ومضات مشرقة في الذكرى العشرية للانتصار/ د. مصطفى يوسف اللداوي

في الذكرى العشرية الأولى لانتصار المقاومة الإسلامية في لبنان على العدو الإسرائيلي، تستوقفنا تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان بكل أبعادها التي شكلت أولى هزائم إسرائيل، فقد فاقت تجربة حزب الله كل مدارس المقاومة التاريخية، ووصلت في مقاومتها إلى الانتصار والتحرير، فتجاوزت المدرسة الفيتنامية والجزائرية والجيفارية، وصنعت من الجنوب اللبناني ستالينجراد عربية، ولكن بصبغةٍ جهادية، عربية وإسلامية، لجهة التميز الفذ في العمل المقاوم، وللوسائل النضالية الجديدة التي ابتدعتها وشكلت باكورة العمليات الاستشهادية المروعة، التي كان لها أكبر الدور في تحقيق الأهداف، وإرغام العدو على الانسحاب، والتأسيس لشكلٍ جديدٍ وغير مسبوقٍ في المقاومة، ثم لطبيعة المجتمع الفسيفسائي الطائفي اللبناني، فقد نجح حزب الله في خلق حالة مقاومة عامة لدى المجتمع اللبناني كله، ودفع فئاتٍ لبنانية عديدة، بعضها من غير المسلمين لأن يقفوا إلى جانب المقاومة الإسلامية، ويؤيدوا ويعززوا عملها، وهو الأمر الذي خلق حالة مقاومة تنافسية بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني، وقد تمكن حزب الله من جعل مقاومته ضد إسرائيل نموذجاً يحتذى في العالم العربي والإسلامي، وجعل الكثير من النخب العربية والإسلامية تنبري للدفاع عن برنامج المقاومة، بل استطاع أن يخلق قطاعاً دولياً واسعاً من المؤيدين للمقاومة، والرافضين لوجود إسرائيل في لبنان تحت أي حجةٍ أو ذريعة، كما نجح حزب الله في تجاوز العقد الطائفية التي تحكم الولاءات السياسية والدينية، واستطاع أن ينأى بنفسه عن كل بؤر الفتن الطائفية في العالم العربي والإسلامي، رغم المحاولات الصهيونية الحثيثة لزجه في أتون الفتنة الطائفية، واقحامه في الأزمات الداخلية العربية، ولكن حرص حزب الله على المقاومة، ومتانة بنيانها الداخلي، منعه من التورط في أي محاولة لجره إلى مستنقع الفتنة والاختلافات الطائفية.
تمكن حزب الله من خلق الدولة المقاومة، والحكومة المقاومة، فلم تعد هناك حكومة لبنانية تنتقد المقاومة، أو تتأخر عن دعم برنامج المقاومة من أجل تحرير الأراضي اللبنانية، فكان البرنامج السياسي لكل الحكومات اللبنانية منذ العام 1990 يتضمن بنوداً واضحة تتبنى المقاومة، وتدعم عملها، وتشرع فعلها، وتجرم كل تعاونٍ مع العدو الإسرائيلي ضدها، ولم تعد أي حكومة لبنانية قادرة على نيل ثقة البرلمان اللبناني دون أن يكون صلب برنامجها السياسي داعماً للمقاومة، ومؤيداً لها، وتمكن حزب الله من جعل كل المؤسسات اللبنانية، الرئاسة والبرلمان والحكومة، وقيادة الجيش والمخابرات العسكرية، ومختلف الأجهزة الأمنية اللبنانية، والمؤسسة القضائية بكل فروعها، والمؤسسات العامة والأقلام والقدرات الإعلامية، تعمل بصدقٍ للمقاومة، وتحصن الصف الداخلي للمجتمع اللبناني، وتحول دون وجود عمليات اختراق أو تخريب ضد المقاومة من الداخل، مع التأكيد على أن الغالبية العظمى من هذه المؤسسات الداعمة لم تكن من حزب الله، بل كانت في أغلبها من المؤيدين والمناصرين، الذين استطاع حزب الله أن يخلق منهم قاعدة عريضة لحماية المقاومة، بعد أن تمكن من نزع ثقة وتقدير واحترام شرائح المجتمع اللبناني كله، الذين أجمعوا على حماية المقاومة، وتحصين صفها الداخلي، وما كان حزب الله ليصمد أمام محاولات إسرائيل لاجتياح أو مهاجمة بنيته التنظيمية والعسكرية والمؤسساتية، وتدمير البنى التحتية للمقاومة، لولا التأييد والاحتضان الشعبي الكبير لبرنامجه المقاوم، فقد اعتدت إسرائيل عام 1996 ضمن عملية عناقيد الغضب، فدمرت العديد من المنشآت الحيوية اللبنانية، وشردت آلاف المواطنين اللبنانيين من الجنوب، ولكن بيروت وشمال لبنان وبقاعه، المسلمون والمسيحيون معاً، احتضنوا المهجرين، وقدموا لهم الدعم والإسناد، مما أفشل مساعي إسرائيل، وقد أبدى حزب الله تضامناً قل نظيره تجاه المتضررين من كل العمليات العسكرية الإسرائيلية، وأظهر مصداقية ونزاهةً عالية في التعامل مع مختلف الشرائح المتضررة من العدوان، ولم تكن هناك حالات تميزٍ لعناصره والمنتمين والمنتسبين والمؤيدين له على حساب الآخرين، الأمر الذي دفع بالمواطن اللبناني إلى تأييد حزب الله كحالة مقاومة، والدفاع عن مواقفه.
أما المؤسسة الأمنية لحزب الله فقد كانت على مدى سنوات المقاومة ومازالت، تعمل على تحصين المقاومة من كل محاولات الاختراق الإسرائيلية، فلم تلوث نفسها بأعمالٍ قذرة ضد شخصياتٍ ومؤسساتٍ لبنانية، ولم تجير عملها الأمني ذي الإمكانيات الهائلة في تطويع أو لي أعناق جهاتٍ لبنانية، شخصية أوعامة، ولم تعمل على استخدام الجانب الأمني لعملها في التضييق على المواطنين اللبنانيين، أو مصادرة حرياتهم الشخصية، أو تقييد حرياتهم الفكرية، بقدر ما جعلت من المؤسسة الأمنية ثقافة مقاومة، تحول دون الاختراق، وتدفع بالمواطن اللبناني عامةً لأن يكون عيناً حارسة وراعية للوطن ومصالحه .
وعندما أرغمت المقاومة الإسلامية إسرائيل على الانسحاب من جنوب من لبنان في مايو 2000، استلم حزب الله المواقع والبلدات اللبنانية التي كان يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، وكانت في أغلبها مناطق مسيحية وأخرى سنية، فلم يسجل على حزب الله أنه قام بعمليات قتل، أو سرقةٍ وسطو، أو اعتداءٍ وانتقام من المواطنين الذي كانوا يقيمون في البلدات المحررة، ولكنه ترك للجيش اللبناني والحكومة اللبنانية مهمة معالجة آثار الوجود الإسرائيلي الطويل الأمد في البلدات اللبنانية، كما أن شوارع البلدات اللبنانية المحررة لم تشهد مظاهر مسلحة لعناصر المقاومة الإسلامية، الذين انسحبوا من الشوارع رغم نشوة انتصارهم الكبير، تاركين لمؤسسات الدولة الوطنية أن تتولى إدارة الأوضاع المستجدة بعد الانسحاب الإسرائيلي، إذ كانوا مطمئنين تماماً إلى وطنية مؤسسات الدولة، وأنها تعمل لصالح المقاومة، وترفض حماية الأهداف الإسرائيلية بعد انسحابه من الجنوب اللبناني .
وقد تميزت مقاومة حزب الله بالتنوع والغنى الفكري والسياسي، فلم يعتمد حزب الله البندقية وحدها في المقاومة، بل تبنى أشكالاً عديدة من المقاومة، وإن كان على رأسها العمل العسكري، ولكنه عمد إلى حماية عمله العسكري، من خلال خلق جبهة سياسية لبنانية للدفاع عن برنامج المقاومة، وأدخل في جبهته العديد من القوى السياسية اللبنانية، المسلمة والمسيحية بكل أطيافها ومذاهبها، وشكل في البرلمان اللبناني كتلة الوفاء للمقاومة، والتي كانت تحظى دوماً بتأييد قطاعاتٍ واسعة من المجتمع اللبناني، فضلاً عن أن الكتلة تضم نواباً من غير حزب الله، ولكنهم نوابٌ يؤيدون المقاومة، ويعملون على حمايتها وتحصينها، ونأى حزب الله بنفسه عن الممارسات الإقصائية، وعن محاولات التكفير والتخوين، ونزع الصفات الوطنية عن اللبنانيين، فأتاح الفرصة كاملةً لكل الراغبين في العمل الوطني، المؤيدين والمعارضين لبعض برامجه السياسية والاجتماعية، فلم يسجل عليه اللبنانيون سنةً وشيعة، مسلمين ومسيحيين، محاولات إقصاء وتهميش لدور أحد، ولم يعمل حزب الله على حصر الصفات الوطنية فيه وفي المنتمين إليه تنظيمياً، ولم يقبل بأن يحتكر الوطن والمقاومة لنفسه وبنفسه، بل أكدت ممارساته العملية حرص المقاومة الإسلامية الكبير على استيعاب كل الطاقات الوطنية، وتوظيف كل القدرات على اختلافها وأنواعها، الفكرية والفنية والإبداعية والعسكرية لخدمة المقاومة، فكانت الأقلام كلها تبرى للدفاع عن المقاومة ونهجها، لأنها كانت بحق إطاراً جامعاً توفيقياً، يرفض الحزبية والفئوية، ويرفض الاحتكار والتملك والتميز السلبي، فلم يحارب قلماً غير أقلام الخائنين، ولم يلاحق مبدعاً غير المتعاملين، ولم يغلق مؤسسة غير أوكار الإسرائيليين .
لقد استطاع حزب الله أن ينشئ منظومة مدنية أشد تنظيماً، وأعظم فعلاً من منظومته العسكرية، فقد أنشأ حلفاً سياسياً واسع الطيف، شمل مختلف الطوائف اللبنانية، واقتحم غمار العمل في مؤسسات المجتمع المدني اللبناني، فكان له حضوره اللافت في مختلف النقابات اللبنانية، وكان لصوت حزب الله وأنصاره دور كبير في تحديد اتجاهات عمل النقابات اللبنانية، وخاصة اتحاد النقابات العمالية، وخاض حزب الله تجربة الانتخابات البلدية، وفاز في كثيرٍ من البلدات اللبنانية، وفيها نال أصواتاً مسيحية وثقت فيه وفي تجربته النضالية، وكان للمقاومة الإسلامية في لبنان دورٌ لافت في الاتحادات الطلابية، والنقابات المهنية، والاتحادات النسائية، التي تميزت جميعها بالصبغة الوطنية العامة، البعيدة عن الفئوية والحزبية، وقصرت نشاطها على حماية المعتقدات والمفاهيم الوطنية، وقد استطاع حزب الله من خلالها أن يبين للمجتمع اللبناني رفضه لعسكرة المجتمع، ورفضه التام لخوض أي معركةٍ عسكرية ضد أي طائفة في لبنان، فسلاح حزب الله هو سلاح مقاومة، وقوته وقدراته العسكرية هي لمواجهة إسرائيل فقط، وليست موجهة ضد أي طرفٍ لبناني أو غير لبناني، وتوج حزب الله عمله السياسي في لبنان من خلال مشاركته الواسعة في الحياة البرلمانية والحكومية، حيث أصبح لحزب الله في كل حكومةٍ جديدة أكثر من وزير، يتميز بالمهنية والمصداقية العالية .
أما المؤسسة الإعلامية لحزب الله فقد شكلت سبقاً رائعاً في إعلام المقاومة، الذي كان له دور قد يفوق أحياناً فعل البندقية، وأثر العبوة والقذيفة، وجعل من إعلام المقاومة إعلاماً مهنياً هادفاً، امتلك القدرة المهنية، والنزاهة العلمية، وحاز على مصداقيةٍ عالية شهد بها العدو قبل الصديق، حتى أصبح إعلام المقاومة مصدراً موثوقاً للحصول على المعلومات الدقيقة، ونأى إعلام المقاومة عن كل محاولات التحريض الداخلي، والتأجيج الطائفي، والتشويه الشخصي، ولم يكن إعلاماً دعائياً يعمل لصالح أشخاصٍ أو أهدافٍ فئوية، بل كان إعلاماً مقاوماً بحق، أربك العدو الإسرائيلي، وفت في عضد جنوده، وتمكن من تمزيق وحدة نسيج المجتمع الإسرائيلي، خاصةً وأنه خاطب المجتمع الإسرائيلي أحياناً بلغته العبرية، وفي كثيرٍ من الأحيان بالصورة الدامغة التي لا تحتمل التأويل أو التزوير .
وعند الحديث في الذكرى العشرية الأولى لإنتصار المقاومة عن تجربة حزب الله النضالية، وعن الدروس المستفادة من المقاومة الإسلامية في لبنان، فإنه يصعب تجاوز دور السند الإقليمي والدولي، فقد تمكن حزب الله من خلق تحالفٍ إقليمي قوي مع سوريا، التي احتضنت المقاومة، وقدمت لها كل أشكال الإسناد اللوجستية، وهيأت الأجواء والمناخات الداخلية والإقليمية لحمايتها، واستطاعت سوريا أن تخلق قاعدة نخبوية سياسية داعمة للمقاومة في لبنان، وعملت على تحصينها وحمايتها خارجياً من كل محاولات النيل منها أو طعنها من الخلف، كما نجح حزب الله في خلق تحالفٍ دولي مع إيران، التي مكنت حزب الله والمقاومة في لبنان من الحصول على العديد من احتياجاتها المالية والمادية، وربما أن المقاومة الإسلامية في لبنان ما كانت لتحقق أهدافها، ولا لتصمد أمام العاملين ضدها، لولا نقاء الصف الداخلي، ووجود السند الدولي والإقليمي، وهو ما تفتقد إليه المقاومة الفلسطينية اليوم .
تجربة المقاومة الإسلامية التي قادها حزب الله في لبنان تجربةٌ فريدة، ومدرسة جديدة من مدارس النضال والمقاومة، قد تكون مختلفة كلياً عن أي مدرسةٍ نضالية سبقت، ففيها من الدروس العظات ما يكفي لأي محاولةٍ تحررية أخرى لأن تتعلم منها، وتستفيد من خبراتها، فحزب الله قد استطاع أن يخلق من نفسه قوة مقاومة تحررية، وأن ينتزع تأييد مختلف النخب العربية والإسلامية والدولية لمقاومته، كما استطاع أن يخلق من نفسه قوةً سياسية ومدنية شعبية، يصعب على أي طرفٍ في لبنان أن يتجاوزه، أو أن يتخطى دوره، أو أن ينكر قوته وأثره، وليس هناك أدنى شك أن المقاومة الإسلامية في لبنان قد هزمت إسرائيل، ووضعت حداً لأحلامها وطموحاتها في لبنان، وأجبرتها على الانسحاب في جنح الليل من جنوب لبنان، وقد تخلت عن مواقعها، وعن كثيرٍ من ثكناتها ومعداتها وآلياتها، تاركةً عملاءها والمتعاونين معها لمصيرهم المحتوم، ولا أعتقد أن العدو الإسرائيلي يقوى على التفكير في العودة مجدداً إلى لبنان اجتياحاً أو عدواناً، فالمقاومة الإسلامية التي ازدادت قوةً وتعاظمت خبرةً له بالمرصاد، وهي تتحين الفرص لملاقاة العدو الإسرائيلي من جديد، خاصةً بعد الهزيمة النكراء التي تلقاها على أيدي رجال المقاومة الإسلامية في صيف عام 2006، فقد اهتزت صورة الجيش الإسرائيلي، وانتشر الذعر في صفوف جنوده، وانهارت قيادته العسكرية، وضاعت هيبته القتالية الردعية، وما كان هذا كله ليكون لولا الإرادة القتالية الصادقة لدى حزب الله، ولولا القيادة الرشيدة للمقاومة الإسلامية ولحزب الله، فهي قيادةٌ راشدةٌ واعية صادقة، تحمل الهم الوطني اللبناني، والقومي العربي والإسلامي بكل صدقٍ وأمانة، وترفض الإنجرار إلى أي معارك جانبية، وتغض الطرف تماماً عن أي خسارةٍ قد تلحق بها داخلياً، حفاظاً على متانة وصلابة المجتمع اللبناني الحاضن للمقاومة، والمدافع عنها، ليبقى سلاح المقاومة سلاحاً نظيفاً، موجهاً فقط ضد العدو الإسرائيلي الذي يتربص بلبنان وبفلسطين وبالأمة العربية والإسلامية.
هنيئاً لنا جميعاً في الذكرى العشرية الأولى للانتصار، وهنيئاً للمقاومة الإسلامية في لبنان انتصارها المبهر، الدائم والمتكرر، ومعاً جميعاً نحو تحقيق انتصاراتٍ جديدة على العدو الإسرائيلي، في غزة والضفة كما القدس ويافا وتل أبيب.

CONVERSATION

0 comments: