مصـر أمـي .. وليست "مــرات أبويــا "/ أنطــونــي ولســن

" مصر ليست أمي " أسم أو عنوان الكتاب الذي صدر في القاهرة ، وعرض في معرض الكتاب في شهر يناير من العام الماضي .
شدَ انتباهي ذلك العنوان وأخذت أفكر فيما قد يكون مؤلف الكتاب يريد قوله للناس متبرأً من مصر ولا يشرفه إنتمائه لها ، لذا أنكر أمومة مصر له . فإذا صدق حسي هذا ، فهي في الحقيقة مصيبة المصائب التي حلت على الشعب المصري .
يستطيع الأنسان أن ينكر كل شيء .. إلا الأمومة ، لأنها أصدق شيء في حياة البشر . إنكر أباك .. وقد تكون محقا في ذلك . لكن لا يمكن أن تنكر أمك حتى لو كانت بغيا ، ولا أظن أبدا أن مصر أم الدنيا قد صارت بغيا تبيع نفسها لمن يدفع لها .
أما الجانب الأخر لتفسيري الشخصي للعنوان ، أن الكاتب يشعر بتأنيب الضمير لما فعله هو وإخوته وأخواته من أبناء مصر ، فأراد أن يبعد عنها وزر ما وصلت إليه أحوال مصر معبرا أنه لا يستحق شرف الأنتماء لهذه الأم العظيمة التي عبرت بأبنائها صعاب الأيام والأحداث والتاريخ يشهد لها بذلك .
لكني لم أكن مقتنعا تماما بهذا التفسير . لأن أبناء مصر هذه الأيام ، تكبروا ولا يمكن لأي منهم أن يعترف بأي خطأ إرتكبه في حق أمه مصر عن قصد أو بدون قصد . فقررت أن أرسل في طلب الكتاب . وفعلت ذلك . لكني أخبرت بأن الكتاب قد تم سحبه من الأسواق . وعندما إستفسرت عن سبب السحب . قالوا أن الجهات المعنية طلبت من المؤلف إجراء بعض التعديلات على مضمون الكتاب ، بعدها سيتم طباعته من جديد وإعادته للأسواق ليقرأه كل من يريد قرأته .
تعجبت من أمرين.. الأول يتعلق بحرية الرأي والقلم الذي نسمع أنها تطبق في مصر . والثاني كيف يتم طباعة ونشر الكتاب وعرضه في معرض دولي للكتاب في القاهرة وفي الأسواق ، ويعلن عنه في الصحف والفضائيات ، ثم يتم سحبه دون إبداء الأسباب التي دفعت بالمسؤولين الى قرار سحبه ومطالبة المؤلف والناشر إجراء تعديلات ؟ هذا العمل من الجهات المسؤولة يدفع على الأقل المثقفون في مصر والعالم العربي وغير العربي الى التعجب للتخبط الذي يعيشه الشعب المصري
أردت أن أبتعد عن هذا الأمر وقلت لنفسي أنا هنا في أستراليا أحمد الله على عدم وجود تخبطات تؤثر على الحياة العامة للشعب الأسترالي ، المثقف منه وغير المثقف.
وصلتني النسخة المنقحة وفوجئت بالعنوان ، " مصر ليست أمي .. دي مرات أبويا " . وأنا لن أناقش الكتاب هنا لكن اذا اعتبر الكاتب أن مصر ليست أمه لأسباب أضرت به . أعتقد أن اللوم يقع على أبيه الغريب الذي لم يعرف كيف يقدر قيمتها وعظمتها ، وأنها أم الدنيا قبل أن يتزوجها . وعندنا مثل في مصر يقول " مرات الأب لن تنحب لو كانت ملاك من السما " .
ويبدو أن الكاتب يريد أن يؤكد بهذه التسمية الفكر الرافض للغير ، والذي ينظر الى أخيه نظرة الأخ غير الشقيق . وطبيعي نادرا ما يوجد إنسجام بين الإخوة غير الأشقاء . وطبيعي أيضا يتطلع أبناء الأب الى أمهم الأصلية ، لذا يتنكرون " لمرات أبيهم " . أما إذا أجحفت مصر " مرات أبوهم " .
بحقه . فاللوم لا يقع عليها ، بل يقع على الأب وأولاده الناهبين لخيرات من يتنكرون لها .
أما عن نفسي ، فأنا واثق تمام الثقة أن مصر أمي وليست " مرات أبويا " . لذا توجهت الى الكرسيً " الهزاز " جلست فوقه محاولا الأسترخاء والأبتعاد عن مشاكل الكتاب وما يحتويه من معنى يتفق أو لا يتفق مع ما فكرت فيه بالنسبة لعنوانه " مصر ليست أمي .. دي مرات أبويا " .
غفت عيناي .. لم أعرف كم من الوقت قد مضى على غفوتي ، عندما شعرت بيد تربت بحنان على كتفي لتوقظني . فتحت عيناي وتطلعت صوب اليد التي ربتت على كتفي فهالني أن أرى إمرأة غاية في الجمال ، يشع من وجهها نور سماوي ، وفوق رأسها تاج مرصع بالماس والأحجار الكريمة . ابتسامتها رقيقة وإن طلت من عينيها نظرة حزن . وكانت متشحة بالسواد .. مما زاد من بهاءها بهاءٍ .
قبل أن تفتح فمها بالكلام .. أشرت اليها بيدي أن تعطيني فرصة لأفكر من تكون .
لم تمض سوى ثوان قليلة ، وجدت نفسي أقول لها أنت أمي مصر . لكنها قبل أن أنطق بالكلمة كانت قد قرأت ما أريد أن أنطق به فهزت رأسها مؤكدة صدق حسي .
ركعت عند قدميها.. أمسكت بيدي وقالت لي :
إنهض يا ولدي ..قلت لها :
أنا لا أستحق أن أكون ولدك .. لقد تركتك وهربت ..
كان ردها :
أنت لم تهرب .. بل غيرت المكان ، غيرت الأرض بأرض أخرى وكلها ارض الله .. لكنك لم تُشرك في قلبك حباً أخرا ..ولا أعني ياولدي أنك تحبني و لا تحب أستراليا ..أعرف ولاءك لأستراليا ، أحترمه ، لكن حبك لأمك مصر وما يحدث لها جعلك دائم التفكير في أمك مصر على الرغم من طول سنيِ غربتك وبعد المسافات .
تنهدت تنهيدة إن دلت على شيء ، فانما تدل على حزن وأسى دفينين في أعماقها ووجدانها ، ورأيت الدمع يترقرق في مقلتيها .فكانت أجمل من أفروديت إلهة الحب والجمال على الرغم من حزنها الدفين .
قلت لها :
بالله عليك يا أمي خبريني عن سبب أو أسباب حزنك !!.
ردت علي :
مآلت اليه أحوال أبنائي ألا يحزن ؟!!
بالطبع يحزن .. لكن هذا الأمر ليس بجديد عليكي أو علينا ..
في كل مرة عندما تصل الأمور الى مثل هذا الحد .. كان يخرج من وسط أبنائي من يرشدكم وينصحكم محاولا اصلاح الأمر ، وكانت الحكومات في أغلب الأحوال تستجيب له أو لهم . أما الأن فالأمر جد مختلف .
سامحيني يا أمي .. لكن الأن مساحة الحرية قد اتسعت ولدينا فضائيات وتكنولجيا حديثة وصحف قومية ، ومعارضة ومواقع إلكترونية وكل شيء يتحدثون عنه بكل جرأة وشجاعة قد تصل أحيانا الى حد الوقاحة .
لكنها ردت على مكملة حديثها :
ماتت طموحاتهم وتحولت أحلامهم الى كوابيس .. فتحاشوا النوم وقلبوا نهارهم ليلا ، وليلهم نهار . غابوا عن الوعي ولم يعد يهمهم من يلومون أو من يحترمون ، لأنهم كانوا يوما عاملين محترمين فجاءهم من غيبهم وأبعدهم وأنكر عليهم حق العمل وحق الحياة الحرة الكريمة ..
فقلت لها :
انتِ محقة في كل ما تفضلتي وتكلمتي به ، فأنا عن نفسي أحد المحبطين الذين رأوا أن التيار جد شديد وقوي ومدمر للغير، وفضلت الأبتعاد والعيش على ألأمل في أن يعبر إخوتي وأخواتي يوما ما يحدث لهم عن طريق من يستطيع صد التيار الرافض للغير . لكن أعتقد أن الأمل قد تبدد .. وعلى الرغم من ابتعادنا وقبولنا للغربة ، إلا أنهم يتهموننا نحن أقباط المهجر بالخيانة .
سألتني مستفسرة :
ماذا تقصد بكلمة أقباط المهجر ؟ هل تقصد المسيحيين ؟!
أجبت :
نعم ..
أجابتني بلهجة غاضبة :
لا .. هذا قول خاطيء .. أنا ما جئتك لأنك مسيحي ..إنما لأنني أم لكل المصريين .. وكما تعرف أن كلمة قبطي تعني مصري . وإنما جئتك لأنك واحد من ملايين الأقبط مسلمين ومسيحيين ما زالوا يحبونني كأم لهم .
تعجبت من ردها .. لكنها أم والأم لا تفرق بين أولادها . وقد أكملت حديثي معها قائلا :
إنهم يحاولون محو إسمك الغالي ، وإنكار أمومتك للشعب المصري !!
وجاء ردها :
أعلم هذا جيدا .. وأعلم من قال عني قولا سيئا " طوز في مصر " ، بل وأضاف أن المسلم من أي بلد مسلم أقرب اليه من " القبطي " الذي يعيش معه على نفس الأرض .. أرضي .. أرض مصر . وهو بهذا القول قد أساء الي وأنكرني وأساء الى إبني القبطي الذي يدين بالمسيحية وأنكره وفضل عليه إنسان
آخر لمجرد إنه مسلم مثله .
رددت عليها :
شوفتي .. هذا ما أرمي اليه عندما قلت نحن أقباط ..
قاطعتني قائلة :
دعني أقول لك ، عندما هاجرتم جميعا مسلمين ومسيحيين عُرفتم بأقباط المهجر . لأن العالم كله والإنسان المثقف عرف معنى قبطي .. أي مصري ، فالمسلم قبطي والمسيحي قبطي ، يكفيني هذا الأرتباط بي أنا أمكم مصر.
قلت لها متعجبا :
لاشك تعرفين ما يحدث لأولادك المسيحيين ..
ردت علي بقوة قائلة :
نعم أعرف .. وأعرف ما يحدث لأولادي المسلمين الذين ما زالوا يحبون أمهم مصر ولا يقبلون غيرها بديلا .
في نبرة حزن رددت عليها قائلا :
أمي الكيل قد زاد وطفح وكل يوم نسمع ونقرأ ونشاهد ما يواجهه أولادك المسيحيين من مضايقات واضطهادات . مثلا في مركز نجع حمادي في صعيد مصر ، وفي ليلة عيد الميلاد المجيد هذا العام يتم قتل ابناؤك المسيحيين دون ذنب ارتكبوه ، والقضاء يماطل في معاقبة الجناة ببركة المسؤلين . وهذا يعيد لنا ذكرى أحداث الكشح وتبرئة المتهمين . هذه الأحداث تحدث كل يوم و في أماكن مختلفة على أرضك يا أمي مصر.
في حزن وآسى قالت :
أعرف ذلك أيضا .. وهذا يُقلقني . فقد أُنتزع الحب من قلوب أولادي ، وحل محله الكُره والحقد ورفض الآخر
الكذب والنفاق والرياء هم كلمة السر للوصول الى تحقيق أغراض الناس الأن . وهذا لا يُرضي رب العباد .
أعرف أيضا ياولدي ما وصلت اليه حال الأسرة المصرية التي تحاول الخروج من دائرة الفقر ببيع بناتهن لمن يدفع ثمن متعته تحت ستار الزواج الشرعي ، ثم يطلقها بعد أن يستمتع بعذريتها ويتلذذ بتحطيم كرامتها وإذلالها ، والأسرة لا تهتم بما مرت به إبنتهم من مهانة وإهدار لآدميتها . المهم أن الوالدين قبضا ثمن ُعُهر إبنتهما المغلف بأسم الزواج الشرعي والذي أجبرت الأبنة على قبوله ، وليس من المهم إن كانت الإبنة قاصرا أم لا . أولادي المصريين أصبحوا غير مرغوب فيهم للعمل في دول النفط وفضلوا عليهم أبناء جنسيات أخرى غير عربية ، مع العلم أنهم يتشدقون بعروبتهم ، وقد نسوا أو تناسوا أن أولادي هم الذين علموهم وأخرجوهم من البداوةالتي كانوا عليها الى نور العلم والثقافة والحضارة . أعرف كل هذا وأكثر .. وأعرف أن المد الوهابي أصبح يشكل خطرا حقيقيا على مصر . وأخشى أن أقول أنه تملك تماما على جميع مناحي الحياة في بلدي . لأنه قد تم تقريبا غسل مخ أجيال وأجيال كانت صغيرة وكبرت الأن .. والغسيل مستمر ولا أحد يهتم بي وبأولادي . العجيب في الأمر أن السعودية تحاول الخروج من الخندق الوهابي بتعين أول إمرأة في العام الماضي وكيلة لوزير التعليم ، في الوقت الذي يحرم المد الوهابي على بناتي ممارسة حقوقهن المشروعة في تولي المناصب الهامة مثل القضاء .
وجدت نفسي أكمل حديثها :
وتعرفين أيضا يا أمي ما حدث في مجلس الشعب عندما تقدمت العضوة الأستاذة إبتسام حبيب المسيحية بمذكرة خاصة بالزواج العرفي ، ورد أحد الأعضاء المسلمين الذين تم غسل آدمغتهم وطلب منها عدم التدخل في الشأن الأسلامي لأنها مسيحية .
في صوت حنون قالت :
أعلم يا ولدي هذا ، وأعلم أنها لم تسكت وأكدت كعضوة نائبة عن الشعب أن تعمل من أجل مصالح المواطن والوطن بغض النظر عن الدين أو العقيدة . كل شيء يحدث أمامي وكاد صبري أن ينفذ وأتبرأ من أولادي الذين تشرفت بهم وأفتخر بأعمالهم وإنجزاتهم ، ولم يكن الدين يوما سببا للوصول الى ما وصلوا اليه الأن من تطرف وإحتقان وكره بين إخوة وأخوات عاشوا على أرضهم .. أرض أمهم مصر .
في نفس اللحظة التي كانت تتحدث فيها معي .. كانت قد بدأت تبتعد وتبتعد في الفضاء وهي مستمرة في الحديث قائلة :
لا تخف من إخوتك المسلمين ، فسوف يخرج من بينهم من يعيد لي كرامتي ، ويرسخ الحب بينكم الذي نشأ وتربى عليه أبائكم وأمهاتكم ، وأجدادكم وجداتكم .. ولن يكون بمفرده .. بل سيكون معه أخيه المسيحي ، ليعيدا الأمن والأمان لأبنائي .. وتذكر دائما .. لا يضيع حق وراءه مطالب .
صرخت بأعلى صوتي :
تحيا مصر .. تحيا مصر .. تحيا أمي وأم كل المصريين مصر.
فجأة شعرت بيد قوية تهزني لتوقظني . وعندما إستيقظت وجدت نفسي في فراشي وليس فوق الكرسي " الهزاز " .. فليس عندي " كرسي هزاز " .

CONVERSATION

0 comments: