ما كنتُ أتصور يومًا/ الأب يوسف جزراوي

حلّقتُ على متنِ الطائرة  الى كثيرٍ من العواصم ِوالدول، طفتُ بها شرقًا وغربًا، ولكنّ، لَكَم حلمتُ  اليومَ أنْ اكونَ على متنِها وهي تقلني على اجنحةِ السرعة إلي حُبّي الأول والأخير بغداد. تلك العاصمة التي سمّرت حبّها الأبدي في ضلوعي.  وابوح لكم بسرٍ، إنَّ هاجسًا غريب ينتابني كلّما استقل الطائرة، فلا أعد اقوى على النوم، هاجسًا يفسد عليَّ متعة الرِحلة، اهرب منه إمّا بالمطالعةِ أو الكتابةِ أو الإستماع إلى الموسيقى، وقد يعرف العارفون أنَّ للموسيقى لغة تفوق لغة الكلام.
وحين عرجت الطائرة إلى الأجواء العراقيّة (الموصل واربيل)  بعد أن اقلعت  من مطار دبي للوصول إلى إسطنبول، تطلعت بشغفٍ من نافذة الطائرة إلى الأسفل، عسى أن أحَضِن بلدي بناظريّ. توقفت فجأة عن التحديق باجواء بلدي، وطالعتني مضيفة منحتني مجلة اعلانية، تطلعت في صفحاتها فوجدتُ إعلانًا، فكان كمقصٍ فتح فيَّ جرحًا لم يندمل بعد، الإعلان يقول: رحلات سياحية إلى أبو ظبي، حلب، بغداد، عمان، المغرب. وغرقت مع ذاتي في حديثٍ وتساءلت: ترى الم يسمع هؤلاءِ عن سقوط بغداد في 9 نيسان 2003؟ الم ييشاهدوا ما حلَّ ببغداد من دمار حتّى اصبحت حطام؟ عن أيّة سياحة يعلنون؟! أم تراني أنا ركبت طائرة في زمن مغاير، ورجعت بي الأيام إلى ما قبل الحرب؟. هل تناسوا رعونة الاحتلال ووحشية الارهاب واستهتار الساسة الدخلاء وهجمات داعش البربرية؟ فهؤلاءِ برمتهم غمسوا رماحهم في جسد بلدي وعاصمتي. وهمست في سرّي قائلاً: ربّما هذا الإعلان كي يذكّر السواح العراقيين أنَّ لا حق لهم في السياحة، بينما العراق يحترق على محرقة الساسة وعراكهم على المناصب أكثر دموية من عراك الديوك. وقد لا اذيع سرًّا إذا قلت: في بلدي محكوم على المرء بالإعدام مع وقف التنفيذ! وإلا ماذا؟ نقاط تفتيش، حواجز امنية، صبات كونكريتية، اختناقات مرورية، بطالة إنسانية، قحط في السلام والامان، الشعب يناضل من أجل اللقمة والعيش، يسعى بكلّ جوارحه إلى حياةٍ فيها الكرامة والسلام والازدهار. ولكن على ما يبدو أنّ المرء العراقي  ما عليه سوى الأختيار عاجلاً أو آجلاً بين الصمتِ أو الهروب من بلده.
تلك المجلة كانت كمن دلق النار في اعماقي، وفجأة غابت الشمس من داخلي، وتخيلت لوهلة كيف إنطفأت الأنوار في ازقة بغداد حتّى غدت مظلمة وموحشة، حيث التماثيل تنوح والدموع تهطل من عيونها الحجرية، والخرائب التهمت الحدائق الخضراء، والقمر لم يعد شاعر الفرات، شأنُه شأن الشمس التي حجبت اشعتها عن دجلة، حتّى زنابق الحقل ذبلت، وورود الجوري دُهست، بعد أن تحول طائر الحُبّ إلى نسرٍ جارح. فالجثث في الشوارع والموتى بلا قبور، وآثار المتاحف تستنجد عيون الاطفال الذين يرشقون كبار الساسة بنظرات تأنيب، بعد أنْ قتلوا الحبّ وولّدوا الحقد، ووقفوا مكتوفي الأيدي إزاء خراب الحضارات والعبث في بيوت الله وهدم مباهج الإنسان؛ فالذي حدث ويحدث الآن في بلدي وعاصمتي لم يتخيله العراقي حتّى في أسوأ كوابيسه! إنها الحكاية نفسها تتكرر وتلاحقني في حلي وترحالي.
وما أن حلقت بنا الطائرة فوق أجواء الموصل الحدباء، حتّى ارتجت بنا الطائرة جرّاء مطبات جوية، واهتززتُ بدوري على مقعدي في الطائرة، ترنحتُ كرجلٍ مطعون بخنجرٍ استقر في احشائه.  وعلى انغام موسيقى أنور أبو دراغ كتبتُ هذه الخلجة عن عروس العواصم بغداد، فلقد اعتدتُ أن ادونَ للقرّاء ما أتصيده وأستفيد منه خلال تجارب الحياة وفي السفر كأدبٍ للرحلات، ولا ضير من ذلك، فأنا من طينة الذين يرون الحدث، فيوحي إليهم بالفكرة والموضوع. الخلجة عنوانها: ما كنتُ أتصور يومًا!  ومفادها:
يوم أغتصبَ الأمريكان شوارع بغداد الجميلة، تنفس العراقيون الصعداء من نظامٍ كاد يخنق أنفاسهم، فتنعموا بالحرية التي أفتقدوها في الأمس الأليم. ولكن يا حرية ما اكتملت؛ فلقد عاصرتُ تلك السنوات الدامية عن قربٍ وأختبار، ورأيت بأمِّ عيني كيف كانت محبوبتي بغداد تحتضر على يد جنود الاحتلال، وتزهق روحها بفعل تنظيمات القاعدة وعصابات الأرهاب، وهم يطفئون أضواء مدينتي الجميلة المضاءة بنور الثقافات، التي من تربتها جُبلت، وفي مدارسها ترعرت، ومن مثقفيها نهلت العلم وأرتويت المعرفة، وفي أرضها الطيبة توارى والدي رحمه الله عن أنظارنا. ولا أعلم أيّة حيرة كانت تنتابني وأيّة غصّة تحل فيَّ يوم رأيتهم يعبثون بملامحها ويشوهون تاريخها عن سابق اصرار، ويستهدفون عقول أبنائها، ويلوثون عطر ورودها برائحة البارود والمفخخات. 
وما زالت بغداد إلى يومنا هذا تنزف، ولا يزال بلدي يحتضر على يد طاعون العصر (داعش)، راقدًا في غرفةِ الانعاش بسبب رعونة الساسة وسياساتهم المسمومة بعد أن جرهم الترف، فضلاً عن اطماع بعض بلدان الجوار ومخططات الدول العظمى، إذ من خصائص الحياة السياسية في بلدنا أننا لا نستطيع أن نجدَ فيها عهدًا خاليًا من المساوئ والأزمات.
وعندما دشنت العمة أمريكا والساسة الجدد "الربيع الدموي" في بلدي، بحجة الديمقراطية والحرية، بارح الكثير من العراقيين أرض أجدادهم مُكرهين، منكوبين. فما كنتُ أتصور يومًا أنّني ساكون مواطنًا في بلدٍ سوى وطني العراق؛ حيث أهلي وشعبي وكنيستي ولغتي واصدقائي وأساتذتي وكلّيتي ومكتبتي وشاهد قبرَ أبي.
أجل ما كنتُ أتصور يومًا أنّني سأكتبُ عن العراق من خارج حدود العراق. إنّها محنة بلد وأحزان شعب ورعونة ساسة ما كنتُ اتصورها يومًا.

CONVERSATION

0 comments: