" جنوب أفريقيا " .
كنت هناك عندما أذاق هذا المستعمر اهل البلاد الأصليين السود الطيبين المر والعذاب . كنت هناك عندما فرق بين بعضهم البعض ، وميز بينهم وبين نفسه . نهب الخيرات وأباح لنفسه كل المحرمات وسرق وسبى وأغتصب .
كنت هناك عندما كان فيلسوف القرن العشرين المهاتما غاندي شابا يعمل محاميا وذهب الى جنوب افريقيا وعومل أسوأ معاملة لأنه ملون ينتمي الى اللون الأسود ... لون العبيد ، وليس الى اللون الأبيض.. لون الأسياد . كنت هناك وسمعته يقول عن هؤلاء القوم ودينهم مقولته المأثورة "أحب المسيحية ولا أحب المسيحيين " .
كنت هناك عندما بدأت حركات المقاومة الوطنية تأخذ أشكالا تنظيمية في بداية العقد الثامن من هذا القرن " العشرين" . وكنت هناك عندما بدأت المقاومة تأخذ شكلا دمويا من تحديها لجحافل الظلم والحقد . كنت هناك ارى هؤلاء الأبرياء ... السود الأقوياء .. اصحاب الأرض وما عليها يساقون كالنعاج لحصد ارواحهم وتشريد نسائهم وتحويل عيالهم الى يتامى لا أب يرعاهم ولا منزل يأويهم .
كنت هناك عندما اهتزت الأرض تحت مقاعد البيض ، عندما خرج عليهم الوحش النحيل نيلسون مانديلا ، الذي سجنوه ما يقرب من نصف عمره . خرج الوحش الأفريقي ألأسود النحيل يزأر ويقول لهم هذه أرضي أنا .. وأبي ضحى هنا . أمسكوا بالوحش .. عذبوه سجنوه .. لكنهم لم يستطيعوا إخماد صوته إلى الآبد . لقد كان وراءه حزب أطلق عليه " المؤتمر الوطني الأفريقي "
كنت هناك عندما أفرجوا عنه وأخرجوه من سجنه واحاطوه بالأكاذيب والشائعات حول زوجته ليحطموه . وكنت هناك عندما لم يعر الرجل إهتماما . فخابت آمالهم .
بدأ يخاطب ضمائر الشعوب ويطلب منها الوقوف الى جوار الحق . وكنت هناك عندما استجابت الشعوب واعلنت الحصار الأقتصادي على بلده أفريقيا . كنت هناك عندما سطع ضوء الحرية وعرف الشعب طريقه وازداد مطالبا بحريته . وكنت هناك عندما وافق رجل أبيض عاد إلىه صوابه ووافق على التغير . كنت هناك عندما سمعتهم ينادونه بـ .. " دي كليرك " .
وكنت هناك يوم الثلاثاء الموافق 26 ابريل / نيسان عندما دخل العملاق الأسود الكهل النحيل البالغ من العمر 75 عاما الأنتخابات منافسا البيض . وكنت هناك عندما أعلن في يوم الأثنين التاسع من مايو / أيار فوز مانديلا برئاسة جمهورية جنوب أفريقيا .
ذرفت عيناي دمعتين . دمعة فرح لأنه لا يضيع حق وراءه مطالب . ودمعة حزن وأسى على حقوق ضائعة في الوطن العربي وأصحابها من الخوف لاهين ، أو من الجبن صامتين .
نعم كنت هناك بالفكر والوجدان .
جريدة " النهار " ـ " العندارية "
نسبة إلى صاحبها ورئيس تحريرها المرحوم الأستاذ بطرس عنداري
19 / 5 / 1994
سدني / أستراليا
من ذاكرة كتاب " المغترب " الجزء الثاني الذي أصدرته في سدني / أستراليا عام 1997 .
قد يتساءل البعض ما دخل جنوب أفريقيا ونيلسون مانديلا والمهاتما غاندي بنا في مصر والأحداث المتلاحقة إن كان في مصر أو في العالم العربي !! .
وأجد نفسي حائرا مثلهم في كيفية الربط بما يحدث لمصر والعالم العربي بجنوب أفريقيا وما حدث بجنوب أفريقيا .
لكن المقال كتبته كما هو واضح في شهر مايو من عام 1994 . مما شك فيه أحداث جنوب أفريقيا وما قدمه نيلسون مانديلا لشعبه يستحق التوقف عنده حتى يمكننا أن نأخذ العظة ونعرف أو نحاول معرفة ما هو الواجب إتباعه لحل مشاكلنا وما آلت إليه أحوالنا مع وضع في الأعتبار أن جنوب أفريقيا كان محتلا ومحكوما من حكومة أجنبية . أما نحن في مصر والعالم العربي فهو يحكم بحكومات من نفس شعوب المنطقة العربية ولكنهم لم يراعوا الله في خدمة شعوبهم والنهوض بدولهم ، بل فضلوا خدمة أنفسهم وأتباعهم وعملوا على نهب خيرات البلاد وتحويلها خارج بلادهم . مما أدى بتأخر بلادهم وإزدياد حالات الفقر والجهل والمرض مع زيادة الفساد في جميع مناحي الحياة مما دفع شعوبهم القيام بإنتفاضات ثورية نجحت في الأول كثورات بالإطاحة بمعظم الحكام ومنهم مصر التي على مدار العام والنصف عام لم تستقر أمورها حتى الأن على الرغم من إنتخاب رئيس جمهورية ومحاولة إصدار دستور جديد من جمعية تأسيسية تم إختيار أعضائها من نفس الأتجاهات الواحدة مما وضعها في شكل عدم الأهلية لأنها لا تمثل جميع أطياف الشعب وليس لفصيل واحد ذو تسميات مختلفه .مما سيجعل الدستور ، دستورا تفصيليا لأهوائهم وليس من المهم إن تعارضت مع مصلحة مصر والشعب المصري .
هذا الفصيل الواحد إن كان في مجلس الشورى الذي يتولى صياغة الدستور الجديد ، أو في مجلس الشعب المنحل والذي يمكن أن يعاد إنتخابه أو عودته كما كان . مع رئيس الجمهورية والوزارة الجديدة التي إختار لها رئيس الجمهورية رئيسا كما يقول البعض أهم ميزاته أنه قريب للأخوان المسلمين .
كنا نتمنى على هذا الفصيل الواحد أن يكون مصريا جملة وتفصيلا من حيث الولاء والإنتماء لمصر . أحلامه وطموحاته من أجل مصر والشعب المصري قبل كل شيء . لكن مع الأسف ظهر على حقيقته وما كان يهتف به البعض أثناء الحملات الأنتخابية سواء البرلمانية أو الجمهورية من أن طموحاتهم في تكوين الخلافة وأن تكون عاصمة الخلافة القدس ، لا القاهرة ولا مكة بل القدس .
مرت مصر بعصور وعهود كانت فيه تحت نير مستعمرين إن كان ذلك في الفترة التاريخية الفرعونية . أو بعد دخول الأسكندر الأكبر مصر في عهد البطالمة الذين عملوا على دمج الدولتين في دولة واحدة بلغة جديدة واحدة . وكان هدف الدولة الجديدة إعلاء شأن مصر . وما قامت به الملكة كليوباترا أخر ملوك البطالمة على توسع المملكة المصرية " لاحظوا أنها لم تسعَ إلى توسع دولة البطالمة " بمحاولة ضم الأمبراطورية الرومانية " روما " إلى مصر وتصبح هي ملكة مصر وروما . وهذا لا يدع أي مجال للشك على أنها ملكة مصرية مائة بالمائة . وحاربت بجيش مصري معركة من أقوى معارك مصر في ذلك الوقت . على الرغم من الهزيمة إلا أن مصر كانت مصر ولم يحاول لا الأسكندر الأكبر ولا من تولى حكم مصر من البطالمة بدءا بـ بطليموس الأول منتهيا بالملكة كليوباترا أن يغير إسم مصر .
إحتل الرومان بقيادة القائد إكتافيوس مصر بعد ذلك وأصبحت مصر مستعمرة رومانية . لكن هذا المستعمر الجديد لم يعمل على خدمة الشعب المصري . بل كان جُلّ همه الحصول على القمح المصري وعلى كنوز المناجم المصرية . وهنا بدأ الشعب المصرية عصيانه ضد الدولة الجديدة بالهجرة إلى الجبال والصحراء مفضلين حياة التقشف كأحرار ، على أن يكونوا أذلاء تحت حكم الرومان الجديد .
إنتهت الأمبراطورية الرومانية بالتقسيم إلى إمبراطورية غربية عاصمتها روما ، وإمبراطورية شرقية عاصمتها بيزنطة . وكانت مصر تخضع للأمبراطورية الرومانية البيزنطية .
دخلت المسيحية مصر على يد مار مرقص البشير وأمن الشعب المصري بالدين الجديد . وحدث خلاف عقائدي على يد الطاغية دقلديانوس والذي قدم فيه المصريون أرواحهم في سبيل التمسك بروح الإيمان الأرثوذكسي القويم .
دخل المسلمون العرب مصر ، فاتحين أوغزاة أو مهما كانت التسمية فقد حكموا مصر برضى المصريين أو بقوة السيف فقد تم الحكم ومصر وأسم مصر لم يتغير لا في حكم الخلفاء الراشدين ولا في حكم الدولة الأموية ولا العباسية ولا في أي ممن حكموا مصر من الحكام المسلمين عربا كانوا أو غير عرب بما فيهم الخلافة العثمانية والتي أصبحت فيها مصر إحدى الولايات التابعة للخلافة .
مع كل من حكم مصر بعد عمرو بن العاص ومصر محتلة وتخضع لملوك أو أمراء أو حكام أو مماليك وحتى الخليفة والخلافة مصر كانت متميزة عن بقية الولايات الأخرى .
حاول كل حاكم عربي أو غير عربي إثارة الفتنة الطائفية بين أبناء مصر متخذين من إختلافهم في الدين حجة للوقيعة بينهم . نجحوا حينا وفشلوا أحيانا كثيرة .
إستقل محمد على باشا بحكم مصر وتدريجيا تحولت إلى مملكة يحكمها ملك أخرهم المرحوم الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وكانت مصر تحت الإحتلال البريطاني .
إستطاع رجال مصر طرد المستعمر البريطاني الذي حاول كغيره أستخدام أسلوب فرق تسد نجح حينا وفشل أحيانا وبقي الشعب المصري هو الشعب المصري المتميز عن غيره بالوسطية في إيمانهم ومحب ومضحي في سبيل مصر وظهر ذلك جليا في حرب 1973 .
من هذه الخلاصة التاريخية السريعة نرى أن الشعب المصري شعب متماسك مهما ظهرت شوائب من هنا أو هناك تعكر صفو العلاقة المتينة بين المصريين . قاوموا كل مستعمر حاول أن يستغل مصر والمصريين .
هذا التاريخ المشرف للشعب المصري هو الذي جعلني عند ما أعدت قراءة هذا المقال الذي سبق ونشرته أن أقرر إعادة نشره في هذه الأيام لأنه من الواضح أننا تحت حكم إستعماري منه فيه . أي من مجموعات بالأسم والأقامة مصريين . وفي الحقيقة هم بعيدين كل البعد عن مصر ولا تهمهم ولا يهمهم الشعب المصري . إنتمائهم إلى الخلافة الأسلامية والتي حددوا عاصمتها بالقدس فتصبح مصر دويلة ضمن دويلات الخلافة . وبدلا من العمل على رفعة الشأن المصري نجدهم يعملون على رفعة أنفسهم ومن يتبعهم فقط وطوز وألف طوز في مصر ومن الطبيعي في المصريين لأنهم بكل وضوح غير مصريين ولا تعني ولادتهم ونشأتهم على أرض مصر أنهم بالفعل مصريين . لأن ولائمهم وإنتمائهم الحقيقي غير مصري . إنهم غزاة جدد عاشوا وسطنا وعندما واتتهم الفرصة ظهروا على حقيقتهم .
هنا نسأل ما الفرق بينهم وبين المستعمرين الذين إستعمروا مصر وغير مصر عربا كانوا مسلمين أو غير عرب ومسيحيين إن كانوا إنجليز أو فرنسيين أو من أي جنسية ؟
الأجابة واضحة المستعمر هو مستعمر ولا يهمه لا الشعب الذي يستعمره أو الدولة . وكم قاست الشعوب من الأستعمار ومنه شعب جنوب أفريقيا العظيم الذي إستطاع أن يصمد في تحديه لقوة المستعمر الغاشم . قاوموه بتماسكهم وتضحياتهم ووجود من تحمل السجن والعذاب بتمسكه بحق شعبه . نيلسون مانديلا تاريخ حي " أطال الله في عمره " يؤكد أنه لا يضيع حق وراءه مطالب مهما طغى المستعمر .
إنقذوا مصر من مستعمرين جدد .. مستعمرين منه فيه . على رأي المثل الصعيدي
" دود المش منه فيه " ...
في أحداث جنوب أفريقيا .. كنت هناك .. على الرغم من وجودي في أستراليا
في أحداث مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 وحتى الأن .. كنت ومازلت وسأظل هناك .. على الرغم من وجودي في أستراليا .
لأن مصر وطن يعيش فينا ...
0 comments:
إرسال تعليق