ستترك الانتخابات "النصفية" الأميركية (لكلّ أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ) المقرّرة يوم 2 نوفمبر القادم، مزيجاً من التأثيرات السياسية داخل أميركا. لكن ستختلف هذه الانتخابات في معاييرها عن مثيلتها "النصفية" في العام 2006 والتي أوصلت نتائجها آنذاك غالبيةً من الحزب الديمقراطي إلى مجلسيْ الكونغرس، بسبب سياسات خارجية وحروب قامت بها إدارة بوش، لا لاعتباراتٍ وسياساتٍ داخلية. فالحملات الانتخابية المشتعلة الآن تؤكّد ارتفاع نسبة القضايا الاجتماعية والثقافية في معايير الناخب الأميركي بينما كانت معايير السياسة الخارجية والأوضاع الاقتصادية هي السائدة في الانتخابات الرئاسية منذ سنتين، كما طغت المسألة الخارجية قبل ذلك على الانتخابات النصفية في العام 2006.
إنّ غالبية الأميركيين يتفهّمون الآن ظروف السياسة الأميركية الخارجية حالياً وكيفية تعامل إدارة أوباما مع حربي العراق وأفغانستان. لكن مشكلة هذه "الغالبية" التي أوصلت باراك أوباما للبيت الأبيض هي في انقسامها الراهن حول القضايا الداخلية وعدم لمسها لتحسّن الأوضاع الاقتصادية واستمرار ارتفاع معدّل البطالة.
صحيح أنّ ما حدث في انتخابات الرئاسة الأميركية منذ عامين، كان تحولاً ثقافياً في المجتمع الأميركي سمح بوصول مواطن أميركي أسود، ابن مهاجر إفريقي يحمل اسم حسين، إلى سدّة "البيت الأبيض"، لكن الأصوات التي حصل عليها أوباما في نوفمبر 2008 كانت فقط أكثر من النصف بقليل من عدد الذين شاركوا بالانتخابات، وهذا يعني وجود حوالي نصف عدد الأميركيين في خانة المعارضين لكل ما عليه أوباما من برنامج ورؤية ولون وأصول عرقية، وقبل أن يبدأ حكمه!. كذلك، فإنّ مشكلة الرئيس أوباما الآن هي أنّ مؤيّديه كانوا أشبه بتحالف أو جبهة مؤقتة قامت بين قوًى عديدة اتفقت فقط على دعمه في الانتخابات، لكنّها ليست قوّة واحدة فاعلة الآن بالمجتمع الأميركي، بل إنّ بعض هذه القوى المحسوبة على اليسار الأميركي والتيّار الليبرالي تريد من أوباما أكثر ممّا فعل وقد بدأت بسحب تأييدها السياسي له، بينما نجد على جبهة المعارضين أصلاً لوصول أوباما للرئاسة مزيداً من التنظيم والحركة الشعبية التي تزرع الخوف من برنامج أوباما وتُشكّك حتى في شهادة ولادته الأميركية، كما هو حال "حزب الشاي" وبعض المحافظين المتشددين في "الحزب الجمهوري"!.
هذا هو الظرف الصعب الآن بالنسبة لرئيسٍ أراد على المستوى الداخلي إقرار برامج صحّية واقتصادية واجتماعية وتربوية لم يكن هناك إجماع وطني أميركي عليها ولا توافق حتى داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وفي ظلّ شبكات ضخمة من المصالح والشركات والمصانع التي تمارس نفوذها الضاغط داخل الكونغرس وعبر وسائل الإعلام لمنع أوباما من تنفيذ برامجه الإصلاحية الداخلية.
وظهرت أيضاً مشكلة الرئيس أوباما داخل الولايات المتحدة حينما تمّ التعامل مع الملف الأمني حيث زادت الأصوات المشكّكة في قدرته على حفظ أمن أميركا مقارنة مع سياسات "الجمهوريين"، وهو الذي دعا لإسقاط شعار "الحرب على الإرهاب"، هذا الشعار الذي استغلّته إدارة بوش لتبرير حروبها العسكرية وإجراءاتها الأمنية، ولإقامة معتقل غوانتامو وممارسة وسائل التعذيب ضدّ المعتقلين.
إنّ باراك أوباما دعا إلى رؤية تتّصف بالاعتدال في مجتمع أميركي حكَمه التطرّف لعقدٍ من الزمن تقريباً وجرت على أرضه أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو مجتمع قام تاريخه على استخدام العنف، وما زال عدد كبير من ولاياته يرفض التخلّي عن اقتناء الأسلحة الفردية وفكرة الميليشيات المسلّحة.
هي خسارة كبرى لأميركا أنْ تتغذّى فيها من جديد مشاعر التمييز العنصري والتفرقة على أساس اللّون أو الدين بعدما تجاوزت أميركا هذه الحالة منذ عقود.
فالقوة الحقيقية لأمريكا هي في تعدّديتها وفي تكامل عناصرها وفي نظامها الدستوري الذي يساوي بين جميع المواطنين، وحينما تهتزّ عناصر القوّة هذه فإنَّ الضعف والوهن لا يكون حينذاك في القرار السياسي أو في الحكومة المركزيّة، بل في خلايا المجتمع الأميركي كلّه.
إنَّ أميركا تعيش في هذه السنوات الأولى من عمر القرن الحادي والعشرين مزيجاً من حالات التمييز الديني والثقافي بحقّ بعض العرب والمسلمين، كما ضدّ المهاجرين الجدد عموماً، إضافة إلى مشاعر عنصرية ضدّ الأميركيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء. وهذه المشاعر بالتمييز على أساس لون أو دين أو ثقافة هي الّتي تهدد وحدة أي مجتمع وتعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة فيه.
وما يُسجّل لباراك أوباما من اعتماد على نهج الاعتدال ضدّ فكر التطرّف الذي ساد طيلة إدارة بوش السابقة، يواجه الآن تحدّيات داخلية كثيرة أبرزها الشعور العنصري الدفين في المجتمع الأميركي مقابل ما يمثّله أوباما شخصياً من أصول إثنية أفريقية، ودينية إسلامية (لجهة والده)، ثم برنامجه السياسي والاجتماعي المتناقض مع برنامج اليمين المحافظ الأميركي، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي في أميركا بين "ديمقراطيين" و"جمهوريين" وما في كلِّ معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ "قوى الضغط" الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية.
فمشكلة أوباما ليست مع خصومه وخصوم حزبه التقليديين فقط، بل هي أيضاً في داخل "المعسكر" الذي ساهم بوصوله إلى سدّة الرئاسة. فأعداد كبيرة من المستقلين وجيل الشباب الأميركي كانت معه من أجل تغيير شامل ولوقف حروب أميركا الخارجية، وهي أمور لم تحدث طبعاً في فترة رئاسته حتى الآن. كذلك بالنسبة للأوضاع الاقتصادية حيث كانت توقّعات الناخبين لأوباما أكبر من الممكن فعله لتحسين الاقتصاد الأميركي.
العوامل ذاتها التي ساعدت على فوز أوباما بانتخابات الرئاسة هي المسؤولة الآن عن تراجع شعبيته وعن تحوّل بعض مؤيّديه عنه. فحجم سيّئات إدارة بوش وشموليتها لأوضاع أميركا الداخلية والخارجية، كانت لصالح انتخاب أوباما، لكن عدم القدرة على إزالة هذه السيئات حتى الآن أضعف ويُضعف من قوّة التيّار الشعبي المساند للإدارة الحالية.
لقد شكّلت شخصية أوباما خلال الحملة الرئاسية الانتخابية رمزاً لمزيج يجمع الأميركيين ولا يفرّقهم. فأوباما الشاب المنتمي إلى الطبقة الوسطى والمدافع عن مصالحها، هو ابن مهاجر إفريقي رمَز إلى عشرات الملايين من المهاجرين الجدد إلى أميركا، أبوه مسلم أسود وأمّه مسيحية أميركية بيضاء اللون، وقد جمع بين مستوى عالٍ جداً من الدراسة الأكاديمية في أشهر جامعات أميركا وبين التطوّع والتفاعل العملي مع المحرومين من العلم والعمل. فانتصار أوباما كان رمزاً إلى المستقبل الذي يطمح إليه الجيل الأميركي الجديد. هذا الجيل الذي لم يجد في سنوات إدارة بوش إلا الحروب والفساد والانهيار الاقتصادي والانقسام الاجتماعي، وكلّها حالات تهدم الحاضر وتعيق بناء المستقبل.
لذلك كانت الآمال الأميركية كبيرة حين فاز أوباما بسدّة الرئاسة، تماماً كما كانت آمال شعوب عديدة في العالم بأن يكون فوزه بدايةً لعصر جديد في العالم. لكن أوباما هو رئيس أميركي للأمّة الأميركية وما لها من مصالح وأولويات في العالم، وما عندها من مؤسسات وقوى ضاغطة تصنع القرار في واشنطن.
صحيح أن هذه الانتخابات الآن هي بمثابة "استفتاء" أميركي على أوباما، لكنه "استفتاء" تتلاعب فيه حملات دعائية بمئات الملايين من الدولارات!. وقد تسفر هذه "الانتخابات النصفية" عن فوز غالبية "جمهورية" في مجلس النواب وعن تقليص لغالبية "الديمقراطيين" في مجلس الشيوخ، لكن لن تؤثّر نتائجها كثيراً على مجرى السياسة الخارجية وعلى أجندة إدارة أوباما. فما زال أمام الرئيس الأميركي "نصف عهد" لتنفيذ تعهداته الداخلية والخارجية.
0 comments:
إرسال تعليق