يبرر "حزب الله" تحالفه الانتخابي مع حركة "أمل" بأنه تعبير عن تقارب المواقف والخيارات السياسية, وهو تحالف يستند إلى أرضية سياسية واضحة ومعروفة بلغت حد التطابق في المواقف والخيارات بدرجة عالية منذ العام 2005. ويعتبر أن إعلان التفاهم الشامل في جميع الدوائر البلدية تجسيد لتلك العلاقة الوثيقة التي ميزت المشهد السياسي اللبناني في السنوات الأخيرة.
هذا الأمر لا تؤكده الوقائع السياسية وخصوصا تلك المتعلقة بالأداء الداخلي, بدءاً من الموقف من الحكومة والمشاركة فيها وكيفية التعاطي مع قراراتها من جهة, والتحالفات السياسية مع القوى الأخرى من جهة ثانية.
في الشق الأول من علاقة الحزب والحركة, بدأ التباين بين الجانبين يظهر منذ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى المشكلة العام 2005 بعد الانتخابات النيابية, فقد دفع "حزب الله" وزراء حركة "أمل" إلى الاعتكاف مع وزرائه في المرة الأولى, ومن ثم دفعهم إلى الاستقالة مرة ثانية. وقد أعلن الرئيس نبيه بري يومها, ومن طهران, أن الحكومة بعد استقالة الوزراء الشيعة تبقى حكومة دستورية ولكنها غير ميثاقية, (باعتبار أن عدد المستقيلين لا يلغ الثلث زائد واحد) ولكنه سرعان ما سحب هذا التصريح من وسائل الإعلام بعد لقائه المسؤولين الإيرانيين, ليعلن أن الحكومة غير شرعية.
وبعد اتفاق الدوحة, رفض "حزب الله" عودة السنيورة لرئاسة الحكومة ولكن موقف بري المناقض جعل الأول يرضخ. وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة (2009) كان موقف حركة "أمل" أكثر تسهيلاً للرئيس المكلف سعد الحريري لتشكيل حكومته الأولى على عكس موقف "حزب الله" المعرقل والمتلطي بمطالب حليفه ميشال عون.
وفي الشق الثاني, ثمة اشتباك سياسي مستمر بين بري والنائب ميشال عون, ومواضيعه متعددة مثل دعوة بري إلى تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية, والمطالبة بخفض سن الاقتراع, وإجراء الانتخابات البلدية, والتعيينات في الحكومة, والموازنة, ويقف "حزب الله" محرجاً بين حليفيه, يحاول أن لا تنفجر جبهة "8 آذار" التي تشكل غطاءً لبنانياً لسلاحه ذي الأجندة الإيرانية.
عمل "حزب الله" أخيراً على عدم إجراء الانتخابات البلدية لكي لا يحرج عون المتراجع مسيحياً كما بينت الانتخابات النيابية في العام الماضي, وفي المقابل عمل بري مع الحريري وآخرين على إجراء الاستحقاق البلدي, وقبل أسبوعين فقط من بدء هذه الانتخابات كان الجو يوحي بعدم إجرائها, ولكن تدخل سورية لتنفيذ اتفاق في هذا الشأن مع السعودية, حسم أمر إجراء الانتخابات ولم يستطع "حزب الله" تفادي الأمر لأنه لا يريد افتعال مشكلة مع السوريين كرمى لعيون عون.
وحصلت الانتخابات فأسقط بري لائحة عون في جبيل وأسقط عون لائحة بري المدعومة من "14 آذار" في جزين.
قبل ذلك, ومع حسم قرار إجراء الانتخابات كانت قيادتا "أمل" و"حزب الله" أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما, فإما إقامة ائتلاف انتخابي وخوض الانتخابات بلوائح مشتركة تقطع الطريق على الخصوم وعلى المستقلين الذين يتحينون الفرصة لإجراء جردة حساب مع المجالس البلدية الخاضعة لنفوذ الطرفين الشيعيين, وإما إعادة إنتاج المشهد الانتخابي لعام 2004 الذي حصل على خلفية انقسام سياسي واضح, وأورث حالة من الانقسام والتحدي تحت ضغط المنافسات التي اتخذت صفة حزبية عصبية بين أنصارهما.
أجرت القيادتان حساباتهما, وتوصلتا إلى نتيجتين رئيسيتين, سياسية وتنظيمية. على المستوى السياسي تبين أن القاعدة الشعبية الشيعية قلقة على المستقبل, وخصوصاً بعد أن انتهت حروب الطرفين المهيمنين على الطائفة إلى نتائج كارثية, ففي مواجهة إسرائيل, ورغم فشل العدو في حرب يوليو 2006, إلا أن الضرر الذي أحدثته تلك الحرب كبير للغاية ولم تعد حياة الجنوبيين إلى سابق عهدها, وذهبت معظم التعويضات المالية الضخمة التي دفعتها إيران إلى جيوب المنتفعين, وكشف إفلاس صلاح عز الدين وجود مئات ملايين الدولارات من أموال التعويضات في حسابات هؤلاء.
ومن جهة ثانية فإن كل المعارك الداخلية التي خاضتها الثنائية الشيعية أفضت إلى تسويات وليس إلى انتصارات, بدءاً من قبول السنيورة رئيساً لحكومة ما بعد الدوحة, مروراً بالخسارة المدوية لانتخابات 2009, لفريق "8 آذار", وصولاً إلى تشكيل الحكومة الحالية.
كل ذلك مترافق مع خطر نشوب حرب إسرائيلية جديدة لا تبقي ولا تذر, وإذا كان "حزب الله" يتصرف على أساس أنه سيصمد ولن يسحق, فإن الجنوبيين والبقاعيين الذين ستدور الحرب على أرضهم يخشون الأسوأ.
على الصعيد التنظيمي, وجد "حزب الله" أن التباين السياسي مع الحركة يمكن تجاوزه إذا أعطى من رصيده بعض المواقع البلدية في القرى والبلدات التي يهيمن عليها, ووجدت الحركة أنها ستكسب أكثر مما ستخسر من هذا التوزيع, لا سيما وأن الاتفاق يقضي باعتماد النسبية, وفقاً للنسب المحققة في انتخابات 2004 البلدية أو انتخابات 2009 النيابية. وهكذا أدخل الحزب في لوائحه أعضاء "أمل" بنسبة 30 أو 40 في المئة على الأكثر, فحقق التوافق ولم يخسر الأكثرية في بلدياته الخاصة, وفعلت "أمل" المثل.
يمكن القول إن القرار السياسي ل¯"حزب الله" بالإلغاء العملي للانتخابات البلدية في الجنوب ومعظم البقاع, من خلال فرض التوافقات في القرى والبلدات, نجح, وإن واجهته صعوبات. فقد عمد الحزب إلى تشكيل لوائح بلدية واختيارية من أفراده الحزبيين ومن المناصرين, كمكافأة شخصية لهم, من دون الأخذ بخيارات العائلات, وقد واجهت بعض هذه العائلات قرار الحزب, إما بمطالبته بتعديل اللوائح في قرى معينة, وإما برفض التفاهم الحزبي وخوض المعركة في مواجهته.
وثمة قرى معينة, حيث توجد قواعد عسكرية ضخمة وحيوية للحزب, كان الموقف فيها حازماً وقاسياً بمنع حصول أي معركة, وقد لجأ الحزب إلى وسائل الترغيب والترهيب لسحب المرشحين المنافسين من المعركة والدفع باتجاه التزكية, كما سجلت حالات استخدام للقوة المباشرة لمنع بعض القوى اليسارية من تشكيل لوائح في بعض الأماكن فغاب التنوع الحزبي. ومن جهة ثالثة رفض المحازبون من الطرفين ("حزب الله" وحركة "أمل") التوافق في بعض القرى وجرت معارك بينهم في لوائح متقابلة.
بعد انتهاء الانتخابات تعترف أوساط الطرفين الشيعيين بوجود ثغرات تستحق الدراسة وينبغي أن تنال قسطاً وافياً من اهتمام قيادتي "أمل" و"حزب الله", ولكن في المقابل بدأ "حزب الله" تحركاً واسعاً في كل القرى التي يتواجد فيها لمنع أي جهة ثالثة, وخصوصاً إذا كانت أجنبية, من القيام بدراسات للمزاج الشعبي, قد يستخلص منها أن ثمة اهتزازاً على الساحة الشيعية.
* الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي في لبنان
0 comments:
إرسال تعليق