دخلت الثورة الشعبية ضد النظام السوري اسبوعها الرابع عشر، واشتد الصراع بين قوى أمن النظام المدعوم بوحدات عسكرية وأبناء الشعب السوري المصّرين على المطالبة بحرياتهم السياسية والمدنية، وبحقهم الطبيعي في المشاركة في صنع مستقبل بلدهم ومحاسبة المسؤولين عن انتشار الفساد وضياع الثروات.
ومنذ بداية المطالب الشعبية بالاصلاح لجأ النظام إلى استخدام العنف المفرط والرصاص الحي لتفريق المتظاهرين وترويع المطالبين بالحريات والتعددية السياسية بالجوء إلى البطش والتنكيل. وبدى واضحا منذ اللحظات الأولى بأن النظام السياسي السوري غير مستعد للاستجابة لمطالب الشعب المشروعة ومصّر على احتكار السلطة والحيلولة دون قيام تحول ديمقراطي حقيقي.
لم يكن التحول الديمقراطي مكونا من مكونات رؤية بشار الأسد للإصلاحات التي دعا إليها عقب توليه الحكم عام 2000، بل اقتصر خطاب القسم على إشارات إلى إصلاحات إقتصادية وإدارية. واعتمد الأسد خلال عقد كامل من حكمه مقولتين للتعامل مع المطالب الديمقراطية. فعلى الصعيد الخارجي، أعلن في سلسلة من المقابلات الصحفية والتلفزيونية التي أجراها معه الاعلام الاوربي والامريكي، أن الشعب السوري لم ينضج بعد لممارسة الحياة الديمقراطية، ملمحا إلى أنه الوحيد القادر على تحديد لحظة النضح الديمقراطي للشعب السوري. وعلى الصعيد الداخلي، عوّل الأسد على الموقف السوري الممانع خطابيا للهيمنة الصهيونية على المنطقة ، والداعم لحركات المقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي لتبرير سياسات القمع ضد منتقدي النظام والمطالبين بالحريات.
لذلك شكلت الانتفاضات الشعبية الواسعة التي بدأت في الخامس عشر من آذار (مارس) الماضي في مدينة دمشق والتي تفجرت في مدينة درعا في الثامن عشر من الشهر نفسه مفاجأة كبيرة لنظام الأسد ولمعظم المراقبين السياسيين، بعد أن رحب الأسد بالثورة المصرية في مقابلة أجراها في مطلع العام مع جريدة الوول ستريت واعتبرها خطوة مهمة لدعم الموقف. وأبدى النظام السوري يبوسة عجيبة في التعامل مع المطالب الشعبية الاصلاحية، مصرا على إبقاء الدولة الأمنية التي عمل على تكريسها خلال عقود أربعة بتطوير اجهزتها المتعددة واعتماد الترويع للتعامل مع الاصوات المعارضة للاستبداد والمناوئة للفساد. وسارع النظام لمواجهة التحركات الشعبية على محورين: المحور الأول تجلى بخطاب سياسي مقرّ بوجود مطالب محقة لدى الشارع السوري المنتفض، وبفعل تسويفي التفافي يقوم على تقديم سلة من الوعود غير مقيدة بجدول زمني واضح.
تجلى المحور الثاني لتحرك النظام بالحل الأمني القائم على القمع والترويع من خلال أعمال القتل المتعمد والاعتقالات العشوائية والإذلال المفرط، والذي انتهى بتحريك القوات المسلحة المزودة بالأسلحة الثقيلة. وتم تبرير التحركات العسكرية والمجازر الجماعية برواية رسمية حول مؤامرات دولية وعصابات مسلحة لم يتمكن إعلام النظام الرسمي من تقديم دليل مقنع على وجودها، بل اقتصرت الأدلة على اعترافات متلفزة وصور لأسلحة ورزم من الأوراق النقدية. في المقابل استطاع الثوار توثيق مجازر النظام واستخدامه المفرط للقوة وتحالف قواه الأمنية مع عصابات الشبيحة التي وظفها لقمع المتظاهرين والتي اتهما الثوار بالضلوع بأعمال قتل عناصر الأمن لتبرير العنف الأمني والانتشار العسكري.
يبوسة النظام السوري القاتلة
يبدو تصلب النظام في تعاملة مع حراك شعبي يطالب بإصلاحات سياسية ضرورية وحتمية خطأ قاتلا وخيارا يتناقض مع أي تحليل عقلاني للحالة السورية التي هي جزء من تطور سياسي أقليمي وعالمي. هذا الموقف اللاعقالاني لنظام يقوده رئيس حول خطاباته إلى مناسبات لممارسة التحليل السياسي والتنظير الاستراتيجي يرجع بالدرجة الأولى إلى بنية النظام وأدواته. فنظام الحزب الواحد الذي انشأه الأسد الأب تحول في زمن الأسد الإبن إلى نظام أسري مغلق، تنحصر فيه السلطة السياسية في أيدي حفنة صغيرة من أقرباء الرئيس، يتولون مراكز أمنية مفصلية، ويهيمنون على الحياة الاقتصادية، ويتحكمون في مؤسسات الدولة.
استطاع حافظ الأسد من توطيد دعائم سلطته السياسية بتوظيف التباين الاجتماعي والسلطوي بين المدينة والقرية، والتعويل على أبناء الريف المهمش سياسيا والمحروم اقتصاديا لبناء قواعد النظام السياسي الحالي. واعتمد الاسد الأب على التضامن الداخلي للطائفة التي ينتمي إليها وقام بتجنيدها في المؤسسة الأمنية والعسكرية لمنع التحرك العسكري وإنهاء سلسلة الانقلابات العسكرية التي اشتهرت بها سوريا خلال الخمسينيات والستينيات. لكن إدخال الطائفة العلوية في ميزان المعادلة السلطوية لم يؤد إلى تغيير كبير في الميزان الاجتماعي والاقتصادي بين أبناء الطائفة مقارنة بأبناء الطوائف الأخرى، بل برزت خلال ولاية الأسد الأب نخبة حاكمة جديدة تشكلت من الائتلاف العسكري-الإدارة-التجاري. وشملت هذه النخبة عددا من القيادات الأمنية والحزبية التي دخلت في تحالفات مالية مع كبار التجار لتشكل طبقة اجتماعية متحكمة بالاقتصاد التبادلي دون أن تكون خاضعة لمبادئ التنافس الاقتصادي. هذا ما جعل التبادل التجاري في أعلى مستوياته غير منتج بالطريقة التي تسمح بالنمو الاقتصادي الطبيعي، بل أدى إلى ولادت طبقة محدودة من الأثرياء القادرين على احتكار المشاريع الكبيرة لتحقيق ثراء سريع في الثمانينيات والتسعينيات، وإفقار الغالبية المنتجة من السكان.
الوضع السياسي إزداد سوءا في العقد الماضي مع تولي بشار الأسد مقاليد الحكم واعتماده سلة مختلطة من "الإصلاحات." وبالرغم من تأكيده على شروعه ببناء دولة المؤسسات وتلميحه إلى أهمية تعزيز حقوق المواطنة والحريات والممارسات الديمقراطية خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه، فقد حزم نظام الأسد الأمني أمره باعتماده سياسية القبضة الحديدية التي اعتمدها حافظ الأسد خلال فترة حكمه مجهضا بذلك احلام الاصلاح السياسي والحريات السياسية التي داعبت خيال السوريين خلال فترة ربيع دمشق. ومضى الأسد في إجراءات الاقتصاد المفتوح وتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية، وشرع في عملية خصخصة العديد من قطاعات الاقتصاد العام وفي مقدمتها قطاع الاتصالات. وحكم عملية الخصخصة هذه الحراك التجاري المبني على تحالف مراكز القوى مع القطاع التجاري الخاص، وظهرت إلى الساحة وجوه جديدة كان أبرزها رامي مخلوف الشريك التجاري المستقل للنظام السوري. ولم يلبث مخلوف أن تدخل مباشرة وبأساليب الترغيب والترهيب للتحكم بأهم المشاريع التجارية وذلك للحيولة دون توليد مراكز ثقل مالية مستقلة عن سيطرة النخبة الحاكمة ومنعا لنشوء مراكز قوة سياسية مستلقة عن نظام الأسد.
وفي غياب التقييم المحايد المستقل لحركة الاقتصاد السوري ومعدل التنمية الحقيقي، حرص الفريق الاقتصادي الجديد الذي مثل واجهته عبد الله الدردري على رسم صورة مشرقة لتطور الاقتصاد السوري اخفت داخلها المشاكل العديدة التي تواجه الحراك الاقتصادي السوري، وفي مقدمتها الاستشراء العميق والمتزايد للفساد المالي والاقتصادي مع غياب الرقابة الشعبية وبروز طبقة رأسمالية طفيلية تسعى إلى الربح السريع. ولقد أعطت حركة الانفتاح الاقتصادي وتعديل القوانين للسماح بالمصارف الأهلية وإنشاء سوق للأسهم وتشجيع الاستثمار الخارجي انطباعا إيجابيا زائفا. الانفتاح الاقتصادي في حقيقة الأمر اقتصر على الاستثمار العقاري والسياحي، ولم يشمل القطاعات الانتاجية الضرورية لتوليد فرص عمل للأمواج المتدفقة من الشباب الجامعي الطواق إلى حياة منتجة كريمة. وهكذا أدى العقد الأول من حكم الأسد الإبن إلى إفقار شرائح واسعة من السوريين، خاصة أبناء المدن والقرى الواقعة خارج مركزي الحراك التجاري والمالي، مدينتي دمشق وحلب.
الحراك الشعبي الداخلي
الشعارات الثلاثة التي ميزت الانتفاضة الاصلاحية التي لم تلبث أن تحولت إلى انتفاضة ثورية هي شعارات "الحرية" و "الوحدة الوطنية" و "السلمية". يبدو للوهلة الأولى أن شعاري الحرية والوحدة اللذين تنادي بهما الثورة السورية نسخة طبق الأصل لشعاري حزب البعث. فمنذ عقود ينادي البعث السوري بشعار "وحدة وحرية واشتراكية" وهو الشعار الذي لم يتغير رغم تراجع النهج الاشتراكي لدى نظام بشار الأسد واستبداله بنظام الانفتاح الاقتصادي والاستثمار الحر، وهو موقف يعكس الانفكاك المستمر بين الواقع والخطاب في سلوك الحزب والنظام من جهة، وغياب التنظير والرؤية السياسيين عن الدوائر الحاكمة في سوريا. بيد أنه من الضروري أن نفهم أن شعاري "الحرية" و "الوحدة الوطنية" اللذان تنادي بهما الثورة مختلفات في الفحوى والمفهوم عن شعارات حزب البعث الأساسية. مفهوم الحرية في الاستخدام البعثي الذي يعود إلى مرحلة الاستعمار يشير إلى حركة التحرر الوطنية نحو الاستقلال عن الدولة الاستعمارية، في حين يشير شعار الحرية لدى شباب الثورة السورية الحالية إلى التحرر من تسلط الدولة الأمنية التي أقامها حزب البعث لضمان استمراره في مواقع السلطة. وفي حين يشير مفهوم "الوحدة" البعثي ذي البعد القومي إلى الوحدة العربية، فإن الوحدة التي يدعوا إليها الثوار هي وحدة وطنية بين أبناء الشعب السوري المتنوع قوميا ودينيا وسياسيا. وهذا لا يعني بطبيعة الحال عدم اهتمام الثورة السورية الحالية بإقامة دولة قوية مستقلة أو تراجع الرغبة بتحقيق وحدة مع دول الجوار، بل يعكس قناعة راسخة بأن الحرية والوحدة الحقيقيين لا يمكن الوصول إليهما قبل تحرير الشعوب من تسلط النخب الحاكمة وبناء دولة القانون ودولة المؤسسات.
شعار "السلمية" يعكس آلية التغيير التي يعتمدها الثوار للوصول إلى نظام سياسي يحترم الحريات السياسية والمدنية. يظهر من خلال التأمل في المواقف المطروحة أن بعض من يدعو إلى السلمية يرى أنها ضرورة حركية نظرا للتفاوت الكبير في معادلة القوة بين النخبة الحاكمة والتحركات الشعبية، في حين يرى فريق آخر أن السلمية مبدأ أخلاقي واستراتيجية سياسية ممتدة. وبالتالي فإن الفريق الأخير، الذي تمثل فكرة السلمية التي دعا إليها ونظر لها المفكر الإسلامي جودت سعيد، يصر على نبذ الصراع المسلح مع النظام حتى ولو حصل تغيير في معادلة القوة بين مراكز السلطة والمعارضة. وأي كان الباعث لرفع شعار السلمية فإنه شعار يجب التمسك به في سياق الثورة السورية وعدم تجاوزه إلا ضمن ظروف خاصة ووفق شروط محددة لا يمكن الخوض فيها ضمن هذا السياق، بل يكفي أن نشير إلى أن هذه الظروف والشروط تشمل حالات الإبادة الجماعية، وتوحد القوى الشعبية ضمن جبهة وطنية عريضة التمثيل ووفق بنية سياسية قادرة على تحقيق انضباط ذاتي لمختلف القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية.
التحدي الأساسي الذي يواجه الحراك الداخلي هو توسيع قاعدة الثورة لتشمل شرائح واسعة من أبناء سوريا، بما في ذلك الاقليتين المسيحية والعلوية اللتين لا تزالا تترقبان بحذر التحركات الشعبية، ومواجهة الدعاية الرسمية التي تحاول زرع الخوف بتصوير الثورة على أنها حراك طائفي ديني يسعى ِإلى إنشاء دولة دينية، أو إمارة سلفية كما يحلو لأبواق النظام الأسدي تسميتها. تحول الانتفاضة السورية من مظاهرات مئوية وألفية إلى مظاهرات مليونية خطوة حاسمة في تعجيل سقوط النظام، لكن مثل هذه النقلة قد تأخذ وقتا أطول وتترافق مع بدء إنهيار نظام الأسد اقتصاديا، وهو أمر واقع لا محالة إذا استمرت التحركات الشعبية إلى نهاية العالم الحالي. الانهيار الاقتصادي محتوم مع امتداد الانتفاضات لأن المصادر الأساسية للإنفاق الحكومي تتحدد في السياحة والاستثمارت العقارية وتصدير النفظ الخام والغاز.
التحدي المهم الآخر الذي يواجه الثورة هو غياب البنية السياسية والأطر التنظيمية القادرة على تنسيق الحراك السياسي الداخلي. صعوبة تطوير البنى السياسية للتشاور وتوحيد القرار متوقعة في ظل نظام أمني شمولي نجح في تغييب مؤسسات المجتمع المدني وتحويلها إلى مؤسسات موجهة حكوميا وأمنيا. ثمة جهود لإيجاد منابر لتوحيد قوى المعارضة وحركة الإصلاح وفق منابر واسعة، كما بدى جليا في إعلان مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي طرحته قيادات شعبية محسوبة على التيار الإسلامي التقليدي، أو في مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا إليه ميشيل كيلو ولؤي حسين والذي من المفترض أن يبدأ هذا الأسبوع في دمشق.
إعلان دمشق كان يمكن أن يلعب دورا مهما في تمثيل أطياف المعارضة. لكن جهود نظام الأسد الحثيثة في ملاحقة قياداته وممارسة ضغوط كبيرة للحيولة دون تحوله إلى جبهة سياسية معارضة، وغياب الانضباط السياسي عن بعض رموزه مع غلبة الطموح الفردي على الحس الجمعي حال دون قيامه بالدور المطلوب في الداخل السوري. لكن الحراك السياسي أفرز بعض الأطر الشعبية والسياسية ظهر منها أتحاد تنسيقيات الثورة ولجان المحلية للثورة والتي لازالت بنيتها أقرب إلى شبكة ترابط وتواصل منها إلى منظمة منضبطة.
الحراك السياسي السوري الخارجي
بدأ الحراك السياسي السوري الخارجي يلعب دورا أساسيا مع بدأ الانتفاضة في منتصف شهر آذار المنصرم. ومع ازياد أعمال القمع والقتل ومضي الثوار في مواجه الآلة الأمنية لتحقيق مطالبهم الاصلاحية ثم السعي إلى إسقاط النظام بعد لجوء نظام الأسد إلى الوحدات العسكرية للقضاء على التحرك الشعبي. ومنذ البداية أعلنت قوى المعارضة في الخارج أولوية الداخل في تحديد مسار الحراك وسقف المطالب. وانضم للمعارضة منظمات حقوقية وأهلية تمثل المغتربين السوريين والمهجر. وأعلن الجميع أنهم صدى للتحرك الداخلي وأنهم ليسوا في موقع المزايدة على مطالب الداخل، بل في موقع التأييد والدعم ورجع لصدى أصوات الشارع السوري النابض.
فاجأ الشارع السوري الجميع بشعاراته الواعية و تحركاته السلمية ورؤيته المتفتحة على أطياف المجتمع السوري، كما فاجأ الجميع بإصراره الواضح على مواجه أجهزة القمع التي تفننت في ترويع السوريين بصبر وثبات وثقة. فبعد سنوات من التحرك الخجول لإقناع النظام بتوسيع دائرة الحريات السياسية والمدنية وبالتحرك في إتجاه حراك سياسي ديمقراطي تعددي، وجدت المعارضة السورية نفسها أمام تيار شعبي كسر كل حواجز الخوف وتحرك بثقة كبيرة وشجاعة نادرة لتأكيد حقوقه ومطالبه ودعوة النظام إلى توفير الحريات أو التنحي. لذلك وجدت المعارضة السورية نفسها غير قادرة على اللحاق وتأمين الدعم اللازم للضغط على نظام الأسد.
واظهر مؤتمر انطاليا ثغرات في قدرات المعارضة التنظيمية، وخلل في آليات التنافس والتكامل السياسي، وقصور في قنوات التواصل والتشاور، وحاجة إلى رؤية استراتيجية لتوجيه الحراك السياسي الميداني. وساهم وجود عدد كبير من الناشطين المستقلين في تخفيف جوانب القصور في بنية المعارضة التقليدية وتحقيق شئ من التلاحم التنظيمي وانسجام الخطاب السياسي . وخرج المؤتمر بتوصيات مفيدة ولكنها دون مستوى الحراك الداخلي ومتطلبات المرحلة.
المطلوب اليوم رفع مستوى الحراك الخارجي لتوفير الدعم اللازم والضروري لنجاح الثورة السورية وتحقيق النقلة من النظام الأمني إلى النظام الديمقراطي. وهذا يتطلب توظيف الخبرات الإدارية والسياسية والامكانيات البشرية والمالية لمنع التفاف نظام الأسد على الارادة الشعبية المصرة على الحرية والوحدة الوطنية. يمكن للجالية السورية الأمريكية أن تلعب دورا حاسما في هذا المجال نظرا للموارد البشرية والمادية المتميزة لهذه الجالية واجواء الحريات السياسية التي لا تتوفير لكثير من المغتربين السوريين.
الحراك السياسي المطلوب يجب أن يهدف إلى عزل النظام خارجيا وزيادة الضغوط لدفعه إلى البدء الفعلي بإجراءات التحول الديمقراطي وفتح المجال لقوى المعارضة بممارسة دورها الكامل في توجيه الحياة السياسية في البلاد. والحراك المطلوب يشمل بتقديم التصورات وإعداد الدراسات اللازمة لتحقيق نقلة واعية نحو حياة سياسية ديمقراطية، ومن ثم تهيئة الأطر اللازمة للمساهمة بتنمية القدرات المحلية الضرورية في مرحلتي الثورة وما بعد الثورة.
القوى الدولية والجغرافيا السياسية السورية
الموقع الجغرافي والتحيز السكاني والهوية السياسية لسوريا يجعلها مثار اهتمام دول إقليمية وقوى عالمية، ومحلا لصراع المصالح الدولية. فإيران ترى في سوريا حليفا استراتجيا في مواجهة الغرب؛ ولبنان يرى فيها مصدر تأثير في الصراع السياسي الداخلي بين قوى 8 و 14 آذار؛ وحزب الله يرى فيها عمقا استراتيجيا في صراعه مع إسرائيل مصدر التهديد المستمر لأمنه؛ وإسرائيل ترى فيها مصدر استقرار سياسي أمني أو مصدر حراك سياسي وعسكري مناوئ؛ والولايات المتحدة ترى فيها عامل استقرار سياسي للمنطقة أو مصدر فوضى سياسية يمكن أن تهز أمن إسرائيل. وفرنسا وبريطانيا ترى فيها مصدر دعم لحلفائها التاريخيين أو لخصومهم السياسيين؛ في حين ترى روسيا فيها الحليف الوحيد المتبقي في منطقة الشرق الأوسط؛ أما السعودية فإنها ترى في سوريا حليفا لخصمها التاريخي إيران أو النظام الوحيد المتبقي من المنظومة العربية القديمة والتالي عامل استقرار ضد الحراك الديمقراطي الذي يمكن أن يهدد النظام السعودي.
وإذا ما اسثنينا فرنسا، فإن معظم الدول المذكورة أعلاه لا تزال تميل إلى الحفاظ على النظام السوري، والسعي إلى ممارسة ضغوط محدودة لدفعه إلى تعديل سياساته الداخلية والخارجية بما يتلاءم مع مصالحها السياسية. لكن مواقف هذه الدول تتجه تدريجا نحو التصعيد والمواجهة مع تزايد أعمال العنف وتوسع دائرة الانتفاضات الشعبية ضده. يبوسة النظام ونهجه الأمني واستعداده لاستخدام العنف المفرط في التعامل مع الحراك السياسي الداخلي، يدفع به إلى إعادة توليد مشاهد الصراع المسلح الذي تفجر في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانيات بين السلطة وجماعات الإخوان المسلمون، اعتقادا منه أن الحل الأمني كفيل بتثبيت أركان النظام المركزي الذي يصر على تكريسه غير مدرك أو عابئ باستحالة استمرار نظام أمني يقوم على حكم الأسرة وتقديس الحاكم.
استراتيجية العمل السياسي الخارجي يجب أن تقوم على مبدأ تعبئة الدول الاقليمية والقوى الدولية لممارسة ضغوط ديبلوماسية وقانونية واقتصادية لدفع النظام إلى التراجع عن الحل الأمني، ورفض التدخل العسكري الذي يمكن أن يهز أركان الدولة السورية ويدفع البلاد إلى حرب أهلية طاحنة. ولا أرى إمكانية تبرير التدخل العسكري إلا في حالة واحدة: شروع النظام بحرب إبادة منهجية بغية القضاء على المجموعات السكانية الحاضنة لجهود التغيير الديمقراطي.
محركات التغيير واحتمالات المستقبل
من الضروري تحقيق حالة تكامل بين الحراك الداخلي والخارجي لتحقيق الشروط الضرورية للقيام بعملية التغيير الديمقراطي المنشود، وهذا يعني صمود الثورة في الانتفاضات الشعبية والعمل على توسيع نطاقها على مستوى الداخل، وبناء البنى السياسية الموازية والبديلة، والعمل الدؤوب لحصار النظام الأمني السوري ديبلوماسيا ومن خلال العقوبات الموجهة ضد قادة النظام وحلفائهم من رجال الأعمال والتجار.
إنهيار النظام السوري واقع لامحالة تحت ثقل وزنه الذاتي ونتيجة لحالة اليبوسة التي وصل إليها وفقدانه الليونة الكافية لتعديل مواقف استجابة للمطالب الشعبية. ويمكن أن يحدث هذا التحول إما بعد إنهيار النظام كليا نتيجة تزايد زخم الانتفاضات الشعبية وانهيار البنية الاقتصادية التي يقوم عليها. وهذا المشهد يتطلب صراع سياسي مستمر قد يصل إلى العام أو يزيد قليلا. أو يمكن أن يحدث التغيير من خلال شروع النظام بوقف أعمال العنف والاسراع بتحقيق مطالب الثورة السورية الرئيسية، هذا يعني سقوط النظام الأمني ودخول البلاد في حراك ديمقراطي يسمح بإعادة هيكلة بنية الدولة وبناء البنية التحتية الضرورية لقيام دولة القانون ومجتمع الحريات السياسية التي يطوق إليها معظم السوريين على امتداد الارض التي اختلط ترابها بدماء شهداء الحق والعدل والحرية على امتداد تاريخها الطويل.
د. لؤي صافي رئيس المجلس السوري الأمريكي واستاذ الدراسات الشرق أوسطية وناشط في الدفاع عن حقوق الجالية العربية والإسلامية في أمريكا. يمكن قراءة تعليقاته على الأحداث على مدونته: http://safireflections.wordpress.com
0 comments:
إرسال تعليق