عام 1979 ادعى ضابط في الحرس الوطني السعودي هو جهيمان العتيبي بأن صهره محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر ، وقام مع عشرات الأتباع بالإستيلاء على الحرم المكي و دعوة الناس في أخطر أزمة سياسية مرت بها المملكة ، وكان جهيمان العتيبي هذا هو بداية الحركات الجهادية المتطرفة . و في ذات العام ظهر الخميني بإيران ليعلن نفسه حاكما بالنيابة عن الإمام المهدي ، و أن دولته هي دولة الإمام المهدي التي تقام فيها صلاة الجمعة . و يبدو أن المهدي هذا مرتبط بالإرهاب السياسي نوعا ما .
كانت أول مرة أسمع فيها بالمهدي المنتظر هي في أحداث عام 1991 ، حين قام الشيعة بانتفاضة ضد الرئيس صدام حسين بتحريض إيراني . كانت شعاراتهم واضحة " صدام اشرد جوك السادة " و " الله واكبر يا علي و نريد قائد جعفري " . المضحك أن التلفزيون العلوي السوري قد بث حينها برنامجا عن قمع الرئيس العراقي للمتمردين ، وأدان سلوك الحكومة العراقية ضد المسلحين .
ندم الإسلاميون الشيعة بعد فشل انتفاضتهم ، حيث باعتهم إيران مقابل انفتاح عربي و خليجي ، و تركتهم يواجهون مصيرهم أمام الجيش العراقي . حتى الذين هربوا إلى إيران ، عادوا بمنشآت كبيرة بعد العفو الذي أصدره الرئيس العراقي ، وكانت الهتافات في تلك الباصات النادمة تقول " صدام خلافك ذلينه " .
لم يتحقق أي حلم من شعارات تلك الإنتفاضة ، لكنها جميعا تحققت بعد الغزو الأميركي للعراق 2003 حتى الهتاف الغريب الذي أطلقه المتمردون عام 1991 " لا شرقية ولا غربية ، نريد الدولة الإسلامية " يبدو أنه هو الآخر سيتحقق أيضا بظهور الدولة الإسلامية .
في تلك الإنتفاضة المسلحة أو " صفحة الغدر والخيانة " قال لي صاحبي بأنها انطلقت في الخامس عشر من شعبان ، بمناسبة مولد الإمام المهدي صاحب العصر والزمان . لم أكن قد سمعت بهذا الإمام المنتظر من قبل ، ولم يمر علينا في درس التاريخ بالمرحلة الإعدادية ؟ .
فيما بعد انتشر اسم هذا الشبح المزعوم في جميع البلاد ، حتى أنه بعد الإحتلال الأميركي لبلادي ، شكل المدعو مقتدى الصدر ميليشيا إجرامية باسم " جيش المهدي " تلك القوات الموضوعة اليوم على قائمة التنظيمات الإرهابية في دولة الإمارات الشجاعة .
لو كان للسنة حينها فهم بسيط للعقيدة الشيعية ، فإن عبارة " جيش المهدي " بحد ذاتها ، تصلح أن تكون سببا كافيا لهجرة شاملة من البلاد و التنبؤ بانتشار الإرهاب و داعش و البغدادي ، لكنهم انتظروا مصيرهم و أفواههم مفتوحة ببلادة عقائدية شديدة .
تم قتل آلاف السنة و تهجير أكثر من مليوني بغدادي أصيل ، على يد جيش المهدي الذي يتألف من الغوغاء ، تحركهم سياسة مخابراتية إيرانية تخطط للإنتقام ، والإنقلاب التاريخي والعقائدي . معظم السنة لا يعرفون ، حتى هذا اليوم ، مَن يكون المهدي هذا على أية حال ؟ .
من المعروف أن القرن الثالث والرابع الهجري هو بداية تحول الشيعة من حركة سياسية إلى عقيدة مستقلة . فلا توجد عقيدة شافعية و أخرى حنفية بل توجد عقيدة إسلامية و أخرى شيعية في التاريخ المعاصر اليوم .
الإسلام بدأ عقيدة روحية ثم انتهى إلى سؤال الدين والسياسة ، بينما التشيع بدأ كاحتجاج سياسي وانتهى إلى عقيدة دينية . حتى التاريخ الشيعي مختلف ، فبينما ينظر المسلمون إلى ظهور صلاح الدين الأيوبي كظاهرة بطولية للإسلام ، كان الشيعة ينظرون إليه كمجرم قوض الدولة الفاطمية بمصر . و من ناحية أخرى ينظر المسلمون مثلا إلى سقوط بغداد بيد المغول كهزيمة حضارية ، بينما الشيعة ينظرون إلى عهد المغول كفترة سيادة وازدهار لمذهبهم . هكذا يجري الأمر على النقيض دائماً وصولا إلى الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003 .
تورط الإسلاميون الشيعة أول ما تورطوا بتفسير الآية " و إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فهي آية قرآنية بسيطة تعني زوجات النبي . فبسبب حقدهم على السيدة عائشة رأوا أن هذه الآية تعني سلالة علي من فاطمة وأن هذه السلالة معصومة ، غير أن التاريخ يروي عن نزاعات بين سلالة الحسن و سلالة الحسين مثلا .
التاريخ الشيعي نفسه يروي مثلا أن شقيق الإمام العسكري المدعو جعفر كان سكيرا ، و لم يصل لأربعة أيام ، و ساعيا بالشر والوشاية على أخيه ( وهو بلا شك من أهل البيت ولكن أحدا لم يذهب عنه الرجس ولم يطهره كما يبدو ) ، كذلك لم يكن هناك تفاهم بين الإمام الباقر و أخيه زيد ، فهذا لم يأخذ بنصيحة أخيه بعدم الثورة على الأمويين . بل إن زيدا هذا بوصفه تلميذا لمؤسس المعتزلة واصل بن عطاء لم يكن متفقا مع أخيه لا في مسألة الإمامة ، ولا في أن الأئمة خلفاء للنبي .
حتى بداية العهد العباسي كان الشيعة مجرد حزب سياسي يريد الخلافة لأبناء علي بن بن أبي طالب لا أكثر ولا أقل . التغير حدث في عهد الإمام السادس جعفر الصادق ، حيث ابتعد هو و جميع خلفائه من الأئمة عن الناس والسياسة ، واكتفوا بالإنشغال بالعلم . فلم يصبح معروفا عند الرأي العام سوى الإمام الثامن ، علي بن موسى الرضا ، غير أن ذلك كان بإرادة الخليفة المأمون وليس بإرادته هو .
المهم عندنا في هذه الدراسة أن يعرف السنة من أين جاءت العقيدة الشيعية التي نراها اليوم ؟ . من أين جاءت القبورية ، والمراجع ، وجمع المال للفقهاء باسم الخمس ، و عبادة البشر ، و جمع الأموال ، و الحركات السرية ؟ . فنحن لا نجد شيئا مشابها للتشيع الحالي في كل ثورات العلويين و مطالباتهم بالخلافة .
الخلفاء العباسيون أنفسهم كان يتنازعهم ذلك التناقض بين اضطهاد الأئمة و شيعتهم خوفا من أن ينازعوهم الشرعية ، وبين تعاطفهم الحقيقي مع علي بن أبي طالب في نزاعه مع معاوية . لهذا نرى بأن المأمون مثلا كان متعاطفا مع الشيعة على النقيض من أبيه هارون الرشيد . مثلما كان المستنصر على النقيض من أبيه المتوكل . المعتضد مثلا ألف كتابا يلعن عدو العلويين معاوية و طلب من رعاياه قراءته .
هذا عندما كان الشيعة مجرد حزب سياسي عربي ، وليس عبادة بشر ، و قبور ، و تطبير ، و زيارات مليونية ، و مراجع ، و نفوذ فارسي . غير أن الشيعة دائماً كانوا دولة داخل الدولة ، يغلب عليهم الكتمان ولا سبيل للسيطرة عليهم إلا بالعسس والعيون والمخابرات . غير أن ذلك لم ينجح تماماً ، لأنه في الوقت الذي تتغلغل المخابرات داخل الجماعات الشيعية ، كان الشيعة أيضا يتغلغلون في القصر و مؤسسات الحكم .
يتمثل المبدأ الأساسي الذي يميز الشيعة عن بقية المسلمين هو فكرة " الإمامة " أي القيادة السياسية الدينية . الإمام ذلك الذي نصبه الله نفسه عن طريق نبيه . يعتقد الإثنا عشرية بأن العالم لا يمكن أن يُترك بدون هداية . لهذا دأبوا على اتباع أبناء علي والحسين حتى الإمام الحادي عشر الحسن بن علي العسكري الذي توفي سنة 260 هجرية بسامراء . لم يكن لهذا الإمام أبناء ، و أخوه جعفر كما ذكرنا سكّير و مرتشي فماذا سيفعل الشيعة ؟ .
محنة كبيرة أن ينقطع نسل الأئمة من فاطمة بالنسبة لهم . فلا هم ديمقراطيون و ينتخبون رجلا صالحا بغض النظر عن النسب كما فعل أهل السنة والجماعة بعد وفاة النبي ، ولا هم يستطيعون منح العصمة والإمامة لرجل سكّير و طماع مثل جعفر شقيق العسكري ؟ .
من هنا جاءت فكرة المهدي المنتظر . وهو شخصية ليس لها وجود . اختلقوا خرافة عن وجود ولد للعسكري عمره خمس سنوات ، غير أنه إمام كامل و يحدث الناس في المهد مثل النبي عيسى لكنه غاب " غيبة صغرى " لمدة 69 سنة ، ثم أرسل رسالة للشيعة في القرن الرابع الهجري يقول لهم فيها بأنه سيغيب غيبة كبرى الآن وسيظهر لاحقا .
فكرة المهدي والإثنا عشرية كلها من اختلاق الخصيبي المتأثر بالمسيحية و قصص الحواريين الإثني عشر ، حتى أن المجلسي يذكر بأن أم المهدي ( نرجس ) هي جارية نصرانية معتوقة من نسل الحواريين . عموما الخصيبي طرده الإثنا عشرية فيما بعد و نعتوه بالزندقة حين كشف عن عقائد التناسخ والحلول التي يؤمن بها ، فأصبح أحد أئمة الطائفة النصيرية المعروفة بسوريا .
تبدأ العقيدة الشيعية بعد وفاة الأئمة ، وباختلاق فكرة المهدي المنتظر . هنا بدأ التشيع الحالي يتشكل و يتبلور كعقيدة باطنية ، و كتنظيم مالي ، و حركة سياسية طموحة .التشيع الحالي هو الإمام المهدي الذي لا يموت ، لأنه لم يولد أصلا ، لكنه غائب ، و منتظر ، و صاحب العصر والزمان ، والقائم والحجة .
قهقهات الزنادقة في التاريخ الإسلامي وجدت طموحاتها في العقيدة الشيعية . من هنا دور ابن الراوندي والشلمغاني مثلا في بلورة العقيدة ، و منحها بعض الأفكار التي مازالت واضحة حتى اليوم . فإذا كان الله قادر و موجود دون أن يعثر عليه أحد ، فكذلك المهدي . وإذا كان الله غير موجود ، فإن المهدي غير موجود أيضا . سخرية زنادقة بالإسلام و الإيمان العربي لا يمكننا أن لا نلمحها في التشيع .
الحركة العباسية في سعيها للإطاحة بالحكم الأموي ، كان عليها الجمع بين تأييد العلويين من جهة و تأييد الفرس من جهة أخرى . فكلاهما تم اضطهاده على مدى أكثر من قرن . حتى قال بعض المؤرخين إنه يصح القول بأن الثورة العباسية هي ثورة الفرس على العرب . وكما هو شائع دائماً فإن الثورة لابد أن تأكل أبناءها بعد النصر واقتسام الغنائم .
هكذا قطع المنصور رأس أبي مسلم الخراساني ، كما نقل عاصمته من الكوفة إلى بغداد للخلاص من المحيط الشيعي . و على النقيض من الأمويون الذين سمحوا لأبناء علي بن أبي طالب الإقامة في المدينة ، فإن الخليفة العباسي أصر على انتقالهم إلى عاصمته ليكونوا تحت سيطرته و رقابته .
لم يكن العباسيون السبب في عقد القران بين الفرس والشيعة فقط ، بل السبب أيضا في إدخالهم إلى الطموح السياسي ، و التنظيمي ، و الأسلوب السري . بقي الفرس في مد وجزر مع الخلافة العباسية ، لكن بشكل عام كانت مكتسباتهم واضحة مقارنة بالعهد الأموي الذي حرمهم الوظائف ، والقيادة ، وركوب الخيل ، و تقلد السيوف . أما الشيعة فقد تم خداعهم و كان العهد العباسي في بعض مراحله أكثر قسوة عليهم من العهد الأموي نفسه .
حكم العباسيون في البداية باسم الهاشميين ، لهذا انصرف الإمام السادس جعفر الصادق إلى العلم دون مضايقات تذكر ، وفي عهده لم يؤسس مدرسة فقط ، بل انصرف أتباعه إلى جمع المال وإرساله من جميع الأصقاع إلى الإمام . هذا يفسر الثراء الذي عاش فيه الأئمة . فبينما كان الإمام أبي حنيفة مثلا يعيش من متجر لبيع القماش لكي يضمن استقلاله الإقتصادي ، كان جعفر الصادق يقدم هدايا تصل إلى ثلاثين ألف دينار أحيانا . هذا طبعا كرم لا يقدر عليه سوى الأثرياء والخلفاء .
كان لجعفر الصادق نوابه من اليمن إلى بلاد فارس . ليس من الممكن تقدير الدخل السنوي للإمام بصورة مؤكدة ، لأن كل شيء كان يتم بسرية تامة ، إلا أن التاريخ ذكر مثلا حجم الهدايا التي كان يرسلها الوزير علي بن يقطين التي تعطينا فكرة بسيطة عن حجم ذلك المال .
ومنذ عهد الصادق تأسست منظمة شيعية سرية مستقلة اقتصاديا . كان المال يدفعه الشيعي بسبب " حب أهل البيت " وهذا الحب مهم جدا حتى هذا اليوم بالنسبة للمنظمة السرية لأنه سبب ثراء الوكلاء و رجال الدين .
وبسبب السرية في جباية الأموال ، قام عدد كبير من الوكلاء باختلاس الأموال وامتلاكها بطرق غير شرعية . فـ المؤسسة الشيعية منذ البداية هي مؤسسة فساد واختلاس . كانت للوكلاء في الحقيقة السلطة المطلقة ، بينما لم يكن الأئمة في النهاية " أئمة حقيقيين " فعندما دب الخلاف بين علي بن رشيد و أيوب بن نوح على جباية الأموال والمناطق المحددة لكل وكيل ، لم يستطع جعفر الصادق سوى كتابة رسالة إلى الاثنين ببقاء كل واحد في منطقته حفاظا على الأمن والنظام .
منذ العهد العباسي كان يمكننا ملاحظة منظمة سرية تجمع المال باسم الأئمة ، ولم يكن الأئمة في هذه الحال سوى عبء على المؤسسة بسبب الرقابة الشديدة عليهم من السلطات ، وبسبب استقلال الوكلاء و فسادهم . فبعد موت الإمام موسى بن جعفر مثلا اتفق جميع الشيعة على إمامة علي بن موسى الرضا ، فكتب الإمام الجديد إلى وكلائه لإرسال الأموال التي تمت جبايتها باسم أبيه ، فلم يستجب لطلبه الوكيل زياد بن مروان بمبلغ 70 ألف دينار ، وكذلك علي بن أبي حمزة بمبلغ 30 ألف دينار ، و عثمان بن عيسى الرواس بنفس المبلغ . نازع هؤلاء شرعية الرضا بدعوى أن الإمام السابق لم يمت ، وإنما اختفى من العالم ، وهم يحتفظون له بالمال حتى يعود .
لم يكن بإمكان الرضا الذهاب إلى الجهات المختصة والشكوى على الوكلاء ، بل كان على الأئمة دائماً إيجاد حلول سرية داخل الطائفة نفسها . تم التخلص من هؤلاء الوكلاء بطبيعة الحال ، ولكن فكرتهم هي التي عاشت فيما بعد ، و ألهمت المنظمة الشيعية بأخطر فكرة يتأسس عليها المعتقد الشيعي ، بل ضمنت البقاء للإثني عشرية بالذات دون بقية الطوائف الشيعية .
بمرور الزمن تطورت المنظمة الشيعية ، و نظام الوكلاء ، و جمع المال باسم أحفاد محمد و علي و فاطمة من المؤمنين الشيعة . غير أن حال الأئمة بدأ يسوء . خصوصا بعد قرار الخليفة المعتصم نقل عاصمته إلى سامراء و أخذ الأئمة معه ليكونوا تحت الرقابة المشددة .
تروي الروايات أن الإمام العاشر ( الهادي ) مثلا كان يعاني نوعا من الإكتئاب . فقد كان إنسانا تقيا ورعا منطويا على نفسه ، يعيش في عزلة عن الناس ، يخاف الظهور أمامهم ، حتى أنه كان يبقى في بيته معظم الأحيان ، ويتجنب الحديث مع أبناء طائفته ، و يضع حجابا بينه وبين الناس الذين يضطر إلى اللقاء بهم .
لم تكن إقامة الإمامين العسكريين في سامراء اختيارية ، كانت سامراء ولا زات أرضا رديئة بالنسبة إلى الشيعة . فقد أنشئت سامراء كمستعمرة عسكرية للضباط الأتراك ، و الجيش التركي منذ البداية ضد الشيعة و أئمتهم . لهذا عاش الإمامان هناك في غربة ، و تقية ، و اكتئاب . وتحتم عليهما الإعتماد كليا على عثمان بن سعيد العمري وهو شيعي معروف من الكوفة . دخل هذا الرجل في خدمة الأئمة منذ كان عمره أحد عشر عاما ، وكان الإمام يقدمه لزواره كممثل عنه . وهذا ما فعله الإمام الحادي عشر كذلك .
كان عثمان هذا يتسلم خراج الطائفة كلها ، و حين يسأل بعض الأتباع عن سبب الإعتماد كليا على عثمان كان الإمام التقي " المكتئب " يجيب بأن عثمان وابنه نائبان عن الإمام وابنه . لهذا السبب نحن لا نكاد نعثر على أي دور تاريخي ، أو سياسي ، أو علمي للإمامين الأخيرين العاشر والحادي عشر . الرقابة الشديدة ، والبيئة المعادية فعلت فعلها و أصابت هذين الإمامين بالإكتآب .
في تلك المرحلة بالذات كانت المنظمة الشيعية في حالة تطور سريع ، و يبدو أن العقول الشيعية المفكرة بدأت تشعر بأن الأئمة أصبحوا عبئا على التشيع ، ولابد من اختفائهم من العالم حتى يتحقق انتشار المذهب بطريقة أكبر . لهذا نرى بأن أعظم الأئمة على الإطلاق هو ذلك الذي ليس له وجود ، وهو الإمام الثاني عشر . التشيع مدين بثرواته و بقائه للإمام المهدي الذي هو مجرد فكرة و خيال .
ذكرنا في الحلقات السابقة أن وفاة الإمام الحادي عشر سنة 260 هجرية دون أن يكون له عقب ، سبب أزمة كبيرة في صفوف الشيعة . فما هو مستقبل الشيعة من الآن فصاعدا ؟ . بقي الشيعة يتساءلون لماذا لم نر هذا الإمام المهدي ؟ و أين هو الآن ؟ . ولما صح أن الإمام العسكري لم يكن له ولد في الواقع ، فقد أخذ الناس يشكون في شرعية الإمام الحادي عشر ، وكان بعضهم يحاول أن يتخذ أخاه جعفرا إماما ، فالإمام برأيهم لا يموت دون أن يترك ولدا و خليفة له . لقد أثارت هذه المحنة وجدان الشيعة حينها ، و أدت إلى انقسام حركتهم إلى أربع عشرة فرقة .
لم تستطع الطوائف الشيعية المنشقة البقاء والإستمرار ، فانحلت مع توالي الأيام . وبقيت الفرقة الرئيسية التي آمنت بوجود ولد للإمام حيث تم إنقاذها من الإنقراض بواسطة فرقة صغيرة هي النصيرية . غير أنها فكرة ناقصة حينها ، فابتدع الشيعة معها فكرة السفراء . وهي أن الإمام الغائب عن الناس يتصل بالسفراء و يجيب عن أسئلتهم . السفير هو نائب الإمام الغائب عمليا . الجدير بالذكر أن النصيرية طائفة شيعية مختلفة في عقيدتها عن الإمامية ، وقد أُبيدت هذه الطائفة في العراق عند دخول المغول إلى بغداد .
من الطبيعي أن يكون السفير الأول بعد وفاة الإمام الحادي عشر هو ذلك الذي كان يجمع خراج الطائفة و ينوب عن الإمامين العاشر والحادي عشر في عزلتهم أمام الناس . السفير الأول هو عثمان بن سعيد العمري الذي بقي في منصبه هذا عشرين سنة ، وقد خلفه ولده جعفر في ذات المنصب لربع قرن ، أي حتى مطلع القرن الرابع الهجري .
لقد نشر الزميل سعيد بن حازم السويدي مقالا مطولا بعنوان " هل يتشيع السنة العرب في العراق ؟ " ، بدا وكأنه رغبة بالحوار مع ما كتبته سابقا ، وقد كان تخميني صحيحا فقد تلقيت من الكاتب المحترم رسالة استفسار عن رأيي ببحثه المثير . هو يقول " سلطة شيخ العشيرة في المجتمع الشيعي تتضاءل أمام سلطة رجل الدين ، بل إن شيخ العشيرة يستمد قوته و نفوذه عبر توثيق علاقته مع رجل الدين " ثم هو يعقد مقارنة غير موفقة مع شيخ العشيرة السني ، و يعتقد بأن استقلاله عن رجل الدين بسبب ضعف التدين . الحقيقة لا علاقة للتدين في مقارنة بين تنظيم باطني سياسي واقتصادي ديني ، و بين عقيدة أهل السنة والجماعة .
لقد بدأت سلطة رجل الدين عند الشيعة منذ السفراء و نواب الإمام الغائب . يروي التاريخ أن سلطة السفير الثاني مثلا كانت أكبر من سلطة الأغنياء من ملاك الدور والأراضي . يقف إلى جانبه عشرة مستشارين شريفيين من قادة الشيعة أينما ذهب ، وكان بقية أعيان الشيعة و علمائهم على اتصال دائم به .
هذا السفير هو نائب الإمام المهدي الغائب ، و على اتصال دائم به ، و يجمع خراج الطائفة و ذهبها ، و هو يدير أعمالها بشكل سري و باطني . رجل دين كهذا هو ملك في الحقيقة ، ولا يمكن مقارنته برجل الدين السني الذي لا حول له ولا قوة .
إذا كنت تبحث عن رجل دين سني يمتلك سلطة المرجع الشيعي ، فعليك العثور على رجل دولة ، و إمام ، و بيعة ، و ذهب و أموال ، أي عليك أن تجد شيئا مشابها لأبي بكر البغدادي . وهذا ما تحاول المملكة العربية السعودية منع وقوعه . فـ المفتي السعودي يتخوف من تحولنا إلى حركة باطنية مشابهة للقرامطة والخوارج في صراعنا مع العدوان الصفوي . العقيدة السنية كنظام حياة ، و علاقة منظمة بين الحاكم والمحكوم في هذه الحالة ستكون في خطر .
كان للعرب حتى سنة 304 هجرية وفاة السفير الثاني ، القيادة الرسمية للشيعة ، فقد كان الأئمة والسفيران الأولان من العرب . وقد انكسرت هذه القاعدة إلى الأبد بتعيين الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي سفيرا . غير أنه كان هناك على الدوام عدد كبير من الفرس بين الوكلاء والعلماء ، الذين كانوا على صلة بالأئمة والسفيرين الأول والثاني ، وكانوا قد عملوا على نشر نفوذهم .
بقي ابن روح في منصب السفير والوسيط بين الإمام المهدي و شيعته لربع قرن أيضا ، فقد توفي سنة 326 هجرية ، و كان عهده من أصعب العهود بسبب تصاعد الفرق الشيعية المعادية للخليفة كالقرامطة والفاطميين وأصبحت إقامته صعبة ببغداد بسبب الشكوك التي تحوم حوله والمال الوفير الذي يأتيه من طائفته . تعرض فيها لتحديات عديدة منها ادعاء الحلاج بأنه هو السفير الشيعي ، أو خيانة الشلمغاني له ، إضافة إلى مطاردة الشرطة له و إيداعه السجن .
بعد وفاة السفير الثالث جاء السفير الفارسي الرابع والأخير علي بن محمد السمري الذي لم يعش سوى ثلاث سنوات . وكما حدث للشيعة في محنة الإمام الحادي عشر ، تكرر الشيء نفسه في عهد السفير الرابع .
كان الشيعة أمام مفترق طرق ، فكما هو من المستحيل استمرار الإمامة من نسل فاطمة إلى أبد الدهر ، كذلك يستحيل استمرار السفارة إلى أبد الدهر . تحديات الواقع والمنطق تفرض على الشيعة مع الزمن إيجاد حلول . كان الناس يسألون كثيرا عن الإمام الغائب الذي يفترض به قد أصبح شيخا في السبعين ليلة وفاة السفير الرابع . لا يمكن للسفراء الإستمرار في النصب والإحتيال وادعاء أن الإمام مختفي في مكان ما ويرسل الرسائل للسفراء . كذبة كبيرة من هذا النوع لابد لها أن تظهر حقيقتها مع الزمن ، و ينهار المذهب الإثنا عشري كله .
لهذا ادعى السفير الرابع بأن الإمام الغائب قد أرسل له رسالة يخبره فيها نهاية الغيبة الصغرى و بداية الغيبة الكبرى ، ولم تعد هناك حاجة إلى سفراء بعد موته ، الرسالة المزعومة من الإمام المهدي و توقيعه تقول : " يا علي بن محمد السمري أعظم الله لك أجر إخوانك فيك ، فإنك ميّت ما بينك و بين الموت ستة أيام فاجمع أمرك ، ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جورا ، و سيأتي لشيعتي مَن يدعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة ، وهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . "
بعد انقراض الأئمة و رحيل السفراء الأربعة مطلع القرن الرابع الهجري ، تركزت جهود الإثنا عشرية على مهمتين رئيسيتين هما إنقاذ فكرة الإمامة ، رغم أنه لم يعد هناك إمام موجود على الأرض في الزمان ، بالتركيز على الإمام المهدي المنتظر الغائب غيبته الكبرى ( صاحب الزمان ) أولا ، والمهمة الثانية هي إنقاذ المؤسسة الباطنية التي تجمع الخراج و تنظم المال والعلاقات داخل الطائفة .
وحين نقول طائفة باطنية فهذا بالنسبة لنا يأخذ معنى سياسيا أكثر منه عقائديا ، بمعنى أننا نناقش تاريخا آخر للإسلام غير الظاهر للناس في العلن .
بعد وفاة السفير الرابع فإن الطائفة الإثنا عشرية لم يقدها سوى الفقهاء ، وهو المسمى عندهم ب " المجتهد " وهذا هو اسم العالم عند الأصوليين الشيعة ، وإن لم يكن ذلك بشكل مباشر . وقد استمر هذا التقليد عندهم حتى شهدنا القائد العسكري للإحتلال الأميركي بول بريمر يقول بأن التفاهم مع الشيعة أسهل من السنة ، لأن عندهم عنوانا و قيادة دينية تتمثل بالمجتهد المرجع السيستاني ، بينما السنة ليس لهم قائد ديني .
كان أولهم وأرفعهم مقاما هو رجل إيراني من مدينة قم يدعى علي بن بابويه الصدوق ( ت 381 هجرية ) الذي يروى أنه استلم رسالة من الإمام العسكري يقول له فيها " شيخي ، و أمين سري " والمفيد ( ت 413 هجرية ) وتلميذه المرتضى ( ت 436 هجرية ) وبعده الشيخ الطوسي ( ت 460 هجرية ) بعد الشيخ الطوسي مرت الطائفة بفترة نكوص و اضطهاد ما لبثت حتى انتعشت من جديد في العهد المغولي . فقد افتتح الشيخ خاجه الطوسي عهد الشيعة في العصر المغولي ، تبعه ابن طاووس ، ثم العلامة الحلي . يكفي أن نعرف بأن الفقيه ابن طاووس قد ألف كتاب " ربيع الشيعة " في العهد المغولي لبغداد .
كانت ابنة الإمام موسى الكاظم قد ماتت أثناء سفرها إلى بلاد فارس في مدينة قُم سنة 201 هجرية ودفنت فيها . وازداد المركز الشيعي الأول في فارس عن طريق هذه الشخصية السامية ارتفاعا
من الملاحظ أنه بعد الكوفة وبغداد تأتي مدينة قم كمركز ثقافي مهم منذ الشيخ الصدوق الذي كان أول من قاد الشيعة في عهد الغيبة الكبرى و انقراض السفراء . فمدينة قم هي أول أرض فارسية تشيعت بالكامل حتى لا يكاد يقيم فيها سني واحد . تطورت المدينة لتصبح مع الزمن أهم مركز ثقافي شيعي ، فما من عالم له سمعة طيبة عندهم إلا كان أصله من قم أو قد درس في قم .
كلنا يتذكر الإحتفالات بعودة قائد جيش المهدي السيد مقتدى الصدر نهاية عام 2010 من قم الإيرانية إلى مقر إقامته في النجف ، بعد أن أنهى دراسته فيها لأربع سنوات قضاها في تحصيل العلوم الدينية . الحقيقة أن الإيرانيين كانوا قد أسسوا ميليشيا باسم مقتدى الصدر هذا أطلقوا عليها " جيش المهدي " كانت مهمتها المشاركة بالمذابح الجماعية لسنة بغداد ، فكانت تتم المذابح الكبرى تحت قيادة مقتدى الصدر الصورية في الوقت الذي يتفقه هو على يد الفرس في قم بعلوم الدين والفقه والورع .
لا يكتفي الإيرانيون اليوم بتأسيس أهم مركز ثقافي شيعي في مدينة قم التاريخية ، بل هم كثيرا ما يرسلون الفقهاء والمراجع الفرس لقيادة المركز الثاني في النجف كما نرى في ظاهرة السيستاني اليوم .
إن فكرة النيابة عن الإمام المهدي المنتظر ساعدت الفقهاء كثيرا في بناء قداستهم الروحية عند العوام . كان مطلوبا من هؤلاء الفقهاء مهمة مستحيلة ، وهي بناء إسلام مضاد للإسلام دون مساعدة الدولة . كان عليهم تأسيس علم حديث معارض ، و علم فقه معارض ، إنقاذ الطائفة من الإنقراض ، و ضمان تدفق المال بمنظمة سرية تعمل ذاتيا ، وقبل كل شيء ترسيخ عقيدة مضادة بطقوس مختلفة .
أول اختلاف عقائدي هو قداسة الفقيه . من المعروف أن السنة لا يعبدون فقهاءهم ، فهذا الشيخ القرضاوي على قائمة البوليس الدولي و لوائح الإرهاب ، وهذا هو مرشد الإخوان المسلمين في السجن بمصر دون مشكلة تذكر . بل نحن لاحظنا أن وضع الرئيس صدام حسين مثلا في السجن ، يجرح وجدان العرب أكثر من وضع الفقهاء في السجون ، رغم أنه قائد قومي علماني . الشيعة على العكس من ذلك ، بسبب تاريخهم و اختلاف عقائدهم .
الشلمغاني أول مَن أسس لعبادة الفقهاء عند الشيعة . فالتاريخ يروي أن كتب الشلمغاني قد انتشرت في كل البيوت الشيعية على التقريب ، وحرص الشيعة على استعمالها في زمان السفير الثالث . هذا عندما قربه السفير الإيراني الثالث ابن روح للنيابة عنه في قيادة الشيعة أواخر القرن الثالث الهجري ، قبل اختلافهما و تكفير الشلمغاني . وهذا الشلمغاني هو نفسه الذي مجده الشاعر العلوي أدونيس بشعره ، و ادعى العراقي كاظم جهاد بأنه لا يوجد ذكر للشلمغاني في التاريخ بهجومه على أدونيس . وهذا يعكس جهل كاظم جهاد بالمصادر الباطنية لأدونيس .
كان الشلمغاني يقول فيما نُقل عنه بأن الله مجرد فكرة ، فكما يختلف الناس و تختلف مواهبهم الإدراكية ، كذلك يختلفون من حيث اختلاف فكرة الله فيهم . كل إنسان يحمل مفهوم الله في قلبه كما لو أنه يشاهد حقيقة . والله اسم لفكرة عن كائن قادر من هذا النوع ، وتبعا لذلك فكل إنسان يحتاج إلى مساعدة قادر أو هو يتوقف على مساعدته ، لهذا يعد هذا الإنسان " المتفوق عليه إلها " بالنسبة إليه . لهذا يردد حفيده أدونيس ذات الفكرة بالقول بأن القرآن لا قيمة له ، فهو يصغر و يكبر تبعا لعقل القاريء الذي يقرأه . ولهذا لابد من إمام .
لاحظنا بالتجربة أن الحسينيات الشيعية غير مهتمة على الإطلاق بالقرآن و لا يتم فيها ذكر " الله " ، لأن الملا والسيد هو " الله " بالنسبة للفلاح ؟ والمرجع هو " الله " بالنسبة للملالي ؟ والإمام هو " الله " بالنسبة للمراجع ؟ وهكذا تكون القضية الأساسية في العقيدة الشيعية هي المنظمة السياسية و الإنضباط ، وترك موضوع الله لأهل البيت فهم يتفاهمون معه بخصوص شيعتهم و شفاعتهم .
وعلى الرغم من انطواء المذهب الشيعي على جماعات مختلفة من غلاة ، و زنادقة ، و متصوفة عبر تاريخه الطويل فإنهم لا يكترثون لهذه المسائل بسبب الجوهر السياسي للمذهب . فهم يزعمون بأن جعفر الصادق قد قال لهم منذ أيام المعتزلة والزنادقة بأن هذه الإختلافات ليست جوهرية ولا قيمة لها ، فالمسألة الرئيسية هي أنهم جميعا يؤمنون بالإمام و يتوجهون إليه .
كما نرى فإن الشيعة أحرار في أفكارهم جميعها ، على أنه لا يحق لأفكارهم هذه أن تكون مناهضة للإمامة والمرجعية ، التي تعد المقوم الأساسي للمذهب الشيعي . وهذا يفسر اليوم قدرة المؤسسة الشيعية على احتواء الشيوعيين مثلا رغم إلحادهم الصريح ، بينما لم تستطع هذه المؤسسة نفسها احتواء مرجع ديني مثل الحسني الصرخي لأنه متمرد على الإمام السيستاني وليس متمردا على الله ، لهذا تم حرق و سحل و اقتلاع عيون أتباعه علنا العام الماضي .
ثم أن الشيعة ليسوا متسامحين مع الطوائف الأخرى ، فالشريف المرتضى أول فقيه عندهم قال بنجاسة المسيحي واليهودي ، ثم مع الزمن تم سحب مفهوم النجاسة إلى أعداء أهل البيت ثم عم جميع السنة . الكليني في أصول الكافي يقول بأن مَن مات دون أن يؤمن بالأئمة الإثنا عشر يعتبر كافرا ، لهذا يعتمدون أسلوب التلقين عند الدفن ، وهو دخول الفقيه الحفرة مع الميّت و تلقينه أسماء الأئمة الإثنا عشر حتى يرددها للملكين المخلدين و ينجو من العذاب .
يطلق الشيعة على السنة كلمة " أبناء العامة " و إذا عاشرت الحسينيات فترة طويلة ، ثم دخلت مسجدا سنيا ، فإنك ستشم رائحة المصلين الكريهة ، و تشعر بنجاسة المسجد ليس لأسباب واقعية بل لأن الخطاب الشيعي نفسه يقودك إلى احتقار السنة تحديدا .
ففي الوقت الذي ينتقد فيه الشيعة حركة طالبان على تحطيم التماثيل البوذية ، فإنهم يفخرون بالعلامة المجلسي الذت كان له نفوذ على الشاه الصفوي سلطان حسين . فقد سمع المجلسي بأن الهنود يدفعون أموالا و ذهبا كثيرا للصفويين مقابل السماح لهم بممارسة دينهم البوذي في إيران ، لكن المجلسي هو الذي استعمل نفوذه لتحطيم المعابد البوذية و تماثيلها . لهذا نرى وجود تماثيل بأفغانستان ولكن لا أثر لها بإيران .
لاشك بأن هذه العقائد الحادة تراجعت في العراق خمسينات القرن الماضي بسبب انتشار التسامح والأفكار العلمانية والعلوم ، لهذا كتب أحد أهم المفكرين الشيعة حينها قائلا " و تراجعت فكرة المهدي المنتظر و عودته ، حتى أن معظم الشيعة اليوم يعرفون الغيبة ، غير أنهم لا يعرفون شيئا عن الرجعة وأصبحت منذ ذلك الحين موضوعا ثانويا ، لأن الباعث المحرك لفكرة المهدي المنتظر هو أخذ الثأر والإنتقام ، وهذا الباعث قد سقط اليوم " .
يبدو أن هذا المفكر كان يظن بأن وصول الإنسان للقمر قد قضى نهائيا على هذه الغرائز . لم يعش هذا المفكر العراقي الشيعي عهدنا هذا ، ليرى جيش المهدي يقطع الرؤوس و يقتلع العيون ، ولم يعش عصرنا الذي تم فيه إطلاق لقب مختار العصر على رئيس الوزراء السابق السيد نوري المالكي .
يشكو المثقف السني دائماً من غموض في المشهد العراقي ، لأنه ببساطة لا يريد النظر إلى التاريخ ، و فهم ظلاله على الحاضر .
المتابع لتاريخ إيران منذ الفتح الإسلامي يلاحظ بأن الإضطرابات القومية لم تهدأ فيها في جميع العهود ، كما نلاحظ بأن الإيرانيين كانوا دائماً ممزقين بين الرغبة بالتخلص من الإسلام وبين اختطاف الإسلام . الصراع بين الخميني والشاه رضا بهلوي في القرن العشرين كان تعبيرا جليا عن هذا التمزق .
قرون طويلة مرت حتى تشكل التشيع بشكله الحالي الذي نراه ، فمثلما كان انقراض الأئمة مشكلة كبرى للمفكرين الشيعة ، تلك الأزمة التي تم حلها بفكرة الغيبة الصغرى مؤقتا ثم الغيبة الكبرى ، فإن حقيقة تشيع إيران كلها طرح مشكلة أخرى متعلقة بفكرة " المظلومية " وعلاقة التشيع بالسياسة .
رأينا في الحلقات السابقة أنه لم يكن هناك دور شيعي سياسي ظاهر في العهد العباسي ، واستمر هذا السلوك السلبي في جميع العصور حتى ظهور الدولة الصفوية و أصبح التشيع حينها الدين الرسمي للبلاد .
بدأ الفقهاء الشيعة يشتغلون بالسياسة منذ مطلع القرن العشرين ، وقد طالبوا بالحياة النيابية في إيران . فكان خاجه مرزا حسين بن حاج مرزا خليل طهراني ، و عبد الله المازنداني ، و محمد كاظم الخراساني حاملي هذه الفكرة الرئيسيين . هذه الحركة وجدت خصما منطقيا لها في شخص المرجع الشيعي المعروف كاظم اليزدي ، الذي أوضح أن الحياة البرلمانية ليست من الشيعة في شيء ، و حصر السلطة في الفقهاء وحدهم .
هذه إشكالية في صميم العقيدة الشيعية ، فإذا كانوا يقبلون باجتماع الأمة والبرلمان والشورى فلماذا لم يقبلوا بالخلفاء الراشدين و أسسوا مذهبهم على الرفض و المطالبة بالسلطة المبنية على الأئمة بالوراثة والإختيار الإلهي ؟ . برزت هذه الفكرة كتحد أكبر أمام إيران بعد انتصار الخميني على الشاه سنة 1979 وكان الحل الشيعي الذي طرحته المؤسسة الخمينية عبقريا حقاً .
الحياة البرلمانية والحكومة لها سلطات محدودة بينما السلطة العليا للبلاد تقع بيد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية و مرجعها الديني " الولي الفقيه " نائب الإمام المهدي الخميني و الخامنائي من بعده . هذا الحل انسحب على تجارب مشابهة فيما بعد هي تجربة العراق الشيعي بعد الإحتلال . من المعروف أن أميركا أرادت عقاب الإسلام السني بعد هجوم الحادي عشر من أيلول 2001 لهذا قامت باحتلال العراق و سلمته إلى الجماعات الموالية للنظام الإيراني .
التجربة العراقية تكرار صارخ للتجربة الإيرانية حيث نرى بأن الحكومة والبرلمان مجرد سلطة صورية و أن ولاية الفقيه متمثلة بالسيستاني هي السلطة العليا التي يتسابق السياسيون لنيل دعمها . السيستاني سلطة مقدسة أكبر من الإنتخابات والحكومة ، و هذه السلطة ترتبط بدورها بعلاقة غامضة و سرية بالولي الفقيه الإيراني علي خامنائي ، و لا يمكن لنا معرفة الثروات التي تدخل إلى مؤسسة الحوزة الشيعية ، ولا عن الأشخاص المسؤولين عن استثمار هذه الثروة ، ولا كيف يمكن وراثة المؤسسات المالية من مرجع إلى آخر .
المؤسسة الشيعية تحتفظ بظهور المهدي كرجاء في حالات الشدة فقد كبر هؤلاء على الأمل والإنتظار . لكن هذه الفكرة تنطوي أيضا على مشاعر حقد و ثأر وانتقام ممكن لها أن تهدد السلم الأهلي إذا مكن الله الشيعة من السلطة . ففي بحار الأنوار الذي حفر الفرس أجزاءه ال 26 كلها على الحجر ينقل العلامة المجلسي رواية عن عودة المهدي للخصيبي النصيري " يأمر المهدي عاصفة سوداء تقتلع كل الذين آمنوا بمعجزتي أبي بكر و عمر كما تقتلع الأشجار فـينقلبون و يموتون ، و في النهاية يؤخذ أبو بكر و عمر من الشجرة و يبعثان إلى الحياة بإذن الله ، و على أبي بكر و عمر أن يتحملا مسؤولية ما فعلاه مع فاطمة و علي ، و في تلك اللحظة تصعد النار من الأرض و تأكل الخليفتين . ولكن هذا ليس نهاية العقاب ، و إنما سيأتي جميع الأئمة و يأخذون ثأرهم من أعدائهم ، هكذا سيبعثان ( يقصد أبا بكر و عمر ) إلى الحياة مرة كل ليلة و يعاقبان عقاب ميتة مريعة " .
الذي يحتج على النبش في هذه المواضيع عليه أن يعرف بأنه يحق للسنة الذي عوقبوا في بغداد بالآلاف دون ذنب ، و للنساء العربيات الحرائر اللواتي أنجبن سفاحا في السجون السرية للصفويين ، أن يعرفوا سبب هذا الحقد الكبير عليهم بعد استلام السيستاني والخامنائي للسلطة الفعلية في البلاد . لا يوجد في المؤسسة الشيعية أي تصور عن وجود مشاركة سياسية مع السنة ، كل الأدبيات تحرض على إبادتهم و تهجيرهم أو تبصيرهم و تشيعهم .
نحن في العراق اليوم نشهد حكم العمامة والمؤسسة الإثنا عشرية التاريخية التي أخرجها الخميني من ظلمات القرون الوسطى إلى العصر الحديث . هذا ليس العهد البويهي أو الفاطمي أو الصفوي حيث كانت تلك عهود شيعية تتألف من تحالف الملك مع العمامة الشيعية ، ما نشهد اليوم هو شيء مختلف تماماً إنه انقلاب العمامة على الملك واستلام السلطة الروحية والدنيوية .
نائب الإمام المهدي المنتظر المطارد و المتخفي في سراديب قم والنجف صار يحكم الدنيا والدين و يكاتب الحكومات الأجنبية والسلاطين و ينتقم من السنيين و مساجدهم .
هذا يفسر بوضوح ردة الفعل المتمثلة في داعش ، فهي حركة سنية لا يمكن القضاء عليها بالسلاح ، لأن السنيين أيضا بعد ألوف القتلى والمظلومين في العهد الحالي ابتكروا نموذجهم الخاص المتعلق بالتخلص من الملوك ، و قفز العمامة السنية على السلطة مباشرة . لهذا نلاحظ سعي الدواعش إلى ترسيخ سلطة الأمراء على سلطة شيوخ القبائل .
من الواضح أن التدافع القومي التاريخي بين العرب والفرس في العراق صار يأخذ شكلا دينيا عنيفا . وكما هو معروف بأن الشعوبية في التاريخ قد نشطت بصورة خاصة في العراق ، كما تدل عليه كتابات الجاحظ و ابن قتيبة و أبي حيان التوحيدي و سهل بن هارون و بشار بن برد و غيرهم . بغداد كانت دائماً تعبر عن تلك الثنوية في الحياة العامة بين العرب والفرس . وبسبب انتشار الجهل و كثرة السفلة فإننا لأول مرة نرى هذا الضعف الكبير بالشعور القومي والوطني عند العراقيين إلى درجة أنهم ولأسباب مذهبية مستعدون لقتال العرب السنة تحت قيادة الفرس ، و صدق ابن قتيبة حيث قال " ولم أر في الشعوبية أرسخ عداوة ، ولا أشد نصبا للعرب من السفلة ، والحشوة ، و أوباش النبط ، و أبناء أكرة القرى " فقد ذكر سنة بغداد في السنوات الأخيرة كيف أن سيطرات الميليشيات تتعمد تفتيش زوجاتهم و لمس نسائهم .
لا حاجة بنا للعودة إلى العهد العباسي لتلمس اختلاط الشعوبية بالعقائد ، فهذا الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين يقف في قم الإيرانية عام 1992 بمناسبة المهرجان العالمي لألفية الشيخ المفيد ليقول
" و إن دما في قلب قحطان لم يجدْ
شرايينهُ فاختار من فارسٍ قلبا
وعقباكِ يا بغداد أنَّكِ عاقرٌ
وإن كنت أنجبت العباقرة الشهْبا "
إنه يشتم عاصمته لأن الحكم ليس شيعيا فيها ، ويبدو أنه كان يتشوق لبغداد الحالية " بغداد الخناقين " واللصوص و القتل على الهوية و التبعية و حمل ثروات البلاد إلى طهران . الحقيقة هي أن الشاعر جمال الدين عاقر فهو يكتب قصيدة قافية ووزنا على قصيدة المتنبي " فديناك من ربعٍ و إِنْ زدتنا كربا " غير أن المتنبي لم يمدح الأعاجم و متهم بالعنصرية العربية .
العرب السنة متهمون اليوم و مصيرهم في مهب الريح بالعراق ، حتى المقالات التي نقرأها منذ عشر سنوات هي مجرد تكرار لثقافة الشعوبيين القديمة التي تلخصها قصيدة لأبي نؤاس
" يبكي على طلل الماضين من أسدٍ
لا در درك قل لي مَنْ بنو أسدِ
و مَنْ تميمٌ و من عكل و من يمنٍ
ليس الأعاريب عند الله من أحدِ "
تفاجأ الدبلوماسيون السعوديون من تصريح للسيد باقر الزبيدي يتهم السعوديين بالبداوة و ثقافة البعير ، وهذه نزعة تذكرنا بالجيهاني في القرن الرابع الهجري الذي يقول " إن العرب يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات و يتساورون و يتهاجون و يتفاحشون " وفي مكان آخر يقول " ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقى ولا كتاب الفلاحة ولا ما يجري في مصالح الأبدان و يدخل في خواص النفس " كانت الشعوبية دائماً تردد في العراق أنه للأمم كلها من الأعاجم ملوك تجمعها و مدائن تضمها و أحكام تدين بها و فلسفة و بدائع من الأدوات والصناعات . ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتهم فيه العجم .
منذ بداية احتلال العراق لاحظنا التوجه إلى اللهجة الدارجة ، و تجهيل المجتمع ، و هدم البلاد و تخريبها و كيف أن السيستاني والخامنائي أصبحا القادة الفعليّين للبلاد والرموز المقدسة على حساب الشعب العربي في العراق وثقافته القومية .
كل هذا ما كان له أن يتحقق لولا أنهم يمثلون الإمام المهدي الغائب وأنه لم يمت كباقي الناس ، وهو يظهر في البحار والقرى ، و يلمحه الحجاج والزائرون بين الحين والآخر . لو أن المهدي يموت و يتم هدم الحوزة الباطنية والخلاص من سلطة المراجع و طموحاتهم السياسية لانتهى هذا المشروع المدمر الذي أصبح يهدد المنطقة العربية بالخراب الشامل .
0 comments:
إرسال تعليق