الحـوار السياسـي.. المخرج السـلمي لكل الأزمات/ صبحة بغورة


يصنف الحوار على  أنه من آداب الحديث ،وأنه كي يعتبر الحديث حوارا يجب أن يكون هادفا يتناول موضوعا معينا يجري بشأنه عرض الآراء وتبادل للأفكارالمتعلقة به بهدف الوصول الى نتيجة محددة سلفا،والحوار في الأساس يقوم على وجود أطراف لا تتقاسم نفس المواقف و التوجهات والمراد ايجاد نقطة يتلاقى فيها الخصوم على مستوى وقدر من الاتفاق يسمح بحل أزمة او معالجة قضية ،لذلك لا يمكننا أن نتصور قيام حواربشأن مسألة ما بين أطراف متفقة تماما على كل شيء الا في حالات الاثراء الفكري أو التراجع عن أحد الجوانب كما يكون من بين  مجالات الحوارهنا جولات التناظر الفكري بين متضادين والموائد المستديرة التي تجمع النخبة المتخصصة حول موضوع يراد القاء أكبر حزمة ضوئية عليه لكشف المزيد من جوانبه الخفية.. وعلى كل حال فهو  بهذا يختلف تماما عن الجدل الذي يكاد يلامس حدود اللغو في حديث آفاقه مسدودة بين فرقاء لا يتقاسمون اهتماما وليست لهم مرئيات واضحة أو تصورات كاملة المعالم للقضية المعروضة وحتى للنتيجة المراد التوصل اليها ، ومنه يحلو للكثير من المفكرين وصف الجدل بأنه " حوار الطرشان" الذي لا يجدي نفعا ولا يثري فكرا ولا يغير في الأمور شيئا .

يؤكد لنا فعل الحوارمهما كان مستواه أنه المظهر الواضح والجلي لوجود تواصل ناضج واتصال مفيد بين البشر، وأنه هو الدال على حركية حياة أفراد المجتمع، وأن هذه الحركية تسير وفق منطق معين ينظم حياة ونشاط أفراده والذي في اطاره قد تثورفي حالات عديدة بعض الخلافات حول تأكيد الحقوق أو بشأن التحديد والتذكيربالواجبات في حالات الخروج عن نصوصها أومخالفتها ، ومهما كانت حدة الخلافات فان مجرد نشوبها في حد ذاته ظاهرة صحية لأنها دليل على اتقاد الذهن ونضوج الوعي وارتفاع المستوى الثقافي السياسي الذي يعي أهمية منح الحق لمن التزم فاستحقه، ومراجعة من أخل بقواعد النظام العام لردعه، وبديهي أن لا يتم كل ذلك بدون الحوار، والحقيقة أنه بدون الحوارلا يمكن تخيل  فظاعة الحياة الصامتة ولا تصور حجم تأثير تضارب الاتجاهات وتنوع الرغبات الملحة  فيما بينها واصطدام الأفعال المتعددة بشدة في بعضها البعض، فبدون الحوار يترسخ الاعتقاد بأن لكل فرد الحق في أن يفعل ما يشاء في المكان الذي يريده وفي الزمان الذي يقدره حتى وان كان ما يفعله تجاوزا تبلغ تداعياته الاضرار بمصالح لأطراف أخرى ، وقد يكون من الجائز هنا اعتبار غياب أو انعدام الحوار مدخلا للكثير من المشاكل والأزمات من بدايات نشوبها الأولى الى تفاقمها .

يتميز الحوار بصفة عامة بتقلبه في مفرداته و صياغة كلماته وتنوع أسلوبه على حسب مجال استعماله ، فاللغة القانونية في المحاكم وسلك المحاماة وهيئة الدفاع وقطاع القضاء تختلف تماما عن لغة الحسابات وأرقام التكاليف المالية ونظريات العلوم الاقتصادية وأخبارالنشاطات التجارية والمشاريع الاستثمارية .. وكلاها بعيدة كل البعد عن جماليات الابداع الانشائي وألوان التعبيرالأدبي ولغة الفنون التشكيلية  ، أما في المجال السياسي فان لغة حواره يمكن أن نقول أنها جامعة لكل ما سبق والفارق يكمن في الاستعمال الجيد للمعرفة وللألفاظ والمهارات الدبلوماسية للمتحدث بها .  

الحوار في المجال السياسي لا تثور ضرورته فقط لدواعي ظرفية كمناقشة أسباب أزمة معينة أودراسة قضية محددة أوتبادل الرأي حول امكانيات احتواء مشكلة بعينها ورسم سبل حلها ، بل يكون من المفيد أكثر أن يكون الحوار سلوكا تقليديا يتصف بالدوام في كل الأحوال ومهما اختلفت الظروف ، فارساء سنة التشاور وتبادل الخبرات والتجارب والمعلومات الفنية هو شكل من أشكاله التي تدعم علاقات التعاون وتسهم كثيرا في تعزيزها ، ويمكن اعتبارفتح أبواب الحوار الدائم عاملا حيويا للكشف مبكرا عن مخاطر احتمالات نشوء بؤر للتوتر أوالنزاعات وبالتالي لن يكون الوقت متأخرا لتكون فرصة التدخل لتجنب تفاقمها قائمة ،ولكن يحدث في كثير من الحالات أن تقع خلافات دولية كانت تبدو منتظرة ولكن بشكل أقول غير متوقع أي في غير وقتها من منطق الحسابات الدولية في العلاقات السياسية لأن في عصرنا الحديث ليس هناك ما يخفى من القضايا الدولية و لكنها تبقى فقط في حالة ترقب ثم تحال لقائمة الانتظا ر الى حين ، ثم يحدث أن تشتد عقدة الأزمة بوتيرة متسارعة الى أعلى المستويات ولا يكبح جماحها أي مانع لتنزلق الأوضاع نحوالأسوأ سياسيا وأمنيا ، وحتى اذا كانت هناك أعمال عسكرية ناشبة اليوم بين طرفي نزاع  فلن يكون وراء انتظار نتيجتها ومعرفة الطرف المنتصر والآخرالمهزوم اعتقادا بأن الاقتتال قد توقف هكذا نهائيا فليس هذا بالأمرالمجدي والفعال الذي يخدم الأمن و السلم على المدى البعيد ما لم يكن يتزامن معه حوار وجهود سياسية و دبلوماسية ينبغي الاستمرار فيها للتخلص من أجواء التوترولعدم عودة أسباب الأزمة من جديد .

 يفترض لاجراء الحوار السياسي وجود ارادة سياسية حقيقية مسبقا تستند بقوة الى قناعة راسخة بضرورته و جدواه ، كما يفترض أن تكون ممارسته وفق سلوك قائم و أصيل، وأن الحوار المباشرهو السبيل الوحيد للمكاشفات المسؤولة والواعية بحجم أهمية و خطورة  المسائل المراد  اجراء الحوار بشأنها فليس كافيا أن يكون ثمة ما يمكن أن يعد من قبيل الحوار لمجرد الالمام بمهاراته  ثم الادعاء بأننا نجري جولات حوار جاد وهادف لأن بلوغ الحوار هذه الصفة يقتضي أولا وجود محاورين مؤمنين به كقيمة حضارية في حد ذاته وكوسيلة حضارية فضلى لفك النزاعات وحل الأزمات ، ونجد صدى ذلك في الحرص الذي تبديه دول العالم من أجل ترسيخ سنة التشاور بين قادة الدول سواء على المستوى الثنائي أو المتعدد الأطراف وتنظيم ذلك بلقاءات دورية ثابتة وأخرى استثنائية يفرضها ما يطرأ من مستجدات في مختلف القضايا الدولية التي ولاشك ستمثل اهتماما مشتركا ، كما نقف أيضا عند ظاهرة " الحوار السياسي الاستراتيجي" الذي تقيمه دول عظمى فيما بينها أو مع أطراف أخرى ، ولا يقصد هنا بالضرورة اعتبار العامل الجغرافي سواء في قرب طرفي الحوار أو بعدهما عن بعضهما هو المحدد لاقامة الحوار الاستراتيجي بقدر ما هي طبيعة المصلحة المشتركة النابعة من معطيات جيوسياسية أو اقتصادية التي تكون قد دعت الى اقامة مثل هذا الحوارثم فرضته في أشكال متعددة مثل التفاوض و المباحثات السياسية و المحادثات التشاورية ...  

اذن يمكن أعطاء ملامح أساسية لما يتطلبه الحوارالناجح الذي من المفروض أن يفضي الى نتائج ايجابية سواء بالنسبة للقضايا الوطنية الداخلية أو مسائل النزاع الدولي ، ومنها ما يلي :
- وجود الجدية لدى السلطات في اجراء حوار يفترض أن يكون مع قوى سياسية معارضة مؤمنة بفضائله  اذ لايعقل أن تحاور السلطة نفسها كما لا يجوز أن تتعمد التعتيم على الطرف الآخر في التعبير عن رأيه ،والمفروض هنا وجود استعداد نفسي لدي المتحاورين لسماع الرأي الآخر من أجل التوصل الى أرضية مشتركة على أساسها يمكن بناء مراحل الحل ،أي وجود اقتناع راسخ بأن الحوارالشامل سبيل للاصلاح والخيار الأمثل بل والمخرج الحضاري الوحيد للأزمات .
- أن يتسم الحوار بالبعد الوطني ، بمعنى أن يكون موضوعه في صلب اهتمامات الرأي العام الداخلي من منطلق أن الأمر يتعلق بقضية وطنية حساسة لطابعها المصيري ، وعلى هذا الاعتبار يكون من الخطأ الجسيم وضع الشروط المسبقة التي غالبا ما تكون شروطا تعجيزية من قبل أطراف الحوار على نحو ان لم تعرقل انطلاقته فانه لا يضمن أحد معها  استمراره ..أو نجاحه ، وتحقيق البعد الوطني للحوار يتطلب بداهة حضور تمثيلي على الطاولة يغطي أقاليم البلاد دون اقصاء أو تهميش أو تفضيل منطقة على أخرى ،ولكنه يلقي بمسؤولية اختيار الشخصيات المناسبة له ، اذ لايخفى دور الوزن السياسي الذي يمكن أن يلعبه لاقناع أطراف الحوار الأخرى بامكانية اجراء مفاوضات مثلا مع طرف معترف به بشكل واسع من قبل المجموعة الوطنية .
- معروف أن الطبيعة تكره الفراغ وكذلك الأمر بالنسبة لجولات الحوار السياسية التي ستتطلب في البداية اجراء لقاءات تشاورية واسعة تسبق الحدث نفسه لوضع خطط للحوار بشكل صريح مع كل القوى السياسية والاجتماعية بهدف التوصل الى رسم الحل الوسط بكل موضوعية الذي يرضي الجميع.

كثير ما تفشل الجهود من أجل جمع المتنازعين الى طاولة واحدة للحوار وتحدث معوقات تمنع انطلاقته وتؤدي الى افشاله أوحرق مراحله ، ولكل ذلك أسباب تبدو موضوعية في بعضها وظرفية في بعضها الآخر وذاتية في حالات معينة ، ففي حالات الصراع مع السلطات سواء كان تناحرداخلي بين قوى سياسية معارضة ترفع شعارات اصلاحية، أو بين منظمات وطنية واتحادات عمالية أو نقابات مهنية ترفع مطالب اجتماعية ومادية ، أو بين مجموعات أوميليشيات مسلحة طامعة في السلطة تحت معتقدات ايديولوجية مختلفة يكون من البديهي أنه لا نجاح الحواريجب وقف كل مظاهر العنف سواء العنف الاجتماعي ممثلا في طابعه الاحتجاجي كالاعتصامات والاضرابات والمسيرات المنددة أو العنف المسلح، وبدون ذلك لا يمكن بأي حال التفكيرفي مجرد الشروع بالخطوات التمهيديه لاجراء حوار وطني وشامل، وقد يحدث أن يكون الحل السياسي غير متوفر في مرحلة ما بالشكل الكامل الذي يحسم أمرا بالرغم من وجود النوايا الحسنة  التي لن تكون في الحقيقة كافية أمام العجز في توفير وسائل انجاح الحوار، فاذا كانت في عصرنا الحديث أسباب نشوب أزمة ما في العالم غالبا غير مجهولة للمجتمع الدولي بل أن أبعادها معلومة تماما لأطرافها على الأقل وأن حجم تأثيراتها لا يخفى على خبراء الهيئات الدولية فانه من غير المعقول أن تتم الدعو الى حوار سياسي بدون تحديد وجهته وتعيين الأهداف المرجوة منه وكذلك أمتلاك  ما يمكن أن يعد من قبيل أسلحة الحوار والتفاوض الناجح من أوراق ضغط سياسية وعسكرية واقتصادية أو تقديم اغراءات مادية ومالية أو حتي  تقديم وعود ورسم آمال بشأن تعزيز علاقات التعاون ودفع الجهد الدولي لتدعيم التنمية الاقتصادية والاجتماعية لاستمالة أحد أو أطراف الأزمة الى الانصياع الى حوار يفضي الى حل ، كما قد تسير مجريات الأحداث في بعض المشاهد السياسية بوتيرة سريعة تتجاوز قدرة السياسيين في تحديد خياراتهم منها في الوقت المناسب ،أو أن تسيرالأحداث في اتجاهات معاكسة تماما للتوقعات من خلال انعطافات مفاجئة للأحداث الدولية تعيد الحسابات السياسية الىنقطة الصفر أو تحيلها الى سلم تقييمي آخر ،غير أنه من المطلوب دائما التأكيد على ضرورته الحيوية في كل الظروف لتحقيق هدف للوصول الى حل آمن للبلاد والعباد بكل أطيافهم ،وفي الأنظمة الشمولية كثير ما ترتبط السمات السياسية الأساسية بأشخاص معينين في السلطة حتى ان سقوطهم من الحكم بالوفاة أو الاستقالة أو العزل يعني مباشرة تغير المشهد السياسي تغيرا جذريا ومنه تبدأ رحلة البحث عن آخرين وبضمانات أخرى قد تكون جديدة أو مستحدثة وفق ما هو متوفر  وموجود .

 لم يعد في عالمنا المعاصرمجال للحديث عن قضية في بلد ما دون الحديث عن تأثيراتها وتداعياتها على محيطها الاقليمي والعالمي من حيث مدى وحجم نفعها أو ضررها على مستوى المصالح المتبادلة والمتشابكة مع دول العالم ، من هذا المنطلق ومن باب الأخذ بكل الأسباب لمنع تهديد الأمن والسلام العالمي كان أن تم عرض ما يعرف بالمظلة الدولية التي نجد تعبيرها في جملة الضمانات الأمنية لضمان اجراء الحواربين المتخاصمين في أجواء آمنة تبدأ من اجراءات ضمان السلامة الجسدية للمتحاورين دون استثناء مرورا بمدى مناسبة المكان أمنيا وسياسيا وجغرافيا لاجراء حوارهاديء بعيد عن أجواء الاستنفار السياسي المتضاربة ومظاهرالتشنج الشعبي والضغط الاعلامي المنتصر لطرف والمعادي بالتأكيد للآخرين ،هذا الى جانب حزمة الضمانات القضائية التي تعكس الرغبة في دفع المتحاورين الى احترام رغبة المجموعة الدولية في تحقيق الوئام الانساني واحترام ارادتها بالعيش في أمن وسلام ، وتحمل هذه الضمانات جملة اجراءات لارغام أطراف الحوار على التقيد بمقتضياته والاعتراف بنتائجه والتأكيد على  تنفيذها والالتزام بضمان استمراريتها ، ومع ذلك فبعض القضايا الشائكة تتطلب اشرافا دوليا سواء بطلب مباشر من أطراف النزاع أو بالتماس دولي بايفاد "ملاحظين" من الهيئات الدولية والأممية ، الحقوقية و الانسانيةا لتقييم مدى توفر معاييرالحوار الجاد و المسؤول و النزيه وسيكون عليهم تقديم تقاريرهم عن ما شاهدوه وعاينوه لتحديد المسؤوليات ، أو أن يكون الحضور الدولي في شكل وفد يمثل هيئة "مراقبين" دوليين الذين سيكون عليهم التوقيع على محاضر ، ومثل هذا المستوى من الاشراف الدولي المباشر يمثل في حد ذاته شهادة أمام المجتمع الدولي تقر حقيقة الوضع سواء بتأكيد سلامة الاجراءات ومن ثمة مباركة نتائجها أو باثبات الحالات المخالفة والتي يترتب عليها ادانتها.

CONVERSATION

0 comments: