يدور في الاوساط الفلسطينية والعربية نقاش واسع حول المقاطعة وجدواها كوسيلة ضغطٍ فعالة على إسرائيل . وتتمحور النقاشات حول ، الطابع الاقتصادي، ويركز معظمها على تنظيم حملاتٍ تدعو إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة في المستوطنات، أو المنتجات التي تساهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تمويل أو تأمين مساعداتٍ مالية أو معنوية للنشاطات الاستيطانية ، التي تتولاها حكومة اسرائيل او بلدية نير بركات في القدس أو الجمعيات والمنظمات الصهيونية. الطابع العام لدعوات المقاطعة هذه غالبا ما تكون موسمية ، يكثر الحديث عنها بعد حربٍ أو عدوانٍ أو مجزرةٍ إسرائيلية .
دعوات المقاطعة هذه غير مؤسسة على قواعد واضحة لها ما يسندها في القانون الدولي وتكون مقنعة للرأي العام وخاصة في البلدان التي ندعوها الى المقاطعة ، ومنها تلك التي تحاول دون وجه حق ربط مساءلة ومحاسبة اسرائيل بمعاداة السامية أو بجريمة الهولوكوست ، كما هو الحال في الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا وغيرها من البلدان الغربية ، التي بنت معها اسرائيل شبكة من العلاقات الاقتصادية والأمنية والثقافية والاكاديمية .
من أين يجب أن ننطلق في الدعوة الى تفعيل اشكال عدة من المقاطعة ضد دولة اسرائيل ، وهل المقاطعة هي فقط مقاطعة اقتصادية أم تتجاوز ذلك الى اشكال أخرى تفرض مزيدا من القيود على علاقات اسرائيل الأمنية والعسكرية والثقافية والاكاديمية وحتى الرياضية
اذا ما عدنا الى التجربة التي خاضها المؤتمر الوطني الافريقي لفرض المقاطعة الدولية على نظام الأبارتهايد ، الذي كان قائما في جنوب افريقيا قبل سقوطه المدوي في العام 1994 ، فإننا نجد أن الدعوة للمقاطعة قامت في الأساس على تشخيص ذلك النظام باعتباره نظاما استعماريا ونظام تمييز عنصري . الوضع في اسرائيل على هذا المستوى لا يشبه ذلك الوضع الذي كان قائما في جنوب افريقيا فقط من بعيد ، بل أن الوضعين يتطابقان الى حدود التماثل الكامل . ومن أجل التقدم في حملات المقاطعة لدولة اسرائيل ، يجب أن نقيم بناء لهذه الدولة يتماثل في علاقته مع الشعب الفلسطيني بذلك البناء ، الذي كان قائما لجنوب افريقيا في عهد نظام التمييز العنصري البائد .
لنأخذ المثال التالي من تجربة المؤتمر الوطني الافريقي : في العام ١٩٦٠، دعا المؤتمر الوطني الأفريقي إلى مقاطعة المؤسسات الأكاديمية في جنوب أفريقيا. استجاب لتلك الدعوة في حينه أكثر من ٤٩٠ أكاديمياً من مختلف جامعات العالم، من بينها أكاديميون في٣٤ جامعة بريطانية، الأمر الذي شكل أزمةً في الجامعات في جنوب أفريقيا، فرضت عليها نوعا من العزلة الأكاديمية.
في وضعنا الفلسطيني تبدو الأمور في متناول اليد على هذا الصعيد . لنتذكر هنا قرار مقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين الذي اتخذته الجمعية الوطنية للأساتذة الجامعيين في بريطانيا عام 2006 ، والتي تضم أكثر من 69 ألف أستاذ ومحاضر جامعي احتجاجاً على سياسة "الفصل العنصري" التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين . طرح ذلك القرار سؤالاً محورياً حول دور الأكاديميين والمثقفين في إدانة القمع والظلم والطغيان الذي تمارسه الأنظمة السياسية ضد الشعوب الضعيفة والمقهورة. ولم يكن ذلك القرار هو القرار الأول من نوعه الذي تتخذه الجمعية المذكورة ضد المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. فقبل ذلك بعام اتخذت الجمعية قراراً بمقاطعة جامعتي حيفا وبار إيلان لمشاركتهما في المحاضرات التي تعطى في الكلية ، التي تحولت مؤخرا الى جامعة في مستوطنة اريئيل ، الأمر الذي اعتبرته الجمعية البريطانية تورطاً من الجامعتين الإسرائيليتين في أعمال ونشاطات الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية.
وكان لفكرة ربط الدعوة لمقاطعة اسرائيل باعتبارها دولة تمارس سياسة ابارتهايد صدى واسع في النشاطات التي نظمها نشطاء الجالية الفلسطينية في تورنتو – كندا في الذكرى الثلاثين لقرار الجمعية العامة حول الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري باعتبارها جريمة ضد الانسانية . فقد عقد أول " أسبوع للفصل العنصري الإسرائيلي " في جامعة تورنتو في شباط 2005 ، وكان الهدف الرئيس منه هو زيادة الوعي بين الجمهور، والتأكيد على أن إسرائيل ليست مجرد نظام حكم يمارس الاحتلال العسكري الوحشي؛ بل هي نظام يرتكب جرائم الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني . " اسبوع الأبارتهيد الاسرائيلي " هذا والذي تكرر في عدد من الجامعات الكندية والبريطانية يصلح أساسا نبني عليه في عرض الحقيقة حول اسرائيل باعتبارها دولة تمارس التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني ، خاصة بعد أن تضاعف عدد المشاركين في " أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي " ، بعد أن انضمت جامعتا لندن وكامبريدج إلى جامعة اكسفورد في المملكة المتحدة، وجامعتا أوتاوا وهاميلتون إلى تورنتو ومونتريال في كندا. وربما كان الحدث الأهم انضمام جامعة نيويورك باعتبارها الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية .
هذا مثال على المقاربة الممكنة بين المقاطعة الاكاديمية لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا ومقاطعة نظام قائم في اسرائيل على اساس الفصل العنصري كذلك . الظاهرة هذه لها ما يسندها في مواقف هيئات ومؤسسات رسمية وأهلية في عدد من دول الاتحاد الاوروبي . فوزارة الإسكان الأسبانية قامت هي الأخرى بإلغاء مشاركة المركز الجامعي (آرئيل)، المقام في مستوطنة (آرئيل)، في الضفة الغربية المحتلة، في المرحلة النهائية للمسابقة الدولية بين كليات الهندسة المعمارية. ففي رسالة مدير عام المسابقة، سرخيو فيغا، للمركز الجامعي في مستوطنة (آرئيل) جاء : " أن القرار قد اتُّخِذ من قِبل الحكومة الأسبانية استنادًا إلى حقيقة أن الجامعة أقيمت على أرض محتلة في الضفة الغربية، وأن الحكومة الأسبانية ملتزمة باحترام الاتفاقيات الدولية في إطار الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة " .
لم يعد وصف إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري مجرد دعاية . ففي وقت لاحق قام الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر بنشر كتاب يصف سياسة اسرائيل بممارسة الفصل العنصري . المبعوث الخاص للأمم المتحدة السيد جون دوغارد، وكان من الناشطين ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا واضحا في تقريره إلى الأمم المتحدة حين أفاد أن إسرائيل ترتكب ثلاث جرائم معادية للنظام الدولي : الاستعمار الاحلالي، والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي ، شأنه شأن شخصيات أخرى بارزة لعبت دورا هاما في مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مثل الأسقف ديزموند توتو، والرئيس السابق نيلسون مانديلا، بتأكيدها على اوجه التشابه بين السياسات الإسرائيلية وسياسات الفصل العنصري في جنوب افريقيا سابقا .
على هذه القاعدة الواضحة يمكن أن نمضي في الدعوة الى مقاطعة البضائع المنتجة في المستوطنات ، التي اقامتها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 ، وتطوير ذلك الى فرض مقاطعة اقتصادية اشمل على نظام قائم في اسرائيل ، يمارس على حد وصف جون دوجارد " الاستعمار الاحلالي، والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي " . فالنضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يشبه كثيراً المعاناة الفلسطينية. وعليه يمكن استخدام وسائل الضغط والمقاطعة نفسها التي اعتمدت هناك. لكن المقاطعة يجب أن لا تقتصر فقط على المقاطعة الاقتصادية، بل يجب أن تكون على مستويات أعم واشمل .
المقاطعة الاقتصادية هذه أمر ممكن ويجب أن نضعها على جدول أعمالنا بشكل مدروس وكجزء من استراتيجية العمل الوطني الفلسطيني ، ونبني عليها من أجل اعادة العمل بقوانين المقاطعة العربية ومن أجل تطوير المواقف التي تبدي استعدادا للمشاركة في أعمال المقاطعة على الصعيد الدولي . لنجاح هذه الاستراتيجية يجب توفير متطلبات الثبات على الموقف والاستمرار فيه والبناء على أوجه النجاح التي نحققها على هذا الصعيد . الإن نحن نخوض معركة مقاطعة منتجات المستوطنات الاسرائيلية ، التي جرى تعزيزها بقرارات حكومية ومرسوم رئاسي . دولة اسرائيل وضعت في المحادثات غير المباشرة ، التي ترعاها الادارة الاميركية ، على جدول أعمالها كسر قرار المقاطعة هذا . " حملة من بيت لبيت " لمقاطعة منتجات المستوطنات يجب أن تتواصل وتتصاعد بمشاركة واسعة من القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الفلسطيني على طريق تطويرها وصولا الى اعادة بناء العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دولة اسرائيل على غير الأسس التي قامت عليها " اتفاقية باريس الاقتصادية " المشؤومة . نجاحنا في ذلك يفتح الطريق أمام الجانب الفلسطيني للعمل من أجل اعادة العمل بقوانين المقاطعة العربية لإسرائيل ، حتى لا يكون عذر لأية دولة عربية للتهرب من واجباتها والتزامتها على هذا الصعيد .
هنا يجب العمل على بعث الحياة من جديد بالقوانين الموجودة في البلدان العربية التي ترفض أي شكل من أشكال التعاون مع إسرائيل، كقانون المقاطعة الذي اقرّ في لبنان عام ١٩٥٥، والذي يحظر دخول البضائع والسلع والمنتجات الإسرائيلية بأنواعها، أو البضائع والسلع المصنوعة في إسرائيل، أو تلك التي تدخل في صناعتها أجزاء من منتجات إسرائيلية، أياً كانت نسبتها، وعلى اختلاف أنواعها، سواء وردت من إسرائيل مباشرة أو بطريق غير مباشرة.
يجب عدم السماح باستمرار هذا التهرب العربي الرسمي من قوانين المقاطعة ، باعتبار هذه المقاطعة وسيلة فعالة فعلا في فرض عزلة دولية على اسرائيل ، باعتبارها دولة تمارس سياسة " ابارتهايد " في علاقتها مع الفلسطينيين . هنا نعيد الى الذاكرة فقط أن جامعة الدول العربية قدرت خسائر دولة اسرائيل المتراكمة من المقاطعة العربية حتى نهاية عام 1999 بنحو 90 مليار دولار منها 20 مليار دولار قيمة صادرات مقدرة للعرب و24 مليار دولار للاستثمارات المتوقعة في الدول العربية, فضلا عن 46 مليار دولار خسائر مباشرة وغير مباشرة جراء مقاطعة الشركات العالمية.
في مبادئ المقاطعة العربية والتي كان معمولا بها حتى العام 1999 توجد شروط تحدد كيفية إدراج شركة ما على القائمة السوداء، وهذا يشمل مختلف الشركات، وفي مقدمتها تلك التي تدعم الاقتصاد الإسرائيلي، إلى جانب الشركات التي يساهم في رأسمالها إسرائيليون، والشركات التي تؤسس فروعاً لها في إسرائيل وتستثمر فيها. كان يجري مطالبة هذه الشركات عند تعاملها مع أحد البلدان العربية بتقديم إقرار تبين فيه حقيقة علاقتها مع إسرائيل. يجب العودة الى تلك المباديء ، وتطبيقها في الحد الأدنى على تلك الشركات التي تعمل في خدمة المستوطنات وعلى الشركات الأجنبية التي تعمل مثلا في قطاع البناء أو المواصلات في القدس المحتلة " القطار الخفيف " وتعمل في الوقت نفسه في مشاريع مشابهة في عدد من العواصم العربية في دول الخليج ، أو الشركات التي تساهم في بناء البنى التحتية في المستوطنات على وجه التحديد .
ذلك هو الذي يساعدنا على تطوير الاستعداد لدى اوساط دولية للمشاركة في المقاطعة الاقتصادية لدولة اسرائيل . ذلك أمر ممكن ولكنه بحاجة في الاساس الى قرار واضح من المستويات السياسية الرسمية المعنية في البلدان العربية والمستويات السياسية الأهلية كذلك من أجل تطوير اشكال التضامن الدولية التي تدعو الى مقاطعة دولة اسرائيل ، مثل النقابات البريطانية ، التي دعت الى تطبيق سياسة مقاطعة البضائع الاسرائيلية المنتجة في المستوطنات المقامة على الاراضي الفلسطينية المحتلة ووقف سبل التعاون الاقتصادية المختلفة مع اسرائيل. فقد اعتمدت النقابات البريطانية سياسة مقاطعة البضائع الاسرائيلية المنتجة في المستوطنات غير القانونية التي تعبر عن استمرار انتهاك القانون الدولي من خلال الاستمرار في السياسة الاستيطانية التوسعية التي تعتمدها اسرائيل على حساب الفلسطينيين . كرسالة قوية الى اسرائيل مفادها أن انتهاك القانون الدولي يضطر المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات اجرائية على الارض.ما دعت له النقابات البريطانية ، قامت به وزارة المالية النرويجية باستبعاد شركة "البيت" الإسرائيلية لأنظمة الحماية، من استثمارات صندوق المعاشات التقاعدية الحكومية – الشامل؛ وذلك بناء على توصيات المجلس الخاص بالمعايير الأخلاقية للصندوق. فقد رأى هذا المجلس؛ أن الاستثمار في شركة "البيت" الإسرائيلية ينطوي على مخاطر غير مقبولة من حيث إمكانية المساهمة في انتهاكات خطيرة للقيم الأخلاقية الأساسية، وذلك من جراء الانخراط الكامل للشركة الإسرائيلية في بناء جدار الفصل في الأرض المحتلة. وقالت وزير المالية، كريستين هالفورسن "أننا لا نرغب في تمويل شركات قد تسهم بشكل مباشر في انتهاكات للقانون الإنساني الدولي".
ان المعايير الأخلاقية هذه تنطبق كذلك على الموقف من الحروب العدوانية ، التي تشنها اسرائيل وما يرافقها من جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، كما كان عليه الحال في العدوان الاسرائيلي الواسع الاخير على قطاع غزة . شركات اسرائيلية عدة تلقت رسائل من نظيراتها في النرويج وغيرها من البلدان الاوروبية تقول : "توقفنا عن التفكير في إقامة علاقات تجارية مع شركتكم وأي شركة إسرائيلية أخرى.. يجب أن تدينوا المذبحة التي ارتكبها بلدكم ضد أهالي غزة كشرط للتعاون معكم".. هذا الرد ومثله تلقته شركات إسرائيلية من نظيرتها في تركيا وبريطانيا خلال وبعد حرب إسرائيل الأخيرة على القطاع؛ مما أثار الذعر بين الإسرائيليين من أن يأتي يوم يقاطع فيه العالم كله إسرائيل .
أخيرا تجدر الاشارة كذلك الى المقاطعة الاعلامية . فالاعلام يلعب بوعي او دون وعي دوره في ترويج ثقافة التطبيع . خلال العدوان على غزة خاطب عدد من السياسيين وأساتذة وأكاديميون ومثقفون فلسطينيون وعرب عددا من الفضائيات العربية وسجلوا استهجانهم واعتراضهم على ما كانت تقوم به تلك المحطات الفضائية العربية، من تجميل لوجه الاحتلال الدموي، وذلك باستضافة شخصيات "إسرائيلية" بشكل متكرر، حتى غدت الصورة وكأن تلك الفضائيات تحت ستار زائف من المهنية الاعلامية ترقص على دماء ابناء الشعب الفلسطيني . ان للاعلام دور يؤديه من خلال مساهمته في تقديم اسرائيل على حقيقتها باعتبارها دولة تنتهك القانون الدولي وتمارس سياسة " استعمار احلالي، وفصل عنصري واحتلال الأجنبي " في وقت واحد أو في عدم ترويج ثقافة التطبيع في الحد الأدنى .
**** عضو اللجنة التنقيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
**** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
تيسير خالد
0 comments:
إرسال تعليق