في الهجرة وأسبابها وتداعياتها في النفس، من خلال الشعر/ د. عصام الحوراني

الهجرة ظاهرة اجتماعيّة،  ترتبط بالإنسان منذ أقدم العصور، وهي تتعلّق بعمليّة انتقال النّاس، أو تغيير مراكز سكنهم  من منطقة إلى أخرى في العالم لأسباب مختلفة. وقد تمثّلت الهجرات عبر التاريخ بالتحرُّك البشريّ مِن كلِّ الأعمار، والجنسيّات، والأعراق، والمستويات الثقافيّة، والاقتصاديّة المتنوِّعة. ونظرًا لأهمِّيّة هذه الظاهرة بالنسبة إلى ما ينشأ عنها من مشكلات، وأزمات كثيرة تؤثِّر في بلد المهاجرين الأصلي، كما في المنطقة التي يرحلون إليها. لقد بحث بأمر هذه القضايا الشائكة المفكِّرون والمتخصِّصون في علوم الإنترُبُولوجيا،  والاجتماع، والاقتصاد،  وغيرها  من العلوم الإنسانيّة، ودرسوا أسبابها المختلفة، وآثارها المعقَّدة، وتداعياتها المتنوِّعة. وسوف نلقي، في هذه الصّفحات المتواضعة، الضوء على هذه الأمور من جوانبها العامّة، وباختصارٍ كلّيّ، ذلك أن البحوث المعمَّقة في هذا الشأن تتطلّب جهدًا كبيرًا يلزمه الاستقراء، والاستقصاء، والمتابعة، والسّفر، وغيرها من وسائل البحث المنهجي العلمي، في  نواحيه  النظريّة،  والميدانيّة.  
أسباب  الهجرة نوعان: اختياريّة، تحصل بوساطة المبادرات الفرديّة سعيًا وراء عيش ٍ أفضل، وأخرى  إجباريّة تتم مع ممارسة الضغط، والقهر، والاعتداء على النّاس في منطقة معيَّنة، أو إثر الحروب، والتّطاحنات المتنوِّعة الأسباب والأهداف، وكذلك بسبب تبدُّلات البيئة الطبيعيّة، والكوارث وغيرها.  بالنسبة إلى النّوع الأوّل، ثمَّة عوامل متنوِّعة تدفع بالأفراد إلى ترك وطنهم والانتقال إلى بلد آخر بعيد أو قريب، يختارونه بأنفسهم، ويهاجرون إليه طوعًا، على الرّغم مِن أن أسبابًا كثيرة تكمن وراء هذه الهجرة الاختياريّة ومنها: تبدّلات اقتصاديّة، واجتماعيّة، وسياسيّة متنوِّعة تحيط ببلد ما، فينتج عن ذلك ضيق، وفقر، وهبوط في مستوى الثروة القوميّة، أو بطالة خانقة، أو تراجُع الطلب على الاستخدام مع  حلول التكنولوجيا المتطوِّرة جدًّا، والمتسارعة، والتي حلّت مكان العامل أو الموظّف في كثير من الأحيان. هذا عدا الحوافز الفرديّة الخاصّة التي تدفع بالإنسان إلى ترك وطنه من أجل البحث عن حياة أفضل، أو مِن أجل  العلم  والثقافة، أو لأسباب ذاتيّة  فيها البحث عن  الجديد، أو تبديل أنماط الحياة ودفع الرتابة والملل، أو من أجل طلب العُلى وفي سبيل العِزِّ والرفعة،  كما قال الطُغرائي (1063-1120):
إن  العُلى  حدَّثتني  وهي  صادقـــة        
فيما   تحدِّثُ  أنَّ  العـِزَّ  في  النِـقَــلِ ِ
لوْ أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ المُنى        
لم  َتبرِح ِ الشَّمسُ يومًا دارةَ  الحَمَلِ ِ

و قال الشّافعي (767-820 م):          
         ما في المقامِ  لذي  عقلٍ   وذي أدَبِ      
مِـنْ  راحةٍ  فدَعِ  الأوطانَ  واغتربِ   
         سافِرْ تجِدْ   عِوَضًا  عمَّنْ   تصاحِبُهُ      
وَانصَبْ فإنَّ لذيذَ العيش ِ في النَّصَبِ (العناء)                          
إنّي  رأيـتُ  وقـوفَ  المـاءِ  يُفـسِـدُهُ      
إنْ سـالَ طابَ وإنْ لم  يَجْـرِ لمْ  يَطِبِ              
والتِّبْرُ  كالَتُرْبِ  مُلقىً  في  أمــاكِنِهِ      
والعودُ في أرضِهِ  نَـوْعٌ  مِـنَ الحَطَبِ

وكما أشار شاعر النيل حافظ ابراهيم في كلامه على اللّبنانيين المهاجرين:                                                                
لولا طِلابُ العُلى لم  يبتغوا  بدَلاً       
من طيبِ ريّاكَ، لكن العُلى  تعبُ

كذلك فالتّرحال يبعث على التجدُّد، لأن ملازمة الإنسان لمكان معيَّن، ولوقت طويل مستمر، يجعل منه كتلة جامدة واهنة لا تعرف الحياة أبدًا، بل قد يبليه ذلك المقام، وعلى حد قول أبي تمام:
وطولُ مقام ِالمرءِ في الحيّ مُخلقٌ      
لديباجَتيــه،  فاغتــرِبْ تـتجــــدَّدِ  

        تحصل الهجرة أيضًا، وفي  أحيان  كثيرة، بسبب الإكراه، والظُّلم الذي ُيمارَس على فئة معيَّنة، أو عرق، أو دين.  وهذا ما حدث منذ ألوف السّنين، وصار ثمّة ما يُعرَف ﺑ ِ(الدِيَسبورَة )، وأمثاله كثيرة منذ التاريخ القديم منها: سبي العبرانيّين، وتشريدهم في الأرض خلال عهود مختلفة منذ سنة 586 ق. م. والهجرة النبويّة القسريّة لألوف المؤمنين مِن مكّة إلى المدينة، وغيرها من المدن في الجزيرة العربيّة، وخارجها سنة 622 م،  وتهجير نحو عشرين مليون نسمة من الملوَّنين السّود من إفريقية إلى أميرِكا منذ منتصف القرن السّابع عشر. وأوّل سجل للزّنوج المستقدَمين إلى أميركا ورد في (الجورنال) الذي كان يصدره جون رولف عام1619، وقد جاء فيه: "لقد حضرت سفينة حربيّة هولنديّة وقامت ببيع عشرين زنجيًّا لنا". كان عدد الزنوج الذين استقدموا في الخمسين سنة الأولى من القرن الثامن عشر مئة ألف شخص، وفي عام 1790 صار عددهم نحو سبعمئة ألف، العدد الأكبر منهم استقدموا من إقليم داهومي، ومن منطقة خليج بنين، ومن ساحل العاج. يُذكَر أن العرب كانوا سبّاقين في هذه التجارة. ‘1‘  نذكر أيضًا نفي مليون نسمة من الرّوس إلى سيبيريا في القرن التّاسع عشر، والمذبحة الأرمنيّة المعروفة، التي قضت بقتلِ وتشريد شعب آمن  في أصقاع الأرض. كذلك طرد مئات الآف من الفلسطينيّين مِن بلادهم قبَيْل منتصف القرن العشرين، وأيضًا ما حدث لأسباب قوميّة، ودينيّة كما حصل بين تركيا، واليونان عام1922 عندما  تمَ التبادل، وترحيل ألوف من السكّان بين البلدين بعد الحرب العالميّة الأولى، وما تمَّ أيضًا من  تبادل  لملايين من السكّان بين دولتَي الهند والباكستان مع انفصالهما بعد الحرب العالميّة الثانية. عدا الحروب، والنزاعات العرقيّة، والدينيّة التي ذهب ضحيّتها ملايين من الناس الذين تشتتوا في الأرض خلال حقبات كثيرة.
 نذكر أيضا عوامل البيئة والطبيعة التي أسهمت كذلك في عمليّة التهجير القسري منذ زمن بعيد، ومنها على سبيل المثال: هجرة القبائل العربيّة الجنوبيّة إثر انهيار سدّ مأرب (نحو القرن الرّابع الميلادي)، وانتقال قبائل جرمانيّة بين القرنين الرّابع والسّادس ب.م. من منطقة بحر البلطيق بسبب البحث عن أراض زراعيّة، وهجرة الإرلنديين  والمزارعين الألمان بعد أزمة محصول البطاطا في عامي1845و 1846، وغيرها من هذه الهجرات القسريّة لمجموعات بشريّة ضخمة، وقد شملت شعوبًا كثيرة في العالم. وربّما يكون الإنسان أهم مِن الأرض والأوطان التي يمكن أن تُستبدَل في حال فقدانها، بيد أنّ النفس لا يمكن أن تُستبدَل، تمشيًّا مع مَن قال من الحوارنة الذين كان عليهم لأسباب اجتماعيّة وسياسيّة أن يتركوا وطنهم حوران مرغمين، وذلك في القرن الثامن عشر:
ترَحَلْ  عن  بلادٍ  فيها ضْيمٌ       
وخلِّ  الدارَ  تنعي  من  بناها
فإنَّكَ  واجدٌ  أرضاً  بأرضٍ       
ونفسُكَ  لا  تجدْ  نفسًا  سِواها

واللبنانيّون، ربّما استبدلوا لبنان ببلد آخر طلبًا للعُلى المنشودة والمفقودة في البلد الأم، غير أنّهم رحلوا وكانوا أبطالاً غطارفة، كما قال شاعر النيل حافظ ابراهيم في المهاجرين اللبنانيّين:
نسيمَ   لبنانَ   كمْ   جادَتْكَ   عاطِرةٌ       
مِنَ الرِّياضِ  و كَمْ   حيّاكَ  منسَكَبُ
في الشّرقِ  والغربِ أنفاسٌ مُسعَّرةٌ       
 تهفوا   إليــكَ  وأكبــادٌ   بها  لَهَــبُ
لولا طِلابُ  العُلا  لـم  يبتغوا  بـدلاً      
 مِنْ طيبِ  ريّاكَ، لكــنَّ العُلى  تعَبُ
كَمْ غـادَةٍ  بربـوعِ  الشّــام ِ  بـاكِيَــة      
 عَلى أليـفٍ لـهـا يرمي  بـه  الطلـبُ
يمضي   ولا  حـيلــةٌ  إلا  عـزيمتها     
  وينثني   وحُلاه    المجدُ    والأدبُ
بأرض ِ كولمبَ  أبطالٌ  غـطارِفــة ٌ    
   أسْدٌ   جياعٌ  إذا  ما  وُوثِبوا  وثبوا
ما عابَهم  أنَّهُم في الأرض قد نُثِروا      
  فالشُّهْبُ منثورةٌ  مُذْ كانتِ الشُّهُبُ

يرحلون اختاريًّا أو قسريًّا، وتبقى نفوسُهم مشرئِبَّة نحو الأرض الأم، يحملون هاجس العودة، والحنين، هذا  الهاجس، يرافقهم  أبدًا في غربتهم، ولا تخمَد  نارُه، ولسان حالهم يردِّد مع الشاعر المهجريّ الياس فرحات:

                  نازِحٌ  أقعَدَهُ  وَجْـدٌ  مُقيــمُ      
 في الحشا بيْنَ خُمودٍ  واتِّقادِ
                  كلّما افترَّ لهُ البدرُ الوسيمُ     
  عَضَّهُ الحُزنُ   بأنيابٍ  حِدادِ
    يذكرُ العهدَ القديمَ  فيُنــادي
 أين جنّاتُ النعيمِ مِنْ بلادي  

            و لكنَّ هذا الحنين ما يلبث أن يتلاشى أو ينتهي، مع  جيل الأحفاد والأجيال المتعاقبة، ونردِّد أبيات الشّاعر المهجريّ الدمشقيّ الأصل جورج صيْدَح الّذي  برَّحَه الشوقُ إلى بردى فقال:
        حلِمـتُ أنّـي قريـبٌ مِنْـكَ يــا   بَرَدى         
 أبُــلُّ  قلبـي كمــا بــلَّ الهشيــمَ   نـــدى
        دمشـقُ  أعرِفُـهـــا  بـالقبَّـةِ ارتفعَــتْ       
   بالمرْجَــةِ انبسَطَتْ، بالشّاطِىءِ  ابْـتَرَدا
        بالطّيــبِ يَعبـقُ  بالوادي  وأطيـبُــــهُ       
   في تربــةِ الأرضِ غـذّاها  دمُ   الشُهَـدا
        أمشي على الضِفَّةِ الخضْراءِ مُؤتَنِسًا        
  بالحَوْرِ  والسَّرْو ِ  والصَّفصافِ منفرِدا
        تغوصُ في  لُجِّــكَ  الثَّرثارِ  ذاكرتي         
 على  الأغانــي   التي  أسمَعْتني  وَلَــدا
        أهواكَ  في  ثوبِكَ  الفِضيِّ  زركشَـهُ        
  بدرُ   الدُّجى  بشعــاعٍ  حولَــهُ   مُسِّــدا
        أهواكَ في صفحةٍ  للفجر ِ  ضاحِكـةٍ       
   خـطَ  النسيــمُ  عليْها    شعــرَهُ   زبَــدا
        أهواكَ  في  قلبكَ الشفّافِ لاحَ   بــهِ        
   ظِلُّ المــآذنِ  والأشجــــارِ  مُطَّــــــرِدا
        أهواكَ في يقظتي أهواكَ  في حُـلُمي        
  أهــواكَ  مُقترِبـــًا، أهــواكَ  مُبتـعِـــــدا
        ملأتُ  منكَ  يدي  قبلَ  امتلآءِ  فمي        
  ولـوْ  قدَرتُ   مَلأتُ الصــدْرَ  والكَبِـدا(2)

ونسمع أمير الشعراء شوقي، يقول بعد عودته من المنفى، وهو محمولٌ على أكُفّ شبّان مصر في مرفأ الإسكندرية، والدموع في عينيْه:
ويا  وطني لقيتكَ بعد  يأسٍ        
 كأنّي قد لقيتُ  بكَ  الشّبابا
وكلُّ  مسافرٍ سَيؤوبُ يوماً       
  إذا رُزقَ  السّلامة والإيابا

ورياض معلوف يتذكّر بقاعَه ولبنانه في البرازيل ، فيتمتم صاغِرًا:
ما أحسنَ   الذِكَرْ         
 في  مُقلةِ الغريبْ
فهــو إذا   ذكــرْ          
موطِنَــهُ الحبيــبْ
يرتعِــشُ  النَّـظَرْ         
 وعينُــــهُ  تغيــبْ
هل يا تُرى نعودْ          
 إليـــكَ يــا  لبنـان؟

 كمْ سِحتُ في المعمورْ،  ما غرَّني   منظـرْ
 فبلدي   المهجورْ         
وأرزيَ  الأخضرْ
أحلى من القصورْ         
والذَّهَبِ الأصفــرْ
هل يا ترى  نعودْ          
إليكَ  يـــا  لبنـان؟

مهما تكن الأسباب التي تدفع  بالمرء إلى التِّرحال والابتعاد عن وطنه، يبقى ذاك الوطنُ كامناً في لاوعيه، ماثِلا في قلبه، مُلتصِقاً بأعماقه، يتساقط مع كلّ إثارة  نُتفاً من فلذات الوجدان، تتشظّى شوقاً، وحنيناً، وألمًا، ومرارةً ، وحسرةً، وحبًّا لا تُخمَد نارُه أبدًاً. وكانت أدبيّات المهجر ولا تزال، تمثِّل صورَ هذه النفس التوّاقة إلى الوطن الأم حيث مرابع الطفولة، والحضن الدافِىء، ومرح الشباب، والأمس الغابر الحبيب.  
-----------------------------  
الهوامش :                                
– إينا كورين براون، تاريخ الزّنوج في أمريكا، ترجمة د. م. عيسى، مؤسّسة سجل العرب، القاهرة 1936
جورج صيدح، أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركيّة، مكتبة السّائح، طرابلس 1999
عالم الفكر (مجلّة)، الهجرة والهجرة المعاكسة، مجموعة من الباحثين، المجلد17 ، أيلول 1986

CONVERSATION

0 comments: