الخوف من أرينة العراق والتجارب السابقة/ صالح الطائي


تصرف الجغرافيا الكيفي الذي وضعنا في المحاذاة مع إيران دون إرادتنا أو إرادتهم تسبب في خلق الكثير من المشاكل والمعارك والحروب والمؤامرات منذ العصور الإنسانية الأولى حتى يومنا الحاضر، ولم يكن هذا الصراع بدعا فقد كانت الصراعات ولا زالت فاشية بين الدول المتجاورة المتحاددة عبر التاريخ، إيران نفسها كانت لها مشاكلها ومعاركها مع جاراتها تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى والاتحاد السوفيتي وباكستان وأفغانستان، كما كانت للعراق مشاكله وحروبه مع جيرانه الآخرين. وإذا ما كانت دوافع هذا الصراع دينية في بدايتها ثم استعمارية في مرحلتها الوسطى فإنها أصبحت اليوم سياسية بحتة لا علاقة لها بالأمور الأخرى.
لكن على العموم يجد المتابع تغيرا قد طرأ على علاقات الجيرة بين الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية وويلاتها حيث أصبحت الدول المتجاورة أكثر تعقلا وأشد رغبة في الابتعاد عن المشاكل البينية مع الآخرين، وذلك لأن الثبوت الذي يمتاز به الموقع الجغرافي يقابله عادة متغير في القيمة السياسية والاستراتيجية للبلد بصفة مستمرة نتيجة التطورات الناشئة.
من جانب آخر نجد مقابل هذا التعقل أو ما يبدو أنه تعقلا، تنامي روح العدوان عند شعوب بعيدة غير متجاورة دفعتها الرغبة بالحصول على الموارد والمصادر والأموال لغزو دول بعيدة عنها واستعمارها ونهب خيراتها كما فعلت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال التي احتلت أجزاء كبيرة من الوطن العربي لنهب ثرواته، وكانت إيران واحدة من الدول التي وقعت ضحية لهذا السلوك الهمجي فاحتلت أراضيها.
وفي زمن التحرر والاستقلال تبينت الحدود الوطنية للدول بشكل واضح عادة مع وجود بعض النقاط الساخنة التي تحيطها الضبابية المصطنعة التي ابتدعها المستعمرون لتكون ركيزة تسمح لهم بإثارة الفتن بين الجيران أو التدخل المباشر لتحقيق مصالح مؤجلة وقف التحرير عائقا أمام تحقيقها، وبناء عليه حدثت المناوشات بين إيران والعراق وإيران والكويت وإيران والمحميات العربية الأخرى في الخليج ولكنها لم ترق لأن تصبح مشكلة حقيقية، كما أنها لم تنضج لكي يتفق الأطراف على حلها، ولذا بقيت معلقة وعرضة للإثارة في كل الأوقات.
وفي أوائل ثمانينات القرن الماضي وبعد سنين قليلة من قيام الثورة الإسلامية في إيران ورفعها لشعار (تصدير الثورة/ تصدير النظام الإسلامي) حاول النظام العراقي مدعوما من المحميات الخليجية والسعودية والكويت تطوير حالة النزاع القائم مع إيران إلى مرحلة الحرب المباشرة، انتهت بانتهاء سنواتها الثمان الدموية فكرة تصدير الثورة وفكرة احتلال أراضي الغير أو التدخل في شؤونه وبقيت بعض المسائل العالقة التي تستفز عادة من قبل الجانبين للاستهلاك السياسي المحلي لا أكثر، وخلال هذه المرحلة والمراحل اللاحقة لم يبدو على إيران أنها مهتمة فعلا بدخول أراضي أي بلد مجاور لها ولأي سبب حتى أنها لم تتدخل للانتقام من العراق بعد أن سيطر ثوار الانتفاضة الشعبانية عام 1991 على جميع المحافظات الشيعية الجنوبية المحاذية لها وقد يكون هذا دليلا على عدم رغبتها بالتدخل المباشر في شؤون البلدان المجاورة لأنها لو كانت تملك حقا رغبة أو قدرة الاحتلال لما كانت قد ضيعت هذه الفرصة الثمينة. أما سبب ذلك فلأنها تدرك أن العصر عصر الهوية الوطنية والمباديء السياسية وليس عصر الهوية المذهبية أو الدينية أو القومية.
إن إيران بعد التجارب المريرة التي عاشتها فضلا عن الوضع الدولي القائم الذي لا يسمح بالانتهاكات خارج الحسابات الاستراتيجية أدركت أن التدخل في شؤون الآخرين لا يخدمها، وليس لديها فرصة للدخول إلى أراضي الغير بل حتى التوحد مع الغير برضاه، وقد أثبتت تجربتها مع العراق في زمن الانتفاضة ذلك كما أثبتته مواقفها تجاه ما حدث في أذربيجان، ففي سياق متصل نجد أذربيجان التاريخية أراض مقسمة بين إيران والاتحاد السوفيتي السابق وغالبية سكان قسميها ذوي الأصول التركية هم من الشيعة حيث تبلغ نسبتهم في أذربيجان الروسية ستة ملايين من أصل ثمانية ملايين نسمة، وفي أذربيجان الإيرانية اثنا عشر مليون مواطن شيعي. وكما قالوا ويقولون ويروجون عن رغبة إيران في احتلال العراق وهو العذر السخيف الذي روج له النظام العراقي السابق ليشرعن من خلاله حربه بالنيابة التي شنها ضد إيران، ويروج له السياسيون الطائفيون اليوم، كانوا كذلك يقولون ويدعون ويروجون لوجود فكرة إيرانية باحتلال أذربيجان الروسية والتدخل في شؤونها، وكان هناك من يغذي هذه الآراء، ولكن عندما تفكك الاتحاد السوفيتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي ومع ارتفاع التوقعات التي كانت تأمل زوال الحدود عند نهر "اراكس" الفاصل بين البلدين، وترى أن أذربيجان الروسية سوف تتوحد مع إيران أو تنظم إليها وتندمج معها بوحدة اندماجية ولاسيما أن صور الإمام الخميني انتشرت فيها بشكل مكثف تماما كما حدث في العراق بعد التغيير،لم يحدث شيئا من هذا، ولم تبادر إيران من جانبها إلى ما يدعم هذه الأقوال حيث تبين (أن عددا من اللافتات الكبيرة التي تحمل صورة الخميني لا يكفي لقيام ثورة إسلامية) كما يقول "هاينس هالم" مؤلف كتاب (الشيعة) لأن الذي حدث كان مخالفا لكل التوقعات حيث بدأت أذربيجان بالتقرب من جارتها تركية التي ترتبط معها قوميا، ولم تلتفت إلى إيران التي ترتبط معها مذهبيا، والأنكى من ذلك أن أذربيجان برزت فيها حركة قومية تدعو إلى توحيد الأذربيجانيين الأتراك في أذربيجان الكبرى بضم القسم الإيراني الشمالي إلى القسم السوفيتي الجنوبي.
وفي الوقت الذي استفزت فيه هذه الدعوة إيران فإنها لم تلق قبولا من تركيا أيضا، فإيران لا تريد قيام دولة تركية جديدة على حدودها الشمالية بخسارة جزء مهم من أراضيها، وتركيا لا تريد قيام دولة تركية جارة منافسة غنية بالبترول على حدودها.
يتبين من هذين المثالين أن الدين أو المذهب لم يعد يحمل نفس التألق القديم وربما لم يعد صالحا للعب أدوار متميزة ومؤثرة في علاقات الشعوب ببعضها حيث حلت المصالح السياسية محل الروابط العقائدية، وأصبحت الرابطة المذهبية أو الدينية مجرد هوية مشتركة قليلة التاثير.
وقد يكون في محصلات هذه النتائج عزاء لمن يدعي أن إيران تتدخل في شؤون العراق أو أنها تريد احتلاله لأن هناك بين العراقيين من يرى في إيران صديقة استراتيجية أو يشير في مقالاته وبحوثه إلى اهمية التعاون معها، فشيعة العراق إذا ما قدر لهم أن يستقلوا بدولة ـ مع استحالة هذا الأمر ـ لن يندمجوا مع إيران ولن يتحدوا معها، وسوف تعتبرهم إيران نفسها منافسا إقليميا جديدا حالهم حال أتراك أذربيجان الشيعة، ثم إن الشيعة في العراق أغلبية وهم يؤمنون عن يقين أن العراق عراقهم التاريخي ولا يفكرون أو يريدون التفريط به لصالح قيام دولة جنوبية شيعية مهما كانت الأسباب تماما، مثلما لا يريدون لدولة أخرى أن تحتل العراق باسم الدين أو المذهب أو العقيدة أو أي مسوغ آخر، وعلى الذين يروجون لنظرية سعي شيعة العراق، أو السياسيين الشيعة، أو سعي الحكومة الإيرانية لتأرين العراق أن يكفوا عن هذه المهاترات الفارغة والألاعيب المكشوفة، فهناك عشرات الجهات التي تريد تلوين العراق بألوانها دون أن يفطن لها احد أو يهتم لأمرها بما يؤكد أن ما يتحكم بالصراع الحالي هي المصالح وليست العقائد.

CONVERSATION

0 comments: