قراءة في ديوان "مزاج غزة العاصف"* للشاعر فراس حج محمد/ رائد الحواري

عندما يكون الشاعر عاجزا إلا من قصيدته وحزنه
**
نظرة على الديوان بأقسامه الثلاث:
من صفات الكاتب الجيد الانتماء لوطنه لإنسانيته، "فراس حج محمد" استطاع في ديوانه أن يثبت لنا بوعيه وفي العقل الباطن أنه صاحب قضية، الديوان مقسم إلى ثلاثة أقسام، ففي القسم الأول كانت صدمة الحرب على غزة كبيرة جدا على الشاعر، بحيث لم يستطع أن يستوعبها، فأخذ يكتب بطريقة الشاعر الحساس/المنفعل/الحزين على ما يجري؛ فهو غير قادر على الفعل الإيجابي، إنقاذ الناس من الموت ووقف نزيف الدمار والقتل، فأصبح كئيبا.
هناك أكثر من مشهد يقدمه لنا الشاعر عن حالة الكآبة فنجد في قصيدة "المكتئبون" هذه المشاهد:
"تقف فيه سيارة مكتئبة الظلّ
منكسرة المرآة
عديمة الحركة!" ص9 
فهنا انعكست حالة الكآبة على الأشياء، فأصبحت في عين الشاعر مثله مصابة بالكآبة. كما نجد صاحبه يعاني منها أيضا فيقوم بهذا الحركات:
"يضع رأسه بين كفيه
ويحني رأسه
وينفث غلالة من وجع" ص9
بعد هذا الحديث عن الصديق تأخذ حالة الكآبة منحى جديداً، بحيث يكون الشاعر قد فقد توازنه وأخذ يهذي قائلا: 
"ماذا لو رن الهاتف ونحن مكتئبان ومعنا في البيت هناك امرأة مكتئبة؟
كيف سيكون رد المكتئبين؟
وكيف يمكن أن تفهم أنت غير المكتئب قصيدة مكتوبة بريشة الاكتئاب المرضى؟
كيف يفكر المكتئب على نحو حاد ليتخلص من جنون الاكتئاب؟" ص10 
في هذه القصيدة كان استخدام لفظ الاكتئاب كبيرا جدا، حتى أن القارئ يتأكد بأن الشاعر فقد توازنه الشعري، وأصبح مصابا بالاكتئاب، فلم يعد قادرا على تجاوزه، فكان كل بيت/سطر فيه تكرار لكلمة الاكتئاب.
كما نجد في هذا القسم فقدان الشاعر للمكان/الجغرافيا، وكأنه في تيه، في عالم آخر، أو أن الصدمة أفقدته حضور المكان، فكان يتحدث بطريقة تبدو لنا شخصية، حالة إنسان يعاني من الاغتراب، فلا يلقي بالا للجغرافيا، فهي عنده غير ذات أهمية، لكن إذا ما تمعنا فيها وجدنا فيها ما هو وراء الشخصية، فهناك بعد/دافع عام، وطني، إنساني هو ما دفع الشاعر وجعله يمر بحالة اللاوعي، فيحدثنا عن نفسه وعن الكآبة غير أبه بمن سيقرأ هذه القصائد.
حالة الفوضى التي يمر بها الشاعر تجلت بقصيدة "ألا يكفيك يا مدن" التي يصبّ عليها جام غضه قائلا:
"ألا يكفيك يا مدن ففعلك عابث عفن
سرقت الحرف من لغتي وأشبعك الردى الوهن
فكفي عن مضاجعتي فأنت النار والوثن" ص15
بهذا التوازن الشعري يؤكد لنا الشاعر قدرته على التقدم من المنطق/الخطاب العقلاني، فهو يعي ما يمر به، فقدم لنا هذا القصيدة كإشارة منه لنا بأنه بكامل قدراته الشعرية والعقلية، لكن لا نأخذ عنه فكرة الضياع والتشتت عند اشتداد الأزمات.
وإذا ما قارنا هذه القصيدة بما قبلها وجدنا فروقا كبيرة، ففي "المكتئبون، وكثيرون" كانت الألفاظ تكررت كثيرا، ففي الأولى كان لفظ (المكتئبون)، وفي الثانية استخدام إيماء الإشارة، هم، هناك، وحرف الجر الذي يعطي معنى الحضور "في الكتب/في الأغاني/ في المسافات" ص12، فكانت المتكررات تعطينا فكرة/حالة عدم السيطرة عند الشاعر، فما يعانيه من ضغط نفسي كشاعر، وهول الصدمة التي تعرض لها، أفقداه قدرته على التركيز وإعطاء القصيدة جمالية لغوية أو لفظية، فكان التكرار يعكس حالة عدم الاتزان التي يمر بها.
كلنا يعلم مكانة المرأة بالنسبة للرجل، فما بالنا بالنسبة لشاعر! ورغم أن الشاعر كتب ديوانا كاملا بالمرأة "أميرة الوجد" إلا أن حالة الحرب أفقده هذا الإحساس الناعم تجاهها، وجعلته يأخذ مسارا مغايرا، يقول في قصيدة "النساء":
"النساء اليوم لسن ذات شهوة حقيقية
كالشمع الأحمر
أكثر وضاءة من قبل
لكنهن أقل حيوية وحياة!
متحجرات كجذع الشجرة
لا تأتيهن النشوة الكاملة" ص17و18
إذن حتى النساء وما فيهن من حنان وما يحملنه من راحة وسكينة للرجل، فقدنها، ولم يعدن أكثر من هم زائد، وهنا مرة أخر يقول لنا الشاعر في اللاوعي بأن كل شيء أصبح فاقدا للمعنى، فاقدا للمحتوى، فالصدمة جعلته يفقد كل الرغبات ومشاعر الفرح واللذة.
وهنا نستحضر فتاة الحانة في ملحمة جلجامش عندما جاءته في أبهى حلة وطلبت منه العودة إلى مدينته (أوراك)، لكنه رفض واستمر في سعيه للانتقام لمقتل صديقه (أنكيدو) من خلال البحث عن الخلود، فهي بكل ما تحمله من مؤثرات جنسية لم تكن لتجعله يتراجع قيد أنملة عن مراده، بل فعلت العكس، فقدمت له دفعا إلى الأمام. وهنا فراس حج محمد يقوم بعين الفعل، التقدم أكثر من المأساة والتوحد معها.
مشاهد القتل بالجملة للعائلات الفلسطينية انعكست على الشاعر، فكانت من خلال قصيدة " ظلاميون" التي جاء فيها:
"صغاري اليوم في النعش
يئن بجرحهم صوتي" ص 24
كثرة القتل ومشاهد الجثث للكبار والصغار تركت أثرها في الشاعر حتى أنه جعلها جزءا منه، فكانوا قريبين منه جدا حتى أنهم أصبحوا أبناء له.
أما القسم الثاني فبعد أن يتجاوز الشاعر حالة اللاشعور التي مر بها، يتقدم من جديد إلى الأحداث التي دفعته إلى الكتابة عن غزة، فنجده يستخدم من جديد التكرار للألفاظ، فجاءت كلمة (غزة) وكأنه من خلالها يريد أن يكفّر عما بدر منه في القسم الأول، ويريد أن يؤكد حضور المكان/ الجغرافيا التي أهملها تماما في فترة الصدمة التي تعرض لها، فيقول في قصيدة "نبوءة من بعض نصر!":
"هنا نحتاج غزة!!
لتنتعش الكرامة من جديد" ص65
فكأن غزة البلسم الشافي لما مر به الشاعر، وهي من ستقدمه من جديد من ذاته، من واقعه، من جغرافيته، فعنون بعض القصائد بعنوان مباشر كما هو الحال في قصيدة "غزة في اليوم الحادي عشر"، و "غزة لم تتعب من النداء". 
واقع الحرب يتناوله الشاعر في هذا القسم بشكل واعي، فقد استفاق من صدمة الوهلة الأولى، وأخذ يتناول الحرب بصورتها القاسية فيقول عنها في قصيدة "حديث النار في جسد الماء الطري": 
"النار آكلة نهمة!
لا تريد أن تشبع
رأت شبحا طفوليا بسن الرابعة
انفتحت شهيتها وأرغت
أزبدت
شدت مآزرها
وقامت مسرعة
لحم طري جاءني، سيكون لي بعض الطعام لأشبعه" ص81و82
بهذه الصورة للحرب يمكننا التعرف على الأهوال التي تتركها في النفس الإنسانية، فهي متخصصة في التهام اللحوم الطرية، وتفضلها على سواها من اللحوم، فكل ما تفعله هو أكل البشر، وتدمير الحياة، ومع هذا تبقى نهمة لا تعرف الشبع، أو التعب، فهي تجدد ذاتها في كل لحظة: 
"بأن النار لا تشبع
ولم تشبع
ولن تشبع" ص83.
يستخدم الشاعر اللهجة المحكية المصرية في قصيدة "كلام إعلام" وكأنه بذلك يوثق العلاقة الوطيدة التي تربط مصر بفلسطين، حتى أن المتلقي لتك القصيدة يشعر بأن كاتبها مصري وليس فلسطينيا، فيقول فيها:
"عاشت أم الدنيا فينا
مصر أمي مش كلام
غزة عرضي مش كلام" ص93
فاستخدامه للهجة المصرية كان متقنا وجميلا، فمن خلال هذه القصيدة كان الشاعر يتقدم ويقدم مصر من القضايا القومية العربية.
وفي القسم الثالث وبعد أن يكتفي/ يشبع الكاتب من تناول الحرب وما تحمله من ضغط نفسي، يتجه إلى ذاته كشاعر، إلى أداته القصيدة، فهي عالمة الذي به يتغذى ويغذي الآخرين، فيقول في قصيدة "هؤلاء الشعراء":
"من بعد موت الشعراء
من ذا الذي سيرتب
أحلام الطفولة
من ذا الذي سيتفقد الأسرّة والقصص
والأناشيد واللحن والصور الخيالية" ص116 
فالحياة لن تكون مستقيمة/طبيعية عندما يموت الشعراء، فهم من يضفي لمسة جمالية، هادئة، ناعمة، فرحة للأطفال، فبدونهم لا يمكن للحياة أن تستقيم أو أن تسير بشكل طبيعي، فهم من المكونات الفرح والجمال فيها.
يتقدم الكاتب من القصيدة التي تمثل له الأوكسجين الذي به يحيى، فيقول عنها:
"أهرب من كل قصيدة رديئة
تفرض نفسها بخيالها الهش
تفضحني
أنت أيتها القصيدة المنتظرة
كيف لا تأتين بكامل الزينة" ص120 
همّ الشاعر يتمثل بالحرص على أداته، القصيدة، بها يتغذي ويغذي، ومنها يعطي ويأخذ، من هنا لا بد من أن يكون حريصا على تقديم كل ما هو جديد وجيد ومفيد، لكي يبقى سليما، ويبقي متلقيه بحالة سليمة.
بعد التخلص من لعنة الحرب وأهوالها، يحدثنا الشاعر عن المرأة التي تركها/ أهملها، لا لذاتها، ولكن لظروف قاهرة، لحالة مرضية كانت قد فرضت نفسها عليه، فيقول عنها في قصيدة "حيث نور الوجه أندى":
"هي معتكف الجمال
حيث نور الوجه أندى
حيث زهر الخد طيب
بدت مثل الجمال مهيبة
فأتى إلي الوحي منها
كي يصوغ مصاغها" ص133
بهذا يكتمل شفاء الشاعر ويتقدم من جديد من ذاته، مشافى معافى، وبطاقة جديدة، تحمل المزيد من الهدايا للقارئ الذي سيستمتع بها.
التأثر بالقرآن الكريم:
ما يلفت النظر أن الشاعر استخدم في اللاوعي وفي وعيه شيئا من الآيات القرآنية لتأكد لنا الثقافة الدينية التي ينهل منها الشاعر، فيقول في قصيدة "هي القهوة الخائنة" سنعيدها سيرتها الأولى، فالقهوة فينا ساجدة وفينا راكعة" ص54
وفي قصيدة "يا ليتني قد مت":
"وكنن نسيا منسيا" ص57
وفي قصيدة"هؤلاء الشعراء":
"إنهم يسترجعون حياتهم 
بحياتهم كوالد وما ولد" ص117
وفي قصيدة"أسوأ ما يكون":
"فتغتسل الغيوم بماء منهمر" ص118
وفي قصيدة "ن/س":
"لكنا سنقوم كمن يتخبطه الشيطان من المس"ص127.
اعتقد بأن من الأهمية بمكان أن يكون للشعراء لغة خاصة بهم تميزهم عن غيرهم من الشعراء، فتجير/استخدام/استحضار/تضمين القصائد بنصوص مقدسة/عالمية/ تأثر بها الشاعر تنفتح وتفتح للمتلقي أبوابا جديدة للمعرفة وللاستمتاع، فهنا يدفعنا الشاعر إلى التقدم من القرآن الكريم لكي ننهل من تلك الثقافة والاستمتاع بها.
تأثر الشاعر بما جاء في كتاب "قلب العقرب":
من المؤكد أن يترك نص ثري وجديد، يطرح أفكارا حول أدوات الشاعر من لغة وقصائد تأثيرا ما في نفس الشاعر، إن كان بوعي أو في اللاوعي، من هنا نجد هذا الأثر في ديون فراس حج محمد، كان واضحا في قصيدة "هي تلك القصيدة" فنجد الألفاظ والمعاني التي استخدمها "محمد حلمي الريشة" حاضرة في الديوان، فيقول "الريشة" في كتابه "قلب العقرب": 
"إذا: ماذا فعلت للقصيدة آنذاك، وقد راودتها عن نفسها كثيرا، وكدت أقدّ ثيابها من قبل؟ بل وماذا فعلت هي بي، وقد راودتني عن نفسي أكثر، وكادت تقدني روحا وجسدا؟ لا شك أن كل واحد منا حاول الآخر، لكن دون جدوى لكثير من الوقت، بعده (نجحنا) في (التزاوج العرقي) أملا أن يرتاح الواحد منا من مطاردة الآخر حافيا على بقعة ساخنة جدا، فأنجبنا "أبابيل"،ص96، طبعا هذا لا يعيب الشاعر بل يحسب له، ويبن لنا مقدرة الشاعر على تطوير الذات وتقبل الأفكار الجديدة، وللعلم فإن "فراس حج محمد" قدم دراسة وافية عن كتاب "قلب العقرب".
علاقة صورة الغلاف بالمضمون:
الغلاف يحمل لون الدم، وهناك رؤوس بيضاوية اختفت منها كل تفاصيل الوجوه باستثناء مكان العيون التي لا يعرف من تفاصيلها شيء، سوى وجود مكان لها في تلك الوجوه، وهي باللون البني، لون البشرة الإنسانية، وهي تشكل رسما قريبا من كلمة لا، كإشارة إلى رفض القتل والموت الذي انتشر كالنار في الهشيم، وهذا يتناسب تماما مع مضمون الديوان الذي كان الموت السمة الأبرز فيه.
الأول من أيلول 2015

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الديوان من منشورات الزيزفزنة لتنمية ثقافة الطفل، رام الله، طبعة أولى 2015.
** كاتب وشاعر فلسطيني صدر له مجموعة من الإصدارات غير هذا الديوان، منها: "وأنتِ وحدك أغنية" و"دوائر العطش" وكتاب في النقد "ملامح من السرد المعاصر- قراءات نقدية في القصة القصيرة جدا".

CONVERSATION

0 comments: