إلى الماءِ يسعى.../ د. عدنان الظاهر

لا أعرفُ  اسمَ الشاعر الذي قال ذاتَ يوم وما أبلغ ما قال :
إلى الماءِ يسعى مَنْ يَغصُّ بلقمةٍ
إلى أينَ يسعى مَنْ يَغصُّ بماءِ ؟
هذا هو حالنا اليوم وحال متظاهري العراق شيباً وشبّاناً وصبيةً من كلا الجنسين ... يفوّضون رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي ويشيّمونه ويسبغون عليه ما يستحق وما لا يستحق من خصال ومزايا ونعوت وشيم وبطولات كأنهم يجهلون حقيقة الرجل ومن أتى به رئيساً للوزراء وكيف أتى وتسنم هذا المنصب وتحت أية ظروف. وكأنهم ـ لشديد الأسف ـ يجهلون أنَّ الرجل جزء من معدن وطينة وخامة النسيج السياسي الذي حكم العراق بعد سقوط البعث وسلطان صدام حسين. أجل يا سادة، ما هذا الرجلُ إلاّ واحداً منهم فيه ما فيهم وفيهم ما فيه عضواً قيادياً في حزب الدعوة فكيف تطالبونه بالقيام بثورة إصلاحية هو في واقعه الراهن أعجز من أنْ يقوم حتى بالجزء اليسير الهيّن منها. كيف تطلبون منه أنْ يحاكم حيتان الفساد وعلى رأسهم السيد نوري كامل المالكي وهذا أقدم منه في حزب الدعوة وأعلى شأناً وأرسخ قدماً وأكثر عُصبة وأتباعاً وحاشية ومنتفعين وفاسدين ومفسدين ؟ كيف تطلبون من رجل مقيّد اليدين أنَّ يفك أسر المظلومين وكيف تطلبون من رجل عاجز أنْ يثور ضد الظالمين ؟ كيف تطلبون من ظمآن جرعة ماء ؟ إنه واحد منهم وليس أكبرهم ولا أقواهم شوكةً ولا أكثرهم جاهاً وسطوة وهذه جميعاً أمور واضحة ومفهومة منذ البداية لذا أحسب أنَّ مبتدأ التظاهرات مخطوء أساساً وغير عملي أعني ما رفعوا من شعارات وما وجهوا من نداءات فالماء الذي طالبوا به غصّوا به وكما قال الشاعر المتنبي مخاطباً سيف الدولة الحمداني :
يا أعدلَ الناسِ إلاّ في محاكمتي
فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ
قد لا يكون السيد العبادي خصماً ظاهراً للمتظاهرين وضد ما يطلبون لكنه ليس الرجل الذي عليه يعوّلون وإليه يصبون فالأوضاع السائدة اليوم في العراق أكبر منه ومما فيه من طاقات وما لديه من صلاحيات. الرجل مطوّق ومُكتّف ( مكلبج ) تحيط به زُمَرٌ من رفاقه من كبار السُرّاق والفاسدين في أخلاقهم وفي تصرفاتهم وفي نواياهم. والرجل قبل وبعد ذلك يعرف مقدار طول قامته وطول باعه من بين الباقين وكمهندس لديه القدرة على حساب موازين القوى وقدرة تحمّله للضغوط والتحديات ويعرف أكثر من ذلك ما فيه من طاقات ومن قدرات على الحركة والمناورة وهي ضيقة جداً بحكم كونه عضواً في حزب الدعوة كغيره من قيادات الصف الأول وهم كثرة ويعرفهم جيداً الدكتور سليم الحسني. 
يا سادتي المتظاهرين الحالمين بالإصلاحات ... لا تسرفوا بالتفاؤل ولا تبالغوا بالمطالب ولا يمرّنَّ بخواطركم أنَّ العبادي يجرؤ أو يستطيع تقديم المالكي أمام المحاكم على كارثة سقوط محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وباقي المدن العراقية في كركوك وديالى ولا أنْ يحاسبه على مليارات الدولارات التي سُرقت أو نُهبت أو اختفت ولا يستطيع أنَّ يحاسب أيّ واحد من أتباعه والمحسوبين عليه من وزراء ووكلاء وزارات ومفتشين عامين وسفراء وقادة عسكريين وتجّار ومدراء بنوك ناهيك عن تقديم ولده أحمد للقضاء ومساءلته عمّا يملك من أموال وعقارات داخل وخارج العراق.
العبادي لا يستطيع وأنتم يا سادة تحمّلونه ما لا يُطيق وتطلبون منه ما لا يستطيع وقديماً قيل : إذا أردتَ أنْ تُطاع فَمُرْ ( أُأمرْ )  بما يُستطاع !
لا تظنوا يا سادة أنَّ العبادي رجل بارع في إمتصاص النقمة والغضب الجماهيري فالذين حوله من أُولي البأس والقوة مُكلفون بذلك متبعين أسلوبي اللين تارة والقوة تارة أخرى وراقبوا سلوك قوات الأمن وعصابات الأحزاب الدينية وخاصة حزبي الدعوة والمجلس الأعلى وتواطؤ بعض عناصر الشرطة والجيش المكشوف مع هذه العصابات.
أنفضوا أيديكم من العبادي ولا تعوّلوا عليه كثيراً أو قليلاً. كفّوا عن مخاطبة الموتى وفكّروا بأساليب أخرى للثورة والإصلاح علماً أنَّ زمن الإصلاح قد فات ومضى وانقضى ولا رجاء فيه وإلاّ فما نتوقع من بناء أساسه فاسد متعفن متفسخ ؟ حكومات يديرها عراقيون حكموا العراق نتيجة لإحتلاله من قبل أمريكا وحلفائها. عراقيون كان أغلبهم يعيش خارج العراق نصّبهم المحتل وزراءَ ورؤساءَ وزارات وسفراءَ وأغدق عليهم الأموال فقد أعطى الحاكم المدني بريمر مليار دولار لكل وزير في وزارة السيد أياد علاّوي ولا أحد يدري كيف صُرفت هذه الأموال الطائلة وفي أية وجوه تمَّ صرفها فلا وصولات ولا مذكّرات صرف ولا هم يحزنون !
يا سادة متظاهرون : لا تغيّر مظاهراتكم الوضع الراهن في العراق ولا إعتصاماتكم ولا عصياناتكم فالتغيير في بلدان مثل العراق يتم عن طريقين إما بالإنقلابات العسكرية أو بالتدخل الخارجي الأجنبي وقد حصل الإثنان في تاريخ العراق المعاصر. لكنَّ هذين الطريقين اليومَ مسدودان أمام أي مسعى للتغيير لأنَّ الجيش وقوات الأمن والشرطة مصطفة مع النظام القائم ومنتفعة منه إلى أقصى الحدود وخاصة كبار القادة والصفوف المتوسطة فيهم. عرف هؤلاء اللعبة فدخلوا الأحزاب الدينية الحاكمة وتحصنوا مستغلين حاجة هذه الأحزاب لهم ولخبراتهم السابقة زمان حكم حزب البعث ولتأمين مواقع هذه الأحزاب عسكرياً ومدنياً فضلاً عمّا في حوزتها من مليشيات عسكرية وعناصر أمنية خاصة. وماذا عن الطريق الثاني البديل للتغيير، أعني التدخل الأجنبي ؟ جواب هذا السؤال يعرفه القاصي والداني وهو أنَّ أمريكا وحلفاءها لا نيّة لهم لقلب وتغيير النظام الحاكم في العراق اليوم رغم ما فيه من عيوب ورغم كل ما جرى على أيدي زعمائه من سرقات وفساد سياسي ومالي وإداري وأخلاقي ذلك لأنَّ أغلب ما كانت تطمع أمريكا وحلفاؤها به قد تحقق، فها هو العراق مُمزّقٌ ضعيف ثلث أراضيه مُحتل متورط في حرب دفاعية ـ هجومية ضدَّ غُزاة دواعش فيهم عراقيون تستهلك هذه الحرب أغلب موارده المالية والعسكرية والبشرية وتشغله عن التفكير والمساهمة في أي جهد آخر يخدم القضية الفلسطينية مثلاً أو القتال مع الجيش السوري دفاعاً عن هذا البلد العربي الشقيق المجاور للعراق. فضلاً عن هذا كله فلأمريكا اليوم قواعد عسكرية على الأرض العراقية وبضعة آلاف من الجنود والمستشارين العسكريين وسفارة لا تضاهيها أية سفارة أمريكية أخرى في العالم وامتيازات تمس صميم سيادة العراق على أرضه وأجوائه الإقليمية والسفير الأمريكي في بغداد يصول ويجول ويتدخل في صلب شؤون العراق الداخلية فماذا تريد أمريكا أكثر من هذا ؟ لقد حقق لها إحتلالها العراق الكثير وما زالت تبغي الأكثر. لكل هذه الأسباب فلا من سبيل للتفكير بإمكانية أو رغبة أمريكا بتغيير الحكومة العراقية ومجمل العملية السياسية التي وضعت أسسها غير السليمة منذ البداية حيث المحاصصة الطائفية والقومية والدستور المحشو بالألغام والعثرات.
في ضوء هذه الحقائق ماذا عساكم فاعلين يا متظاهرون ويا قادة التظاهرات الشعبية الحاشدة وهل تأملون أنْ تؤدي هذه المظاهرات إلى  قيام تغيير جذري وإصلاحات ثورية تهز النظام القائم وتهد أسسه المتهرئة المتعفنة ؟ متى أصلح فاسدٌ متعفنٌ نظاماً فاسداً أكثر منه عفونةً ... متى ؟
من حقكم أنْ تسألوا وما الحل ؟ سؤال وجيه ووارد وأصارحكم القول إني مثلكم حائر محتار في أمر العراق ـ اللغز وكيف الخروج مما يحيط ويُحيق به من مخاطر ومنزلقات تهدد أسس وأصل كيانه كبلد موحّد له مياه وأجواء إقليمية وسيادة على كامل ترابه وإيقاف نزيف هجرة شبابه ومثقفيه وفيهم لا ريبَ كفاءات وكوادر مُدرّبة مؤهّلة أنفق العراق على تأهيلها الكثير. ما الحل يا شباب ويا أبطال أحرار ما الحل ؟ يرى كثيرون أنَّ الحل الأنجع هو في تشريع قانون تشكيل الأحزاب وقانون إنتخابات مجلس النواب ثم إعادة كتابة دستور عصري دمقراطي يكتبه خبراء عراقيون قانونيون ودستوريون متخصصون وأساتذة الجامعات من ذوي الخبرة والتخصص. هل هذه مقترحات قابلة للتنفيذ يتمخض عن تطبيقها عراق جديد خالٍ من المحاصصة عراق لكل العراقيين وليس حِكراً على أعضاء وأعوان الأحزاب القابضة بأسنانها على مقاليد الأمور فيه ؟
أرجو أن لا يظننَّ أحدٌ أني ضد هذه التظاهرات والإحتجاجات ... أنا فيها ومنها ومعها لكني أخشى من مغبّة الملل ونفاد الصبر من كلا الجهتين المتظاهرين والحكومة. الحكومة القائمة غير قادرة على تنفيذ مطاليب الجماهير المحتجّة بحق ومشروع كل الشرعية ما تطالب به هذه الجماهير ووراءها غالبية كبيرة من العراقيين المحرومين من خيرات العراق والمظلومين في كافة العهود. أنا معكم قلباً وسيفاً لكني أخشى إستدراجكم وإيقاعكم في فخ غير محسوب تجهلون طبيعته ولا تعرفون عواقبه. وأخشى ما أخشاه ( وأتمنى أنْ لا يقع ) هو التصادم الدموي العنيف مع قوات الجيش والشرطة لا تربحون منه شيئاً بل وستخسرون الكثير فالكفّتان ليستا متكافئتين من حيث القوة والسلاح والتنظيم. وراءكم شعب أعزل فقير ووراء قوات الجيش والشرطة دولة وحكومة تساندها أمريكا بكل ما بحوزتها من قوى وأموال وخبرات ومشاريع قصيرة وأخرى بعيدة المدى.
أخيراً أتساءل : 
1ـ ما مقدار تأثير العامل الإقليمي المحيط بالعراق على إمكانية ووتائر حصول التغيير الجذري الثوري المنشود ؟
2ـ هل نظام المحاصصة الطائفية والقومية والإثنية السائد اليوم نظام تؤيّده وتقف بقوة وراءه أنظمة وبلدان محيطة بالعراق أو حتى بعيدة عنه؟
3ـ هل هناك إمكانية حقيقية لتحوّل عراق اليوم إلى عراق مدني علماني خالٍ من المحاصصة ومبدأ التوافقات ؟
4ـ هل سيسعى العراق المدني العلماني المأمول والمطلوب إلى إلغاء ما أبرمت حكومات سابقة مع أمريكا من إتفاقيات عسكرية وأمنية وإخراج ما أدخلت أمريكا من جنود ومستشارين وإلغاء ما منحت نفسها من إمتيازات وحصانات ضد مصلحة وسيادة العراق ؟

CONVERSATION

0 comments: