العرب جميعهم الآن بانتظار ما ستسفر عنه هذه المرحلة من متغيّرات سياسية بالمنطقة، وليس في الحكومات والأشخاص فحسب، لكن حتماً القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفيةً بحال الانتظار. هي تعمل بدون شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيّرات، بل هي تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لها.. وهي كلّها احتمالات قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيّرات وظروفها.
فإذا كانت الثورات والانتفاضات العربية حالياً ظواهر مشرقة واعدة بغدٍ أفضل يضع حدّاً لأنظمة الفساد والاستبداد، فإنّ النور الساطع لهذه "المتغيّرات" الحاصلة لا ينبغي أن يحجب ما يستمرّ "ثابتاً" في المنطقة من خطر الاحتلال الإسرائيلي، بل والتدخّل الإسرائيلي غير المباشر في تداعيات أحداث المنطقة، إضافةً إلى محاولات تكريس الهيمنة الأجنبية على عدّة بلدان عربية، وفي ظلّ أجواء طائفية ومذهبية تنخر الجسم العربي وتهدّد وحدة أوطانه، وتُسهّل السيطرة الخارجية عليه.
فالأمّة العربية كانت تعيش قبل الانتفاضات الشعبية كابوس خطر التقسيم على أسس إثنية وطائفية ومذهبية. وكانت الأمّة تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها أو الساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها.
ومن المهمّ عربياً في هذه المرحلة عدم الفصل بين الحاجة لتغييرات وإصلاحات داخلية في بعض الأوطان وبين مسؤوليات ما تفرضه التحدّيات الخارجية على عموم بلدان المنطقة.
ولا يخطئنَّ أحدٌ بأنّ الشعوب العربية، التوّاقة الآن للديمقراطية، ستتساهل مع الهيمنة الأجنبية على أوطانها من جديد. فهذه الشعوب أدركت بوعيها الفطري الصادق أن لا فصل ولا انفصال بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبأنّ الاستبداد الداخلي يخدم الهيمنة الخارجية، والعكس صحيح.
إنّ شعوب البلاد العربية تفتح عيناً الآن على حكومات الفساد والاستبداد، لكنّها لن تُغمض الأخرى عن محاولات السيطرة الأجنبية على الثروات الوطنية العربية. وهذه الشعوب، التي تشغلها حالياً قضاياها الداخلية الوطنية، لن تسمح أيضاً باستباحة أراضٍ عربية أخرى ولن تتهاون في مواجهة مستعمرٍ جديد أياً يكن.
لكن يبقى القلق مشروعاً على مقدار التنبّه لمحاولات الفتن الداخلية، والتنبّه أيضاً ممّن يريدون أولوية المكاسب السياسية الفئوية. فهناك في الحالتين أشخاصٌ جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث لها عن عملاء ووكلاء.
إنّ تحميل "نظرية المؤامرة" وحدها مسؤولية المصائب والمخاوف هي حتماً مقولة خاطئة ومُضلّلة، فكلّ ما يحدث من "مؤامرات خارجية" يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية، لكنّه أيضاً "قصر نظر" كبير لدى من يستبعد دور ومصالح "الخارج" في منطقةٍ تشهد الآن أهمّ التحوّلات السياسية والأمنية والجغرافية.
هناك في سيرة آدم عليه السلام، كما وردت في الرسالات السماوية، حكمةٌ هامّة. فإغواء الشيطان له ولحوّاء كان "مؤامرة خارجية"، لكنّ ذلك لم يشفع لهما بألا يكون عقابٌ وتحمّل مسؤولية.
الواقع الآن أنّنا نعيش زمناً إسرائيلياً في كثيرٍ من الساحات العربية والدولية. زمنٌ يجب الحديث فيه عن مأساة الملايين من الفلسطينيين المشرّدين منذ عقود في أنحاء العالم، لا عن مستوطنين يهود يحتلّون ويغتصبون الأرض والزرع والمنازل دون رادعٍ محلّي أو خارجي. زمنٌ إسرائيليٌّ حتى داخل بلدان عربية كثيرة تشهد صراعات وخلافات طائفية ومذهبية تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية في الوقت الذي تحتّم فيه مواجهة هذه المشاريع أقصى درجات الوحدة الوطنية. زمنٌ تفرض فيه إسرائيل بحث مسألة "الهوية اليهودية" لدولتها التي لم تعلن عن حدودها الرسمية بعد، بينما تضيع "الهوية العربية" لأمَّةٍ تفصل بين أوطانها، منذ حوالي قرنٍ من الزمن، حدودٌ مرسومة أجنبياً، وبعض هذه الأوطان مُهدّدٌ الآن بمزيدٍ من التقسيم والشرذمة!!.
يُغرِق البعض الأمَّة في خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14 قرناً، وليس الهدف من ذلك إعادة نهضة الأمَّة وأوطانها، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون "الدولة اليهودية" نموذجاً رائداً لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.
وإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى ومنها حليفتها الكبرى أميركا، فكيف لا تفعل ذلك مع أعدائها "الجيران" لها؟ فرغم كلّ العلاقات الخاصّة يين أميركا وإسرائيل، ترفض واشنطن الإفراج عن جيمس بولارد الأميركي اليهودي، الذي يقضي منذ مطلع التسعينات عقوبة السجن بتهمة التجسّس لإسرائيل، وقد انضمّ إليه لاحقاً عملاء جدد كانوا يعملون لصالح إسرائيل في مواقع أمنية أميركية، ومن خلال علاقتهم مع منظمة "الإيباك"، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن.
ثمّ ماذا عن الدكتور ماركس وولف الذي كان مسؤولاً عن جهاز الاستخبارات العسكرية في ألمانيا الشرقية الشيوعية (قبل سقوط الإتحاد السوفييتي) وقد لجأ إلى إسرائيل بعد سقوط حائط برلين وانهيار النظام الشيوعي فيها حيث تبين أنه كان عميلاً للموساد الإسرائيلية، وهو الذي كان يشرف على العلاقات الخاصّة مع منظمات وأحزاب في دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية؟!
وهل كان باستطاعة إسرائيل أن تغتال خليل الوزير في تونس وكمال ناصر وكمال عدوان في بيروت وغيرهم من القيادات الفلسطينية في أماكن أخرى لو لم يكن لديها العديد من العملاء والمرشدين في هذه الدول؟
من السذاجة طبعاً تجاهل كلّ ذلك واعتبار أنّ إسرائيل هي طرف محايد ومراقب لما يحدث في "جوارها العربي" المعادي لها.
إنّ إسرائيل، بلا شكّ، أحسنت توظيف الأخطاء الرسمية العربية، كما أحسنت توظيف الظروف الدولية والمشاريع الأميركية في المنطقة، لكن لإسرائيل مشاريعها الخاصّة التي تتجاوز أجندة واشنطن أو باريس أو غيرهما من قوى إقليمية ودولية، فإسرائيل لم ولن تتراجع عن مشروعها التفكيكي للبلاد العربية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية.
ولا شكَّ أيضاً، أنَّ انتصار المقاومة اللبنانية في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان في مايو/أيار 2000، أوجد أيضاً خياراً من نوعٍ آخر لأسلوب التفاوض العقيم الذي تصرّ عليه إسرائيل والذي يُمارس منذ عقدين، هذا الخيار الذي حرَّك نبض الشارع العربي عموماً، والفلسطينيين في الأراضي المحتلّة خصوصاً.
إنّ إدارة أوباما لا تصنع الآن ثورات المنطقة، فهذه ثورات وطنية ذات إرادة حرّة، لكن الإدارة الأمريكية تحاول استثمار ما يحدث، كما تحاول ذلك أيضاً أطراف دولية وإقليمية عديدة، من أجل تحقيق مصالحها في منطقة إستراتيجية الموقع، غنية الثروات. منطقةٌ هي الآن محور الاهتمام الدولي وفيها الوجود الإسرائيلي وامتدادات نفوذه وتأثيراته الدولية حتّى على صُنّاع القرار في "البيت الأبيض". لكن كما كان التأثير الإسرائيلي كبيراً في مواقف إدارة بوش تجاه العراق والسودان ولبنان وسوريا وفلسطين وإيران، تأمل إسرائيل التأثير أيضاً على الإدارة الحالية من أجل تحويل الثورات الشعبية العربية إلى مناطق حروب أهلية، وإلى دفع المنطقة كلّها لحالٍ من التقسيم والتدويل، إنْ أمكنها ذلك. لكن الكلمة الأخيرة هي للعرب أنفسهم وعليهم ستتوقف مصائر أوطانهم.
0 comments:
إرسال تعليق