خوارج العصر/ فؤاد الحاج

"أمة لا تعرف تاريخها لا تحسن صياغة مستقبلها".

يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة تتبدل ملامحها مع بداية كل قرن، ويبدو أن الأمة لم تتعلم من التاريخ سوى البكاء على الأطلال والتغني بأمجاد ذلك الماضي الذي قال فيه جمال الدين الأفغاني، ونقله الأمير شكيب ارسلان في كتاب: (حاضر العالم الإسلامي 206) كلما قاتل لهم المرء اعملوا، "قالوا: أن آباءنا كانوا كذا وكذا.. فعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه اليوم من الخمول والضعة. وكلما راد الشرقيون الاعتذار عما هم فيه من الخمول قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا".

ففي بداية القرن العشرين كان الجهل والتخلف سمة ذلك القرن كما كانت الأمية متفشية في المجتمعات العربية، ثم بدأت حركة التنوير والنضال ضد المستعمرين والطغاة، فتناقصت أعداد الأميين، وازداد عدد المتعلمين والمثقفين، ومعهم ازداد أعداد النفعيين والمتسلقين على أكتاف الحركات الثورية إن في مصر أو في العراق أو في سوريا، كما في اليمن وليبيا ولبنان وفلسطين وبلدان المغرب العربي، وفي بلدان عربية أخرى.

ومع دخول القرن الحادي والعشرين نجد أن الشعوب تعيش حالة من عدم الاستقرار سياسي وفقدان الأمن الذاتي والاجتماعي والاقتصادي، حيث نسمع ونرى أن الإنسان ما زال مهدداً في حياته ورزقه يومياً، فإن خرج لعمله متكلاً على الرزاق الكريم تدعو له عائلته بالعودة سالماً غانماً ويعيشون بقلق وحيرة إلى أن يعود مساء من عمله، وذلك إما بسبب البطالة المتزايدة أو شح الأموال بين يدي الشعب، أو بسبب العصابات المتكاثرة بمسميات دينية وطائفية حيث يتم تفجير دور العبادة لمختلف الطوائف والمذاهب الدينية، سواء أكانت مسيحية أم إسلامية ومن باقي الديانات الأخرى دون استثناء، ويغتصبون النساء والفتيات ويحللون ويحرمون كما يوافق هواهم، ويصدرون الفتاوى التي لا علاقة للدين الإسلامي الحنيف بها لا من بعيد ولا من قريب، إضافة إلى التفجيرات الإرهابية هنا أو هناك التي يذهب ضحيتها أبرياء، إن في دور العبادة أو في الأسواق التجارية، كما حصل ويحصل في العراق وفي سوريا ولبنان ومصر والصومال ومالي والنيجر، وكأن لسان حالهم يقول "هذه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"! فهل تدمير دور العبادة واغتصاب الفتيات والنساء وقتل الأبرياء ونهب البنوك وتهجير سكان القرى والبلدات بدع وضلالة؟!

وفي الوقت نفسه لازالت الأخبار تنقل إلينا يومياً قصص الفساد الفساد المستشري في السلطات السياسية وهدر الأموال العامة، إضافة إلى الفساد الاقتصادي والإداري إن في الدوائر الرسمية لدول عربية وفي الأحزاب والنقابات، كما تنقل إلينا أخبار المفسدين في السياسة والمتلاعبين بلقمة عيش المواطن التي تنخر اقتصاد هذه الدولة أو تلك دون رقيب أو حسيب، ولو جمعنا تلك الكتابات والتحليلات لاحتاجت إلى مجلدات وموسوعات. فنجد مثلاً هذا الكاتب يضع اللوم على البطالة، وآخر يضعه على سياسة الدولة، وغيره يضعه على الصهيونية، وآخر يضعه على الإدارة الأمريكية! وبعض المفكرين الذين يحسبون على صفوف الوطنية والتقدمية يتفقون على أن السبب هو غياب مبدأ المواطنة الحرة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.

ترى ما الذي أدى إلى هذا الحال؟ سؤال يحتاج إلى ندوات ومؤتمرات ديمقراطية لمعالجة الخلل الذي أوصل أمة كانت خير أمة في العلم والتحضر والمدنية، أمة انطلق منها شعاع المعرفة للعالم أجمع. وبما أن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، وكي لا نبقى نردد "لا تبكي مثل النساء ملكاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال"، أو المثل الشعبي الذي يقول "ما الذي أجبرك على المر" وجوابه "الأمَر منه". رب إضاءة على بعض الجوانب تكون مفتاحاً لباب موصد يساعد على الولوج لطرح قضايا أدت إلى أسباب تراجع هذه الأمة وتخلفها عن ركب المستقبل دون أن التنكر للماضي المجيد في حاضر فيه ما فيه من السوء بحاجة إلى تغيير شامل.

بداية وبعيداً عن الببغائيات والشعارات لابد من القول أن التمنيات لدى الكتّاب أو الصحافيين يمكن اعتبارها حلم لدى كل منهم بأن يتخلص الشعب من حالة تزايد البطالة، وتأمين لقمة العيش والتعليم والدواء لجميع المواطنين، والقضاء على الصهيونية والعنصرية، والطائفية والمذهبية، والسيادة الحقيقية في الوطن بعيداً عن تأثيرات إدارات الشر الأمريكية وتوابعها. وكتابات المفكرين ليست أكثر من نظريات عامة تشرح حالة وتطرح حل مرحلي ربما يؤدي إلى حل شامل، بينما الواقع يختلف كلياً عن التنظير من وراء مكتبه، فالذي يقول ويكتب لا يعيش واقع المواطن وتفاصيل حياته اليومية من القهر والمعاناة والظلم. أما المُر اليوم فهو ما يسمى "داعش" و"النصرة" و"حالش" وجماعة "الأمر بالمعروف" و"أنصار الله" و"عصائب الحق" و"أنصار بيت المقدس"، وغير ذلك من تسميات تفرّخ كل يوم تسميات جديدة بحيث بات من الصعوبة تعدادها في البلدان العربية، والأمَرّ من ذلك وجود أنظمة استبداد وتسلط ورجال دين يسخرون الدين للسلطان الجائر دون استثناء.

لذلك أقول أنه لا يمكن في هذه المقالة الإجابة على سؤال، ترى ما الذي أدى إلى هذا الحال؟، سوى القول أن الذين يعتبرون أنفسهم مثقفين ومسؤولين في الأحزاب وفي النقابات وفي الحكم يتحملون القسط الأكبر مما أوصل الشعوب إلى هذا الحال. وذلك بسبب تمسك البعض منهم بكرسي الحكم إن في الدولة أو في الأحزاب أو في النقابات والتنظيمات الجماهيرية، مع التنويه إلى أن الكثير من النواب والوزراء الذين كانوا في سدة المسؤولية إن في الأحزاب أو في النقابات أو التنظيمات المختلفة قد تخلوا عن مبادئهم وخلفياتهم لدى وصولهم إلى المجالس النيابية والحكومية. والبعض الآخر الذين لازالوا في أماكنهم أو انشقوا وأسسوا أحزاباً وتنظيمات بدعوى الديمقراطية وحرية التعبير فهم لا يقرأون، ومع الأسف إذا قرأوا فهم لا يقرأون إلا ما في رؤوسهم، وفي الوقت نفسه لا يستمعون للآخر. والآخر هنا إضافة إلى المحللين والمفكرين والكتّاب المناضلين العرب من أجل غد مشرق أفضل للأمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، أعني مراكز البحوث والدراسات غير العربية لأنه مع الأسف لم يعد يوجد مركز أبحاث أو دراسات يحمل صفة العربي إلا ما ندر في عصر الانترنيت، لذلك ما أقصده بالآخر هو الذي قد نشر دراسة أو بحث أو كتب تحليلاً أو أصدر كتاباً يتناول قضايا العلاقات الأمريكية مع البلدان الأخرى مثل كتاب (أمة من الغنم – في السياسة الخارجية الأمريكية والتعتيم الإعلامي وحجب الحقائق عن الشعب) الذي صدر عام 1961 لكاتبه (وليام ج. ليدرر) والذي يكشف فيه كيف تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية مع بعض الدول في تلك الحقبة، وكيف أن الشعب الأمريكي قد تم خداعه والكذب عليه بواسطة وسائل الإعلام، وكيف استطاعت هذه الوسائل أن تحجب الحقائق عما يجري في العالم الخارجي، وتتركه لا يعرف شيئاً حتى خارج المدينة التي يعيش فيها. كما يشرح الكاتب كيف تصاغ السياسة الخارجية الأمريكية، ودور المساعدات الأمريكية، وتغلغل هيئة الاستخبارات الأمريكية في كل مكان مما أدى إلى ترك الشعب الأمريكي وممثليه بلا أدنى معلومات صحيحة عن القضايا الخارجية. وأيضاً كتاب (اعترافات سفاح اقتصادي) أو (اعترافات قاتل اقتصادي مأجور) لكاتبه (جون بركنز) الذي صدر عام 2004، ويروي فيه تجربته كعميل لسابق لوكالة الأمن القومي الأميركية (سي آي أي) ويكشف فيه الدور الذي تلعبه البنوك والشركات العالمية لسرقة دول العالم وإغراقها بالديون ومن ثم وضعها تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بينما تسرق الشركات المتعددة الجنسيات، مثل (هاليبرتون) و(بيكتل) مواردها بحجة التنمية، وكيف تتم السيطرة أو الحروب على الدول. وكذلك كتاب (إرث من الرماد) لكاتبه الصحفي الأميركي (تيم واينر) مراسل "نيويورك تايمز" الذي صدرت طبعته الأولى بالعربية عام 2010، ويتحدث فيه عن تاريخ الـ"سي آي أي" ونشأتها بالوثائق، وأهميته تكمن برأينا بأنه يطلعنا على العوالم الداخلية والتنازع بين المؤسسات داخل أروقة السلطة في أميركا حول دور الوكالة، وكيف تعمل على إسقاط الأنظمة، وكنا في (المحرر) نشرنا حول هذا الكتاب في العدد 279 عام 2009، وكتاب (إنشاء حضارة جديدة - سياسة الموجة الثالثة) لكاتبه ألفين وهيدي توفلر، ترجمة حافظ الجمالي، الذي صدر عام 1998 عن منشورات اتحاد الكتاب العرب. وكتاب (صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري من 1500 إلى 2000)، لكاتبه المؤرخ البريطاني بول كينيدي، وكتب كثيرة أخرى.

والأهم هو عدم قراءة أولئك المثقفين والمسؤولين والمستشارين في الأنظمة العربية الحاكمة لكتب التاريخ بمختلف ألوانها فباتوا جميعاً أسرى "الأنا" و"من بعد عشبي لا ينبت عشب"، وبذلك أصبحت المجتمعات العربية لم تعد تجد ما يوحدها قومياً بفعل الأحداث الأليمة المتتالية، ولا تجد حتى دينياً ما يوحدها بسبب تكاثر المتدثرين بعباءة رجل الدين، الذين جعلوا من المسلم إنساناً طائفياً ومن النصراني أو المسيحي إنساناً "كافراً" ومن العربي الوحدوي إنساناً "علمانياً كافراً" وجميعهم باتوا أسرى الإعلام الفاسد المُضَلِل وخدم للحكام الفاسدين، مما جعل الشعوب ترتد إلى عصر القبلية الجاهلية، مما استولد التطرف الديني بكل المعايير.

ومن أهم أسباب نشأة التطرف الديني هو الاستبداد السياسي الذي تجسده عصا الأنظمة الأمنية القاسية والغليظة وعدم تطبيق القانون إلا على المستضعفين والفقراء، بينما الأغنياء والمتدثرين بعباءة رجال الدين لا قانون يحاسبهم ولا حدود تمنعهم عن الفساد في كل البلدان العربية دون استثناء. وكذلك ارتهان الأنظمة السياسية في البلدان العربية لمحافل الشر الدولية بقيادة إدارة الشر الأمريكية العالمية دون مراعاة لحقوق المواطن وعدم حصول الموطن على حقوقه المشروعة في كافة المجالات في وطنه ليعيش بعزة وكرامة، وتوفر أسباب العيش الكريم وعدم الخوف من المستقبل، دون وساطة أو انتماء لهذا الحزب أو ذاك، ودون تقبيل يد هذا الزعيم أو النائب أو ذاك الوزير، أو الأمير، أو الملك أو الرئيس، ليدخل ابنه/ابنته إلى المدارس والجامعات، وتأمين الوظائف والعمل، والتطبيب له ولأفراد عائلته. ففقدان كل ذلك لابد أن يستولد مجموعات منحلة أخلاقياً ودينياً.

ويتجسد ذلك في أوضح صوره من خلال الإعلام الناطق بالعربية وظهور ما يسمى بـ"داعش" وأخواتها، لأن العدو الحقيقي موجود في داخل البلدان العربية وليس فيما وراء البحار كما يردد بعض الكتبة. فملالي إيران والصهيونية العالمية وإدارة الشر الأمريكية وأتباعها لو لم يجدوا أمكنة وثغرات كبيرة بل وأنفاق طويلة من الظلم والقهر الاجتماعي للمواطن المقهور، الذي لا يتمتع بخيرات وطنه، ولا يحترم كإنسان، ولا توفر أسباب الأمن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي له ولعائلته، إذ لو توفر له حدود من ذلك لما قدرت قوى الشر في الدخول إلى المجتمعات العربية ليعيثوا فيها فساداً بأيدي أبنائها الناقمين على شلل الحكام وأزلامهم، حتى بات الموطن العربي يعيش في أزمات متتالية خانقة من فلسطين إلى العراق واليمن وسوريا ومصر وليبيا وتونس وغداً الجزائر التي يعملون على تأجيج العصبيات والطائفية فيها كما فعلوا في السودان وفي اليمن.

ويمكن التأكيد هنا أن التطرف الديني الذي أدى إلى تشكيل الخلايا الإرهابية هو صناعة أمريكية صهيونية بامتياز، ويقع ضمن مخطط تفتيت البلدان العربية وإعادة رسم خارطة البلدان العربية في "سايكس بيكو جديد" بمشاركة ملالي قم وطهران الذين يسعون إلى إقامة الدولة البويهية ثم الدولة الصفوية، ومن ثم بسط سيطرتهم من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط كما أعلن يحيى رحيم صفوي، القائد السابق لما يسمى "الحرس الثوري" الإيراني والمستشار العسكري الحالي "للمرشد الإيراني الأعلى"، حيث قال بتاريخ 3/5/2014 وفق ما تداولته وسائل الإعلام ن حدود بلاده الحقيقية ليست كما هي عليها الآن، بل تنتهي عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر الجنوب اللبناني، وهذا يتوافق مع المخططات الصهيونية بإقامة دويلات طائفية مذهبية من أجل تحقيق إقامة "الدولة العبرية" في فلسطين المحتلة.

وأخيراً إلى العربان المراهنين على دور أمريكا في حل النزاعات لابد من تذكيرهم أن أمريكا منهارة اقتصادياً واجتماعياً، وأنها في طور الأفول، لذلك يحاول صناع القرار فيها عدم انهيارها من الداخل، وذلك من خلال إرسال جيوشها إلى القواعد العسكرية التي تزيد عن 152 قاعدة عسكرية في أرجاء العالم، حيث تدفع أنظمة البلدان التي تقام فيها تلك القواعد بطريقة أو بأخرى رواتب أو معاشات الجنود وثمن الأسلحة، إضافة إلى أن الاقتصاد الأمريكي يقوم في جزء هام منه على الصناعات الحربية التي تدفع ثمنها أنظمة النفط والغاز في البلدان العربية.

وأختم بأنه ليس بالكلام فقط يمكن أن تنهض الأمة، بل بالحمية والتعصب للأمة والقومية يمكن استشراف نهضة مستقبلية عامة تشكل رافعاً وحدوياً يدفع الأمة إلى بناء صروح المستقبل التي يتمناها كل امرئ حر غيور على وطنه وأمته، وهي تمنيات كل مواطن عربي كي لا يبقى خارج الزمان وفي المكان الخطأ حيث بات التخلف يتحكم في يوميات حياته، كما يتحكم خوارج العصر في رقاب الأبرياء.

CONVERSATION

0 comments: