إسرائيل في مواجهة الوكالة الدولية للطاقة الذرية/ د. مصطفى يوسف اللداوي

(2)
مما هو معلوم أن عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ينصب على ضمان الحد من انتشار الأسلحة النووية، ومراقبة النشاط النووي للدول، غير أن الدول النووية الكبرى، اشترطت عند تشكيل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن يتم استثناء نشاط الدول الأعضاء في النادي النووي، وهم الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، ولا يتم خضوع منشآت هذه البلاد لإشراف ومراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكانت هذه الدول تشكل بمجموعها نادي الدول النووية، ولكن هذا النادي، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي قد اتسع، ليشمل ثلاثة من الجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي السابق، وهي أوكرانيا، وكازاخستان، وبيلاروسيا، ثم التحقت بها مجموعة الدول التي كان يطلق عليها "دول العتبة النووية"، كالهند والباكستان وإسرائيل والأرجنتين.
وقد نص النظام الداخلي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن الولاية الجبرية للوكالة الدولية، إنما تسري فقط على الدول الموقعة على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وهذا يعني أن الوكالة ليس لها أي ولاية قانونية على المنشآت النووية الإسرائيلية، طالما أن إسرائيل لم توقع على هذه الاتفاقية حتى اليوم، ولكن المجتمع الدولي لا يمارس أي ضغوط على إسرائيل لإجبارها على التوقيع والانضمام إلى الاتفاقية، بينما مارست ضغوطاً كبيرة على الحكومات العربية والإسلامية للتوقيع على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وهذا يعني خضوع كل الدول الموقعة بالكامل، بما فيها الدول العربية والإسلامية، لولاية الوكالة الدولية، وخضوعها لكل أعمال التفتيش والمراقبة، بينما تملك الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحق بالقيام بزيارات مفاجأة لإسرائيل، لإجراء تفتيش على منشآتها النووية، بينما تستطيع أن تقوم بهذه الزيارات المفاجئة لبقية الدول الأعضاء، وغالباً ما تذيل تقريرها بعبارة "أن تلك الدولة لم تبدِ تعاوناً تاماً"، وهذه إشارة واضحة لقيام المجتمع الدولي بتجريد أوسع حملة ابتزاز وتشهير ضد الدولة المعنية بالإجراء، وتهديدها بنقل ملفها النووي إلى مجلس الأمن، تحت طائلة استخدام البند السابع من ميثاق مجلس الأمن الدولي، بينما لا تقوى الوكالة على إحالة الملف النوي الإسرائيلي للنقاش، رغم يقينها بامتلاك إسرائيل لترسانة نووية هائلة.
ويذكر ديفيد أولبرايت رئيس معهد العلوم والأمن الدولي، أن جميع القوانين المتعلقة بمنع انتشار الأسلحة النووية، فصِّلت من أجل إعفاء إسرائيل من الخضوع لها، ومع ذلك يرى بعض المسؤولين الإسرائيليين أن الكثير من القوانين الدولية، هي مصائد محتملة لإسرائيل، وهي جزء من المساعي المعادية لإضعاف الدولة اليهودية.
وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تستجدي إسرائيل، للحصول على موافقتها للقيام بعملية تفتيش ومراقبة لمنشآتها النووية، قد أعلنت عن نيتها مناقشة ملف إسرائيل النووي، ولكن بعض العالمين ببواطن الأمور يقولون بأن هذه المناقشة قد لا تتم بدواعي السرية، والتزاماً بالسياسات الأمنية الإسرائيلية التي تنتهجها، إذ احتج ساسة إسرائيل وخبراءها النوويين على الاقتراح، مبررين ذلك بأن أي نقاشٍ معلن حول ملف إسرائيل النووي، سيكشف بالضرورة عن قدرات إسرائيل النووية، وسيكشف عن برنامج استخدام القدرات النووية، وهل هي برامج سلمية أم عسكرية، كما سيؤدي إلى فرض رقابة مشددة على ترتيبات الأمن والسلامة، من أجل منع الكوارث وحوادث التسرب النووي المحتملة، كما أن كشف قدرات إسرائيل النووية سيضعف المجتمع الدولي أمام سعي بعض دول المنطقة لامتلاك قدراتٍ نووية، ولهذا ترفض إسرائيل، بضمانةٍ أمريكية، إخضاع منشآتها النووية لأي شكل من أشكال الولاية القانونية للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وتعتقد الإدارة الأمريكية أنه في حال عجز الوكالة عن إدراج ملف إسرائيل النووي على جدول أعمالها للمناقشة، فإن هذا من شأنه أن يضعف مصداقيتها، وسيؤدي إلى حدوث شرخ في السياسات الضابطة لمنع انتشار واستخدام الطاقة النووية، مما قد يدفع الكثير من الدول إلى التفكير جدياً في امتلاك أسلحة نووية، خاصة في ظل تغير مفاهيم الأمن العالمية، وعدم التزام بعض الدول بقرارات الشرعية الدولية، ويؤكد بعض الخبراء النوويين والتقديرات الاستخباراتية أن الانتشار النووي قد حدث فعلاً، ويقولون بأن الضبط العالمي للانتشار النووي قد سقط، وتعتقد إسرائيل أنها لن تستطيع في المستوى الزمني المنظور، بموجب استراتيجيتها الأمنية والعسكرية، التخلي عن قدراتها النووية، ولا إخضاع مؤسساتها للرقابة الدولية، فهي تعتقد أن حيازتها للسلاح النووي هو العمود الفقري الذي تستند إليه في تأكيد وجودها وديمومته، في وسطٍ عربي معارضٍ لوجودها.
ولهذا فإن قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بقدر ما أنه يحمل دلائل جدية، فإنه قد يحمل ملامح مكيدة دولية جديدة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الدول العربية والإسلامية، ويكون في الوقت نفسه لصالح إسرائيل، إذ تسعى الولايات المتحدة الأمريكية بالتفاهم مع إسرائيل لإيجاد نظام عالمي جديد، تصفه بأنه عالم خالٍ من الأسلحة النووية، ولكنه يقوم على قاعدة التجميد بدلاً من الإخلاء، خدمةً للمصالح الإسرائيلية، ومراعاةً للحالة الاستثنائية التي تعيشها، حيث لا ترتبط عملية إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية، بعملية التجميد، بمعنى ألا تسعى دول جديدة لامتلاك أسلحة نووية، بينما توقف الدول الأخرى برامجها النووية، وتجمد أنشطتها النووية، فتكون إسرائيل هي المقصودة فعلياً بهذا الاقتراح، إذ تدرك الولايات المتحدة أن إسرائيل قد أصبحت دولةً نووية، وأنها تمتلك أسلحة نووية، فهي لم تعد بحاجة إلى تجارب نووية جديدة، ولا إلى أبحاث نووية أخرى، وبهذا تحافظ إسرائيل على ما تحتويه ترسانتها النووية من قنابل نووية، ومن وسائط الإيصال، لكنها تتوقف فقط عن عمليات التطوير والإنتاج الجديدة، وتحوز على اعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها دولة نووية مستثناه من الشروط والضوابط والقيود.
ولكن مقترح التجميد يتواصل على الدول الأخرى، فمن لا يمتلك أسلحة نووية يبقى على حاله من عدم الامتلاك، ولا يسعى للحصول على أسلحة نووية، ولا يحاول إجراء تجارب نووية، ولا شراء تقنيات أو مستلزمات امتلاك القدرات النووية، وفي الوقت نفسه تخضع الدول المحرومة من التقنية النووية إلى رقابة ومتابعة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بينما تعلن إسرائيل عن نفسها أنها دولة نووية، ولكنها ستلتزم بقانون التجميد المقترح، وكانت الإدارة الأمريكية مرت بنفس الأزمة مع الدول العربية، فواجهت بين عامي 1994 و 1995، ثورةً إقليمية بسبب مشكلة أسلحة إسرائيل النووية، وذلك في إطار التمهيد لمؤتمر مراجعة وتمديد سريان معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، التي كان من المفترض التوقيع عليها قبل أبريل / نيسان 1995، ولكن السفير الأمريكي توماس غراهام دافع عن إسرائيل وسياستها، ورفض ممارسة أي ضغط عليها لإجبارها على التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
وفي هذا تأكيد كبير على الازدواجية السياسية، وسياسة الكيل بمكيالين، وعدم الاحتكام إلى معايير العدل والإنصاف في مساعي الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، حيث أصبحت أمريكا تحارب الدول العربية والإسلامية في مشاريعها المدنية السلمية، وتحاربها وتعاقبها على نواياها وما تحلم به، وتشجع عمليات الإكراه والعقاب وسياسة فرض الأمور بالقوة.
إن استثناء إسرائيل من تطبيق أحكام معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، سيؤدي بالضرورة على اختلال في ميزان القوى بين إسرائيل والدول العربية، وهذا لا يعني أن ميزان القوى فيما يتعلق بالأسلحة التقليدية بين إسرائيل والدول العربية، أنه في حالة توازن، فالحقيقة أن ميزان القوى التقليدية هو لصالح إسرائيل أيضاً، ولكن وبعد أن يتم قطع الشك باليقين لجهة امتلاك إسرائيل أسلحةً نووية، واعتراف المجتمع الدولي بها دولة نووية، وعدم خضوعها لأحكام اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وحقها في استخدام ما لديها من أسلحة دون قيدٍ أو شرط، فإن هذا سيؤدي إلى خلل كبير في موازين القوى لصالح إسرائيل، التي ستستغل قدراتها في إثارة الرعب، وتدمير النفس والعقل، قبل أن تدمر البناء والعمران.
وتخدع إسرائيل المجتمع الدولي والدول العربية، عندما تتذرع برفضها الانظمام إلى اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، إلى حين توصلها لاتفاقيات سلام مع الدول العربية، وانتهاء حالة الحرب القائمة بينها وبين الدول العربية، وفي هذا يقول شيمعون بيريز رئيس الدولة العبرية "ما من دولة من دول المنطقة، تستطيع أن تنعم بأمنٍ حقيقي، ما لم يعم الأمن جميع هذه الدول، وبناءاً على ذلك، قمنا بصوغ سياستنا المتعلقة بالأمن الإقليمي، وضبط التسلح ببلوغ مرحلة السلام فحسب"، ولكن تفوقاً عسكرياً من طرفٍ واحد، لن يفضي إلى سلام، وإنما يفرض في حال وجود حالةٍ من الرعب المتبادل، التي تقعد الطرفين عن أن يهاجم أحدهما الآخر، أو أن يكون الطرفان خاليين من أسلحة الدمار الشامل المرعبة، والتي قد تستخدم في فرض شروط وقواعد غير متوزانة.
أمام ما سبق، فإن على الدول العربية أن تدرك أن لمناقشة ملف إسرائيل النووي أبعاداً أخرى، قد تكون إيجابية لصالح العدو الإسرائيلية، وسلبية في حق الدول العربية والإسلامية، وإلا فما هو تفسير صحوة الضمير الدولية المفاجئة، ولماذا صمت المجتمع الدولي لعقودٍ من الزمن إزاء امتلاك إسرائيل سلاحاً نووياً، وإذا به يستيقظ فجأة ويطالب بفتح ملفها النووي، فهل ندمت على ما أهملته سنين طويلة، واستيقظت لتستدرك ما فاتها، أم أنها تنوي إقرار واقع إسرائيلي، ومحاربة مستقبل عربي وإسلامي قد يهدد أمنها.

CONVERSATION

0 comments: