هل يقرأ العرب؟
لا أطرح هذا السؤال لأعطي عليه إجابة محددة، إنما كمدخل لواقع يزداد انشطاراً بين نواتين في المجتمع نفسه، نواه مثقفة متنورة، ونواه أمية ومعادية للثقافة والتنوير، بمعنى آخر، مجتمعنا كله في حالة انقطاع كامل في التواصل والتكامل الثقافي والفكري وحتى اللغوي.
القراءة تفترض أن يكون هناك مبدعون في مختلف أبواب الثقافة والأبحاث والعلوم والفنون، وأن يكون هناك تفاعل وتبادل فكري دينامي بين الكاتب والمجتمع. هل نستطيع الإدعاء أن هذا قائم في مجتمعاتنا العربية؟ أو حتى هنا في مجتمعنا العربي في إسرائيل، الذي يتفاخر البعض بأنه من أرقى المجتمعات العربية؟ إننا نجد أن الصورة عندنا لا تختلف كثيراً عن واقع المجتمعات العربية، إلا في حدود ضيقة، رغم أن نسبة الأمية في مجتمعنا العربي الإسرائيلي هي شبه معدومة.
بلا شك أن العالم العربي يشهد تياراً تنويرياً إصلاحيا حديثاً ويوازيه تيار ثقافي لا يقل في إبداعه عن أية ثقافة لشعب من الشعوب. غير أن الواقع الاجتماعي، كما تدل أبحاث وتقارير عدة، وعلى رأسها تقارير "التنمية" الصادرة عن الأمم المتحدة، هو في حالة تعثر بل وتراجع على كل المستويات، إن كان على المستويات الاقتصادية حيث تتراجع المداخيل الإجمالية للعالم العربي بالنسبة للفرد الواحد، لدرجة أن كل ما ينتجه العالم العربي، الغني بالنفط.. لا يتجاوز إنتاج دولة أوروبية متوسطة وصغير مثل إسبانيا، وتصدير العالم العربي كله اقل مما تصدره دولة متوسطة أخرى مثل ايطاليا، وأيضاً على المستوى التعليم، وشح في الأموال المخصصة للأبحاث العلمية في الجامعات. هذا، إلى جانب سيطرة قوى متماثلة مع الأنظمة القمعية على المعاهد العلمية والمؤسسات التعليمية مثل الجامعات وغيرها، لدرجة أن مستوى التعليم الجامعي في مصر مثلاً والتي تعتبر النموذج الأبرز، هو في انحطاط متواصل إذا ما قورن مثلاً بالفترة التي سبقت ثورة 23 يوليو في مصر، أي فترة الملكية. وتشير إحصائيات مختلفة إن ما يخصص من أموال للأبحاث العلمية في الجامعات العربية كلها لا يتجاوز 10% مما يخصص في اسرائيل ، وهذا بدون الأبحاث العسكرية.
على المستوى الاجتماعي نشهد ردة مروعة لإعادة المرأة إلى البيت، متجاوزين ما تحقق من أفكار تحررية في الفترات التي سبقت قيام ما بات يعرف باسم "الأنظمة الوطنية". إلى جانب هذا، فأن البطالة على مستوى العالم العربي، تتجاوز نسبة أل (30%)، وبدون أن يخلق العالم العربي فرص عمل تصل إلى (5) ملايين فرصة عمل جديدة على الأقل كل سنة ، سيزداد الوضع تدهوراً وإملاقاً للجماهير العربية، وتخلفاً للمجتمع العربي والاقتصاد والعلوم في العالم العربي.
هذه "لوحة" صغيرة قائمة عن واقع لا شيء فيه يبشر بالخير. تقرير التنمية العربية الصادر عن الأمم المتحدة للعام 2003 أشار إلى حقيقة مرعبة أخرى: في عهد الخليفة العباسي الأمين، الذي شهد نهضة علمية وحركة ترجمة واسعة مباركة نقلت العلوم من اللغات الأجنبية للغة العربية وأسست عملياً مجد الحضارة العربية وسيادة مطلقة للعلم والمعرفة، حولت الأمة العربية إلى أمة مولعة بمطالعة الكتب واقتنائها، ولكن الصورة القاتمة تقول أن ما ترجم من كتب منذ عهد الأمين وحتى يومنا الحاضر يبلغ (11) آلف كتاب، وهو رقم تترجمه دولة مثل إسبانيا اليوم في عام واحد.
حقاً توجد حركة تنوير وإصلاح عربية فكرية، وأسماء لها وقع في مختلف دول العالم ولغاته، إلا في لغتهم ولدى معظم أبناء شعبهم. بل والانكى من ذلك يتعرض المتنورون من رجال الفكر والتنوير والإصلاح إلى حملة تخوين وتكفير وتهديد لحياتهم ودفعهم للهجرة الاضطرارية دون أن تقوم "الأنظمة الوطنية" بتوفير الحماية لهم والدعم لدورهم الطليعي في إنقاذ المجتمعات العربية من حالة التخلف والفقر المستشري فيها.
المشكلة اللغوية
هناك حقيقة أخرى تبدو أقل أهمية، وتتعلق باللغة العربية نفسها. إذ بينت دراسات عدة، وجود انفصام بين اللغة المستعملة في الدوائر الحكومية ووسائل الإعلام وبين الجمهور العربي، الأكثرية من الجماهير العربية لا تفهم حتى لغة الصحافة، والتي هي اللغة العربية الفصحى الأكثر سهولة وتماثلاً مع المناخ الثقافي، وقدرة على التعبير السهل والواضح عن مختلف قضايا الحياة.
هذا يشير إلى فشل جهاز التعليم العربي في كل أقطار العالم العربي إلى جانب حقيقة وجود ما يقارب (80) مليون عربي أميون لا يقرأون ولا يكتبون. وهذا يقول أمور أكثر خطورة من مجرد الأرقام، يقول أن الأكثرية المطلقة من الجماهير العربية، لا تشارك عملياً في صناعة القرارات التي تتعلق بحياتها ومستقبلها، وهي مهمشة، ليس بفعل أنظمة القمع العربية فقط، إنما بفعل انقطاعها عن المفهوم اللغوي لمجتمعها ولحركته الثقافية والتنويرية والإصلاحية.
الكتاب صار من لوازم الزينة
كثيراً ما أدخل لبيوت مثقفين أكاديميين، أو لمكاتبهم الفخمة، وأفاجأ بكتب التراث المجلدة وموسوعات مختلفة، ونادراً ما أجد بينها "الكتب الرخيصة" وأعني، دواوين شعر، روايات، أبحاث فكرية واجتماعية (غير مجلدة)، ربما لو أصدر أدباؤنا مؤلفاتهم الكاملة بمجلد ضخم، لوجد مكانه إلى خزائن الكتب. ومن استفساراتي غير المباشرة، تأكد لي، أن هذه الكتب للزينة فقط، ويكاد صاحبها لا يعي ما تحويه من كنوز ثقافية وفكرية.
في تقرير حول معارض الكتب في العالم العربي، بيَّن كاتب التقرير أن هذه المعارض أصبحت سوقاً موسمية للربح بالأساس، بدل أن تكون ظاهرة تستهدف التثقيف والتنوير، وأنه حتى من ملاحظة اتجاه بيع الكتب، أشار التقرير إلى أن كتب المواعظ الدينية تبيع أضعافاًَ من أي كتاب فكري أو أدبي حتى لو كان لأبرز أديب عربي، أو كتاب فكري لأحد قادة حركة التنوير والإصلاح الفكري ، هذا إذا سمح بعرضها أصلاً. هذا عدا مصادرة كتب وروايات، أحياناً من غير المفهوم سبب مصادرتها، مثلا مصادرة مصر لرواية "زوربا اليوناني" للكاتب كازنتزاكس أو روايتين "خفة الكائن لا تحتمل" و "الحياة في مكان آخر" للروائي ميلان كونديرا ورواية للكاتب المصري إدوار الخراط (مخلوقات الأشواق الطائرة) رغم أنه حاز على جائزة الدولة التقديرية. ورواية نوال السعداوي " جنات إبليس" ومنع رواية "الدنيا أجمل من الجنة" الصادرة في لبنان للكاتب المصري خالد البري من دخول مصر، وقبلها منع توزيع روايات مثل رواية "وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر، ومصادرة روايات الكاتب السعودي الأصل عبد الرحمن منيف ("مدن الملح" و "أرض السواد") وغيرها....
إن حالة التدهور الثقافي بالغة الخطورة ليس في العالم العربي فقط، بل هنا عندنا أيضاً، رغم أني ألاحظ أن بعض مدارسنا بدأت تنتهج بما يحقق التقارب بين الكتاب وإنسان المستقبل، أما في عالمنا العربي فما زلنا نسمع عن عزم الأنظمة إحداث تغيير، ولكن عملية التسارع في النمو الاقتصادي والعلم و الثقافي العالمي تجعل الفجوة تزداد أتساعا لدرجة رهيبة. ويصدمني كثيراً، أن الكثير من المفكرين العرب متفائلين بأن المستحيل سيتحقق ليلحق العالم العربي بركب الحضارة... وربما تكون رؤيتهم تنحصر أكثر بأوساط معينة، تعيش بأجسادها في المجتمعات العربية، وبعقولها تعيش في عالم آخر. حقاً يطرحون الحلول ويقترحون كل ما هو صحيح. ولكن من سينفذ هذه الاقتراحات؟ أي نظام عربي سيتبنى المبدعين ويشجع أعمالهم حتى تنفجر الطاقات بثقافة جديدة متنوعة المواضيع والاهتمامات، وبرقي علمي يضاهي رقي الشعوب الأخرى؟
ويبقى السؤال البسيط، هل هناك أنظمة عربية مؤهلة لتبني هذه الاقتراحات لما هو أكثر من مجرد ترديدها؟! هل سيقتطعون من ميزانيات حفظ أمن النظام وتوريثه لأبنائهم، من أجل تنمية المعرفة وتطوير قدرات شعوبهم الفكرية والثقافية؟!
مجرد أسئلة قد لا يكون لها جواب إلا بعد الغزو الأجنبي القادم لقطر عربي آخر!!
0 comments:
إرسال تعليق