(ماذا "يريد الشعب" العربي بعد "اسقاط النظام"؟ ولم يجب الشعب بعد على هذا السؤال الذي ما زال يقض مضاجع كل المعنيين بأن يتحول غضبه العارم الى ثورة تأتي ببديل يعد بحل الازمات التي تعصف بالوطن العربي من مغربه الى مشرقه والتي فجرت هذا الغضب في المقام الاول)
يوم الجمعة الماضي،وكعادته كل اسبوع، نظم النظام المحاصر بالازمة الاقتصادية وقيود الحرب الاميركية على "الارهاب" قبل ان يكون محاصرا يالملايين التي شلت الحياة اليومية وعمل الدولة بسد الشوارع مطالبة باسقاطه حشدا ضخما في ميدان السبعين، اكبر ميادين العاصمة اليمنية، للدفاع عن "الشرعية الدستورية"، وفي الوقت ذاته كان حشد مماثل معارض يتزاحم في شارع الستين، اكبر شوارع صنعاء، متجها نحو ساحة التغيير في "جمعة الشرعية الثورية".
ومن الواضح ان النظام لو التزم بالشرعية الدستورية التي يتشبث بالحكم باسمها لما انفجرت أزمة الحكم الراهنة، بينما لم يتضح بعد بأن الشرعية "الشعبية" التي فرضت نفسها بقوة الشارع تملك بديلا ثوريا حقا للنظام الذي تريد اسقاطه في اليمن يسوغ رفع شعار "الشرعية الثورية"، مما يثير أسئلة لا مفر من طرحها والاجابة عليها حول ما اذا كان الطريق الى التغيير والاصلاح هو طريق الدستور وشرعيته أم هو طريق الثورة وشرعيتها.
وبين الشرعيات الدستورية والثورية والشعبية أو القبلية والطائفية والجهوية التي ما زالت تبحث عن خلاص وطني مستحيل في الاطار القطري لدولة التجزئة العربية ما زالت "الشرعية الوحدوية" الوحيدة القادرة على تحقيق الخلاص مفقودة، مع ان برنامج الخلاص الممكن الوحيد يظل وحدويا من الناحية الموضوعية، ان لم يكن ايمانا بحق الامة الواحدة في تقريرها مصيرها في موطنها الطبيعي مثل بقية الامم في العالم.
والظاهرة الأهم في "الربيع العربي" هو أن تأثير "الدومينو" ل"ثورة الياسمين" في تونس ما كان له ان يحدث لو لم تكن هذه امة واحدة موحدة ثقافيا ولغة وتاريخا وحضارة وهوية وديانة وحالا ومصيرا. لكن غياب البرنامج الذي يجيب على سؤال ماذا بعد "اسقاط النظام" جعل عضو مجلس ادارة المجلس الاوروبي للشؤون الخارجية، ايفان كراستيف، يتنبأ بأنه "في الشهور المقبلة سوف تفقد التطورات السياسية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا ببطء طبيعتها الاقليمية. فما يحدث في تونس سوف يكون اثره اقل في ما يحدث في مصر، وبالعكس"، على سبيل المثال، بمعنى ان "الربيع العربي" سوف يفقد عروبته!
ومما لا شك فيه ان شعار "الشعب يريد" قد تحول الى شعار ساحر قادر على تحريك الملايين العربية، شعار أعاد بقوة "الشعب" الى الخريطة السياسية العربية باعتباره الشرعية الطبيعية التي غابت أو غيبت لزمن طال اكثر من اللازم عن معادلة الحكم وصنع القرار العربي، بعد أن غيبته عن هذه المعادلة الهيمنة الأجنبية والانظمة المستبدة المستقوية بهذه الهيمنة أو المستبدة بحجة مقاومتها.
لكن ماذا "يريد الشعب" العربي؟ ان الجواب الواضح الوحيد الذي أجاب الشعب نفسه عليه حتى الآن هو أن "الشعب يريد اسقاط النظام" وتغيير الوضع الراهن المتعفن بالفساد والانفراد بالحكم الذي احتكر الثروة والسلطة واقصاء الشعب عن صنع القرار الوطني بقوة أجهزة أمنية تضخمت واستفحل نفوذها وتغولها على المجتمع المدني لا بل حتى على الجيوش الوطنية.
لكن ملايين هذا الشعب نفسه لم تجب بعد على السؤال الذي لا مفر منه وما زال يقض مضاجع كل المعنيين بأن يتحول هذا الغضب الشعبي العارم الى ثورة تأتي ببديل يعد وعدا له صدقية واقعية بحل الازمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالوطن العربي من مغربه الى مشرقه والتي فجرت هذا الغضب في المقام الاول، اي: ماذا بعد اسقاط النظام؟
في مقال له في الغارديان البريطانية نشرته يوم الخميس الماضي وصف الناشط في "الثورة" اليمنية د. طارق الدعيس هذا السؤال ب"الحارق"، قائلا ان "اللجنة القيادية للثورة" طورت "رؤية" للمرحلة الانتقالية فحسب لخصها في سبع نقاط:
اولها انشاء مجلس رئاسي مؤقت من خمسة الى سبعة اعضاء،
وثانيها فترة انتقالية لا تتجاوز تسعة شهور،
وثالثها دمج الاجهزة الأمنية في جهاز امني وطني واحد خلال الفترة الانتقالية،
ورابعها انشاء مجلس وطني انتقالي يمثل فيه الشباب والتجمعات الوطنية والسياسية ينشئ بدوره منبرا شفافا لحوار وطني يناقش كل القضايا الهامة ويؤلف لجنة من الخبراء لوضع مسودة دستور جديد يؤسس لدولة مدنية عصرية اضافة الى لجنة اخرى تدير وتشرف على استفتاء على هذه الدستور وكذلك على انتخابات برلمانية على اساسه،
وخامسها اعادة هيكلة القضاء لضمان استقلاله عن السلطتين التنفيذية والتشريعية،
وسادسها محاكمة من قتلوا او امروا بقتل او جرح المشاركين في الثورة والغاء المحاكم الاستثنائية والسجون الخاصة والافراج عن سجناء الضمير،
وسابعها وآخرها تجميد ممتلكات الرئيس علي عبد الله صالح وأسرته وغيرهم من اركان نظامه واعادة كل الاموال العامة والخاصة المنهوبة. وخلاصة هذه "الرؤية" هي اسقاط حكم النظام ومحاسبة حكامه واصلاح نظامهم لا اسقاطه، وهذا ليس برنامجا لنظام بديل يمكن وصفه ب: ثورة" تغير اسس النظام القائم.
ان مسوغات تغيير الانظمة اقوى من مسوغات اصلاحها، لكن الاصلاح باعتباره أضعف الايمان يستتبع بحكم المنطق استبعاد الحديث عن الشرعية "الثورية"، فالشرعية "الشعبية" بزخمها الراهن تملك ما يكفي من القوة لفرض الاصلاح. غير ان الشرعية "الثورية" بحكم طبيعة الثورات ذاتها في التجربة التاريخية يكاد يستحيل الفصل بينها وبين العنف، والعنف في "الربيع العربي" اما تحول الى حرب اهلية او هو يهدد بالتحول الى حرب اهلية، وهذه بدورها قادت الى التدخل الاجنبي أو هي تنذر بالتدخل الاجنبي.
لذلك، في الحالة اليمنية على سبيل المثال لا الحصر، فان تشبث الرئيس صالح كحاكم بحكمه، ووجود حالة شعبية رافضة لهذا الحكم وتريد اسقاطه لكنها تفتقد البرنامج لخلق نظام بديل لنظامه، هو وضع لا يستدعي رفع شعار "الشرعية الثورية"، فالرؤية المنظورة للتغيير تستهدف اصلاح النظام اكثر مما تستهدف تغييره بنظام آخر بديل يرغب فيه الشعب حقا غير انه لم يتلمس بعد أو يعرض بديلا ملموسا واضحا له. ومن المؤكد ان الشرعية "الشعبية" وسلمية الحراك الشعبي المعبر عنها كافية لتحقيق الاصلاح، لأن أي سلوك على اساس الشرعية "الثورية" في هذه الحالة سوف يترك اليمن في مواجهة الاختيار بين نظام النظام على علاته وبين فوضى المجهول الذي سيعقب اسقاطه.
ولو اقتصر الأمر على فوضى المجهول لهان، لكن الفوضى تعني فراغا في السلطة المركزية، ولأن الطبيعة ذاتها لا تحب الفراغ، فإن هذا الفراغ في أهون الشرور سوف تملأه القبيلة التي تظهر قوية كلما ضعفت السلطة المركزية، والقبيلة في اليمن قبائل عريقة قوية، والقبائل في اليمن قبلية وعصبية تفرق اكثر مما توحد، وتقود في نهاية المطاف الى حكم القبيلة أو اسرة منها يتفرد بها احدهم ليعيد التاريخ ذاته فيجد اليمنيون أنفسهم مرة أخرى في مواجهة الرئيس صالح باسم ووجه جديدين، هذا إذا لم يقد المجهول الناجم عن غياب البديل الى ملئ الفراغ في السلطة المركزية بسلطات انفصالية قبلية هنا وهناك، وبخاصة في الجنوب وفي الشمال.
وبالرغم من تعدد القبائل وعراقة القبلية في اليمن، فانها جميعها تعتز بهويتها اليمنية وانتمائها للوطن اليمني عبر تاريخ طويل ترسخ فيه هذا الانتماء والهوية. لكن المجتمع المدني اليمني هو الذي يترجم هذا الانتماء الى الهوية الواحدة ووطنها الى دولة واحدة موحدة ذات سيادة تمثلها. أما القبائل فقد كانت دائما تفرق بين الأمرين ولا ترى ولا تريد أي رابط بينهما، وكانت وما زالت تعتبر "الشرعية القبيلة" مرجعية للحكم والسلطة والحياة ذاتها.
صحيح أن "الشرعية القبلية" قد انضوت في ساحة التغيير تحت راية الشرعية "الشعبية" التي ترفع العلم الوطني وتنشد النشيد الوطني وسط موج هادر من الشباب المسيس لكنه غير منتم الى احزاب، غير ان "الشرعية القبلية" العريقة تعززت بالشرعية "الشعبية" الحديثة وان بدت في الظاهر أنها تعززها، ولن يمضي وقت طويل بعد حسم الصراع مع حكم النظام الحالي حتى ترتد القبيلة الى دورها التقليدي في البحث عن حصتها في نظام الحكم الجديد مستقوية بورقة "الشرعية الشعبية" التي ساندتها في كفاحها الحالي من أجل التغيير والاصلاح، اللهم الا اذا تطور شعار "الشعب يريد اسقاط "النظام الى شعار "الشعب يريد بناء" نظام جديد له قيادة واضحة تلتزم ببرنامج محدد لنظام بديل.
وفي ليبيا القذافي يتضح البديل القبلي في مؤتمرات القبائل التي تعلن على شاشات التلفاز الرسمي بأنها "الشرعية" التاريخية والحالية الباقية مهما تغيرت الأنظمة ردا على "مجموعة الاتصال" الدولية والعربية التي تعترف بالمجلس الانتقالي في بنغازي ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي، في عرض يكاد يرقى الى بديل يطرحه نظام القذافي رسميا كبديل له. وفي اليمن ربما كانت الرئاسة اليمنية تسعى الى بعث رسالة مماثلة من "المعركة" التي اندلعت في صنعاء مؤخرا بينها وبين صادق الأحمر شيخ قبيلة حاشد التي لها تاريخ حافل في الاختلاف والخلاف مع الرئاسة الجمهورية للبلاد منذ خلافها مع عبد الله السلال اول رئيس للجمهورية مرورا بالرئيس ابراهيم الحمدي وانتهاء بعلي عبد الله صالح. وحتى في مجتمع مدني عريق مثل المجتمع السوري جرت محاولة دفع رموز قبلية الى واجهة المعارضة سرعان ما حشد النظام ردا قبليا عليها "تبرأ" من هذه الرموز على شاشة الفضائية الرسمية.
ان أسئلة مثل ماذا بعد اسقاط النظام هي حقا أسئلة "حارقة" كما كتب الطبيب اليمني طارق الدعيس. وأحد هذه الاسئلة يثيرها شعار "جمعة الشرعية الثورية" التي رفعها د. الدعيس واخوانه في شارع الستين وساحة التغيير بصنعاء يوم الجمعة الماضي:
أليست الشرعية الثورية هي التي انتجت انظمة الحكم العسكرية او انظمة الحزب او الفرد الواحد التي يقدم اليمنيون اليوم الشهداء من أجل اسقاط أحدها؟ لقد طورت ساحة التغيير "رؤية" لسلطة مؤقتة تقود مرحلة انتقالية وتمنع حدوث فراغ في السلطة المركزية، لكنها لم تقدم بعد أي حل او برنامج لحل الازمات التي دفعت ملايينها للخروج الى الشوارع مطالبة باسقاط النظام، والمقصود عمليا كما تتمخض عنه التطورات الآن هو اسقاط حكم النظام.
واذا كان غياب البرنامج البديل لدى المطالبين بالتغيير في اليمن سيقود الى مجرد تغيير في حكم لم يكن لديه بدوره برنامج لحل الازمات في البلاد وبالتالي لن يغير في الوضع اليمني سوى واجهة الحكم، فان غياب البرنامج البديل لدى المطالبين بالتغيير في حالة مثل سوريا ستكون له نتائج عكسية مضاعفة.
فالحكم السوري لديه برنامج داخلي للبناء والاصلاح جعل سوريا مكتفية ذاتيا بالغذاء الذي جعل فقدانه اليمن افقر دولة عربية ومصر رهينة لواردات الحبوب الاميركية، وبنى فيها دولة قوية تميزت في المنطقة والعالم بنعمة استقرار تحسد عليها قبل تطور الوضع الراهن بينما يصنف المراقبون اليمن بين الدول الفاشلة، ولديها برنامج وطني لتعزيز دفاعها وتحرير اراضيها المحتلة في هضبة الجولان جعل الجيش العربي السوري في عداد الجيوش التي يحسب حسابها في المنطقة والعالم ينتظر الفرصة السانحة لتكرار حرب تشرين عام 1973 التي يتجاهلها معارضوه ويأخذون عليه التزامه بهدنة يرونها طالت أكثر من اللازم، ولديه برنامج قومي ضمن رؤية استراتيجية عربية تحتضن المقاومة العربية للاحتلال الأجنبي تدفع سوريا ثمن الالتزام بها من أمنها الداخلي والخارجي.
لكن المأخذ المشروع على الحكم للمطالبين بتغييره يتلخص في أدواته التنفيذية الموروثة من عهد الحرب الباردة والتي قادت الى المظالم التي أخرجت الناس الى الشوارع والتي اعترف الحكم ذاته بمشروعيتها وضرورة اصلاحها. لذلك فان الخيار في سوريا اليوم هو بين برنامج يحكم وبين معارضة لم تعد مجهولة الهوية لكنها ما زالت مجهولة البرنامج. ومن هنا كون الشرعية "الشعبية" منقوصة، والشرعية "الثورية" مفقودة، وشرعية الحكم صامدة بانتظار اصلاح لشرعيته "الدستورية" توجد حاجة اكيدة له، بينما لم تشهد شرعيته العربية ما آلت اليه الشرعية العربية للنظام الليبي وبينما لم يطرأ جديد على شرعيته الدولية يضيف الى الطعن الأميركي – الغربي المعهود فيها.
ان المراقبين يكادوا يجمعون اليوم على ان اسقاط الحكم في تونس، لكن في مصر بخاصة، لم يسقط النظام بعد، وبينما يهدد غياب البرناج البديل لاقامة نظام بديل بانفراط الوحدة الشعبية التي وحدها شعار اسقاط النظام يستجمع النظام الذي غير وجوه حكامه قواه مستقويا بالانقسام الذي يطل برأسه في الوحدة الشعبية.
وتتسم الموجات الشعبية ل"الربيع العربي" بأنها تعرف ما لا تريد، لكن غياب البرنامج يجعلها لا تعرف ما تريد. وغياب البرنامج الذي يوضح البدائل الداخلية والخارجية للنظام المراد تغييره او اصلاحه او اسقاطه يجعل التضامن العربي الشعبي الذي يأتي تلقائيا وعفويا عادة يأتي مشروطا هذه المرة او لا يأتي. فالمحتجون السوريون واليمنيون يشكون من غياب التضامن العربي معهم. والتدخل العسكري الاجنبي لحلف الناتو في ليبيا جعل قلوب العرب مع الشعب الليبي وعقولهم في مكان آخر لأنهم يخيرونهم بين الوقوف الى جانب حرية المواطن الليبي وبين حرية الوطن الليبي، فالعرب من التجربة العراقية المرة يرفضون أن تتحقق حريات الفرد على حساب حرية الوطن وسيادته واستقلاله.
ومن المؤكد ان اي تغيير في اي قطر عربي لا يكون تغييرا لتنصل اي نظام من مسؤولياته القومية تجاه القضية الفلسطينية او يكون تغييرا باتجاه فك ارتباط بين أي نظام وبين هذه المسؤوليات لن يكون تغييرا جديرا باي تضامن شعبي عربي او اسلامي. ووجود برنامج بديل واضح هو فقط الذي يجيب على اسئلة "حارقة" كهذه.
ومرة أخرى يفرض المثال السوري نفسه: عندما يجد معظم الشعب الفلسطيني نفسه متعاطفا مع نظام يمثل رافعة له في صموده ومقاومته للاحتلال فان ذلك لا يعني أبدا عدم تضامنه مع الطموحات المشروعة للشعب السوري في الحرية، لكنه يعني أن هذه الطموحات تفتقد البرنامج الذي يطمئن الشعب الفلسطيني على التضامن العربي السوري وغير السوري معه.
ويلفت النظر في هذا السياق بيان صدر باسم كتاب ومثقفين فلسطينيين "يتضامنون مع الانتفاضة السورية" ليتبين بأن الموقعين على هذا البيان أعضاء وموظفون في "تحالف السلام الفلسطيني" و"مبادرة جنيف" ممن يتناقض مسارهم المعزول عن الشعب فلسطينيا مع كل ما يؤمن به الشعب السوري نظاما ومعارضة.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com
0 comments:
إرسال تعليق