة مطلقة ولكن باعتبارهم الكائنات التي يجب تحريرهم أو على الأقل التي ينبغي أن تقوم بتحرير أنفسهم من كل القيود والإكراهات؟

الوجه الايجابي للحرية:

"إن المفهوم الايجابي لكلمة "حرية" مشتق من رغبة الفرد في أن يكون سيد نفسه"[4]

يتضمن الوجه الايجابي للحرية الإجابة على السؤال: كيف نمارس حرياتنا؟ وبعبارة أخرى من وماهو مصدر السيطرة أو التدخل الذي يستطيع تحديد ما يقوم به الفرد أو ما يجب أن يكون كذا بدلا من ذلك؟

الحرية هاهنا تجعل الإنسان حاكما وناهيا على نفسه ويعتمد على قدراته ويتخذ القرارات لوحده ويكون فاعلا نشطا ويمتلك غايات واعية وأهداف شخصية وأسلوب حياة ويفكر بعقلانية ويحوز على منطق سليم ويحتل مكانة مرموقة في الوجود ويضطلع بدور طليعي في المجتمع ويتمتع بالسيادة الذاتية والقدرة على الإثبات الذاتي وتأكيد النفس ويكشف عن ذات رفيعة وسمو روحي ورغبة في التجاوز والانتصار.

هناك ترابط بين الوعي الحر والإدراك المباشر وبين الإرادة العقلانية والذات الحقيقية وبين الانسجام مع الذات والتناغم مع العالم الخارجي وبين ممارسة الاختيار وتحقيق الطبيعة التي تخص الإنسان وبين الرغبة في التوجيه الذاتي وقيادة المرء من قبل ذاته الأصيلة.

إن حال الذات الحرة بالمعنى الايجابي هو حال الإنسان الحقيقي الذي ينشد المستحيل والذي بداخله طموحات شخصية تجعلها أكبر ما ه لي وتنجز أفعال وآثر فوق حجم قدراتها المتوقعة وطاقتها المعروفة.

ننتهي إلى الإعلان عن المبادئ التالية:

- إن الحرية لا تعني حرية داخلية عند الحكيم ونكران الحياة الخارجية والانكفاء على الذات وإنما تفيد إدراك الذات كقوة فاعلة والانتصار على السببية واحتلال موقع في العالم.

- ليس هناك قيود نهائية وسلطة مطلقة على الحرية وإنما حقوق مقدسة يجب منحها للناس وصيانتها والذود عنها ضد كل اعتداء وهي الحريات الأساسية.

- الحذر من أن تكون قوانين الحرية أكثر صرامة من قسوة الحكم المطلق وأن تقضي سيادة الشعب على سيادة الفرد لنفسه وأن يمارس الاستبداد باسم الحرص على ضمان الديمقراطية.

- توجد جملة من الحدود يمكن للإنسان أن يتمتع داخلها بمجموعة من الحريات المتكاملة وهي القوانين السياسية لتي سنها اعقل المستقيم وتم اتفاق عليها والرضا بها من طرف إجماع الأغلبية.

- يجب أن يعطى لكل فرد مجالا يكون فيه بمأمن عن أي إكراه خارجي ويتخلص كل إنسان من رهبة الحرية وثقلها لتكون بالنسبة إليه المقصد الأسنى والقيمة المقدسة.

- "يجب أن يقاس مقدار حرية اختيار للعيش كما يرغب فيه الفرد أو الأفراد) بمقدار ما يحتاجه من الحرية لتحقيق القيم الأخرى كالمساواة والعدالة والسعادة والأمان والنظام"[5].

- "على الذين يؤمنون بالحرية كتوجيه ذاتي عقلاني أن يفكروا في كيفية استخدامها لا في حياة الفرد الخاصة وحسب بل في علاقته مع أفراد مجتمعه الآخرين أيضا"[6].

هكذا تتعدد دلالات الحرية بتنوع التحديدات التي تخضع لها الطبيعة البشرية وفي كل مرة يعاد تعريف الإنسان يتغير أيضا تعريف الحرية ولكن الاقتصار على القول بأنها القدرة على عمل ما يرغب فيه الفرد هو تعريف منقوص ولا يفي بالغرض ولذلك يلزم التأكيد على وجود الحرية كوضع اصلي وبنية تكوينية.

فهل يمكن أن نستخلص من الأفكار السابقة أن تعدد الحريات هو الوجه السلبي وأن السيادة الذاتية هي الوجه الايجابي؟ وكيف تقضي حرية ايجابية واحدة على عدد كبير من الحريات السلبية؟

المرجع:

ايزيا برلين، حدود الحرية، ترجمة جمانا طالب، دار الساقي،.بيروت، الطبعة الأولى،1996.

ايزيا برلين، حدود الحرية، ترجمة جمانا طالب، دار الساقي.بيروت، الطبعة الأولى،1996. ص.9.[1]

[2] ايزيا برلين، حدود الحرية،ص. 16.

[3] ايزيا برلين، حدود الحرية، ص.16.

[4] ايزيا برلين، حدود الحرية،ص.23.

[5] ايزيا برلين، حدود الحرية،ص.74.

[6] ايزيا برلين، حدود الحرية،ص.43.

CONVERSATION

0 comments: