الأمـــــن الاقتصــــادي/ صبحـة بغـورة

تـولـي الكثير من الدول أهمية بالغة لمسألة الأمن الاقتصادي وأصبحت كل الأنظمة في عصرنا الحديث تضعه على رأس أولوياتها الوطنية  واهتماماتها الرئيسية نظرا لارتباطه الوثيق بالأنشطة الحياتية الحيوية وبإدارة مقدرات البلاد من الثروات من جهة ، ونظرا لعلاقته المباشرة في تحديد دخل الأفراد وتحديد مستوياتهم المعيشية من جهة أخرى ، ولكن الجهود المبذولة لبلوغ المستوى المرجو لتحقيقه اصطدمت في الكثير من الحالات بحواجز أو تعثرت أمام صعوبات  لأسباب مختلفة وما تشابه منها قد تفاوت من حيث حدته من بلد لآخر حسب الظروف الداخلية و طبيعة علاقات القوى في المحيط الدولي ،  والجديد في الموضوع الذي نتناوله أن الأمن الاقتصادي أصبح ينظر إليه على أنه أحد المكونات الأساسية في منظومة الدفاع الوطني، بمعنى أنه قد أصبح عدم توفر حد أدنى من الأمن الاقتصادي في بلد ما يعني مباشرة هشاشة الدولة ، فالمفهوم الحديث لمسألة الدفاع الوطني أصبح يستند إلى ثلاثية تشكل النماذج الجديدة للدفاع وتتمثل في الأمن الاقتصادي ،الأمن المدني والأمن العسكري
                                        .    .    .    .    .    .    .
 من الدول ما يشكل موقع إقليمها الجغرافي مشكلة لها  ، ونسوق لتوضيح ذلك مثالا  لبلد ما عندما يكون إقليمه الجغرافي شاسعا وشبه جاف تقل فيه الموارد المائية الكافية والمهدد في نفس الوقت بظاهرة التصحر الجارف ويتميز بتوزيع سكاني غير متوازن  يكون هذا البلد حتما في وضعية هشة لأنه سيكون ضعيفا اقتصاديا خاصة في ظل التغيرات المناخية شديدة التقلب التي يصعب معها رسم سياسات تنمية زراعية يمكنها تأمين احتياجات الشعب الأساسية من المواد الغذائية الضرورية ذات الاستهلاك الشعبي الواسع ، ومنه يجد مثل هذا البلد نفسه في حالة تبعية مفرطة للخارج تزيد من متاعب الدولة في ضبط و إعداد الميزانيات السنوية حيث أن الأسواق الخارجية ستكون هي المحدد لحجم فاتورة الاستيراد .
 كذلك تشكل طبيعة التركيبة الاقتصادية لدولة ما مشكلة حادة لها ولعل الدول المرتبطة ارتباطا شديدا بمورد واحد كبعض الدول المصدرة لمواد الطاقة كالبترول والغاز، ستكون بنيتها الاقتصادية هشة لأن هيكلها عاجز أو قاصر لا يسمح بإحداث التنوع في مصادر الدخل ولن يمكن لهذه الدول التحرر التدريجي من قيود التبعية في الغذاء والعلاج .. وحتى في مجال إدارة الاقتصاد وسيبقى مجرد بلد " ريعي" أي سيقف عند حدود تحصيل عوائد تصديره لمواد طبيعية لم يكن لجهد الإنسان فضل فيها حتى أسعار  ثرواته  تتحدد بالأسواق الدولية أي دون إرادتها ودون تدخل مؤثر منها ، لذلك فالدول المصدرة  " لمادة واحدة " تواجه ضعفا هيكليا في اقتصادها يعرضها لخطر التقلب في الأسعار ، ولا يضمن لها نظامها الإنتاجي الأمن الغذائي , الأمن الصحي و التكنولوجي بل وحتى صيانة منشآتها الإستراتيجية ، وهذا يعني تبعية هذه الدول في مجال المعلومات أي أن نظامها الاقتصادي سيجد صعوبة بالغة في التكيف في المقتضيات الدولية خاصة منها المتعلقة بالانضمام للمنظمة العالمية للتجارة  ، أما اللجوء إلى توحيد جهود المنتجين و المصدرين لمادة طبيعية ما من أجل ضبط أسعارها  لصالحهم فتراها  تصطدم بسقف منخفض من الآمال ذلك لأن اعتبارات التنمية في هذه الدول وما تتطلبه من استيراد ضخم للمواد المصنعة والاستهلاكية ومستلزمات قطاعات الخدمات تقتضي بداهة قدرة مالية معينة لمواجهة أعباءها لا يتسنى لها توفيرها بدون الاستمرار في التصدير وفق الأسعار التي يحددها  لقانون السوق العالمية ولا يجدي نفعا إظهار القوة عن طريق التهديد بإحداث الندرة لأن الندرة المفتعلة في مصادر الطاقة بصفة خاصة ستؤدي ببساطة إلى ارتفاع ثمنها في الأسواق الدولية وبالتالي حدوث زيادة منطقية في تكاليف الإنتاج ومنه ارتفاعا في أثمان السلع التي ستجد طريقها للتصدير إلى نفس الدول التي كانت سببا في مسلسل الارتفاعات المتوالية مما يحيلنا مباشرة إلى ضرورة الاستعداد لتقبل ارتفاعا فاتورة الاستيراد ، منطق العلاقات التجارية الدولية واضح ، انه صراع القوة ، ستنظر الدول الأكثر تصنيعا في العالم إلى الدول المصدرة للطاقة كمن ينظر إلى خصمه ، وأي محاولة لاحتكار عملية تحجيم الإنتاج كوسيلة لتحديد الأسعار سيتم اعتبارها جريمة في حق الدول المتقدمة التي تقود قافلة الحضارة الإنسانية إلى عوالم من التقدم التكنولوجي حيث لم تخطر من قبل على قلب بشر ، وستكون هذه الدول مطالبة بالحفاظ على ريادتها مما يضعها مضطرة في موقع المعاقب وهذا الموقع مكتسب منذ عشرات السنين تحسبا من احتمالات حدوث تقلبات في موازين القوى وتهديد المصالح امتثالا للقاعدة أن المعاقب يجب أن يمتلك قوة أكبر من الجاني حتى يتمكن من معاقبته ..
وتكون أيضا الهشاشة المالية كبيرة في دولة ما حتى أنها تشكل تهديدا ثقيلا على نظامها الاقتصادي عندما يكون نظامها البنكي قديما و متخلفا،ونظامها المالي غير فعال ، ويصاب النظام المصرفي بالضعف إذا تعطل العمل بالمعايير الدولية فيما يخص الشبكة النقدية بين البنوك في الأمور المتعلقة بنظام التعويض الذاتي ونظام الدفع الشامل ودعائم الدفع وتأمين النظام المالي، فالتأخر الكبير في عمليات التسوية المالية يؤدي إلى تبذير معتبر للموارد والى أحداث سيولة نقدية غير قانونية وكذا إلى أعاقة الاستثمار الوطني و الأجنبي ، وكل هذا بطبيعة الحال يشكل بالتالي خطرا جسيما على الأمن المالي ، ومما يزيد في الأمر تعقيدا أن مثل هذه الأوضاع هي نتيجة أو انعكاس لغياب أكيد لإجراءات التدقيق المحاسبي الداخلي وعمليات مراقبة المعلومات الخاصة بالمودعين و المكتتبين وعدم الأخذ بالمعايير الدولية في مجال حساب المخاطر و أدوات قياسها .
شهد العالم أجمع كيف أن الصدمات البترولية الخارجية والتبعية المفرطة للخارج قد أثرتا بشدة وبشكل سلبي على التنمية الوطنية للدول النامية وزادتا من هشاشة  أنظمتها ، هذا بالإضافة إلى ارتباط النمو في العديد من الدول بالظروف المناخية التي باتت متقلبة منذ سنوات ومثل تلك البلاد التي تعرف هذه الأوضاع تعيش حالة تعرف  "بالتنمية غير المنتهية " أي تلك التي لم تستقر على رسم معالم أساسية لاستراتيجيات واضحة الأهداف فهي كمن يدور في حلقات مفرغة من سياسات لا تؤسس لتنمية حقيقة ذات أسس قوية وسياسات واضحة تهدف لحقيق أهداف محددة ، ومما يزيد في درجة تعقيد الأمور هو الاطمئنان الخادع لاستمرار تدفق عوائد التصدير في الدول ذات المورد الواحد فالفوائض المالية ليست في كل الأحوال مؤشرا ايجابيا على صحة الاقتصاد بل قد يمثل مشكلة إذا  لم يستطع الجهاز الإنتاجي استيعابها ، كما أن ما تفرضه "العولمة" من تحديات لن تناسب هذه الأنظمة لأن مقاييسها الاقتصادية يحددها منتوج واحد ووحيد ، ومثل هذه الاقتصاديات تكون شديدة الحساسية إزاء المحيط الخارجي الذي يتسم في أدنى مستويات اضطرابه بالتقلبات الحادة والمستمرة في أسعار صرف العملات مثل التي أحدثت كما جرى مؤخرا إضرابات عنيفة خلال الأزمة المالية العالمية في تقدير قيمة الصادرات والواردات وتقييم القوة الشرائية للاحتياطات النقدية للدول والقيمة الحقيقية لحجم الديون المالية المستحقة فيما بينها ، فالتغيرات المفاجئة في قيمة العملات أصبحت تصيب أكبر النظم الاقتصادية للدول الأكثر تصنيعا في العالم بكثير من الاهتزاز بالرغم من أنها  تعتبر فرضا الأقوى منعة وصلابة ،  أما بقية الدول فان الأمر ينصرف مباشرة إلى الحديث عن احتمالات قوية بحدوث ظاهرة إفقار ووهن اقتصادي يبلغ في خطورته مستوى تهديد الأمن والسيادة الوطنيين   
                                       .    .    .    .    .    .    .
 إن الدول التي تفطنت مؤخرا إلى طبيعة هذه الأوضاع  ولجأت إلى وضع معالجات لبلوغ اقتصادها مستوى من الكثافة الاجتماعية و السكانية و السياسية و الإستراتيجية قد أحالت نفسها إلى مواجهة مسألة أخرى تتعلق بالاحتياج إلى سيادة الدولة في مجال الأمن الاقتصادي  حيث أن جوهر الأمن الاقتصادي يتطلب البحث عن النموذج الجديد للدولة القوية التي تضبط المسارات الاقتصادية و الاجتماعية بوسائل ضبط و إدارة و تنظيم عن طريق شراكة  لا تهمل على المدى القصير مصالح المدى الطويل بمعنى أن لا يجر الطمع في مكاسب صغيرة وظرفية إلى إغفال الأهداف الإستراتيجية للدولة التي تعني مستقبل شعبها ومكانتها الاقتصادية ، وتبرز هنا معضلة أخرى  فبين خيار تخلي الدولة عن دورها كطرف أساسي في كل عمليات التنمية و اللجوء إلى منطق اقتصاد السوق ـ الذي أصبح حديثا غير مرغوب فيه ومحل انتقادات متعددة ، وبين الاتجاه إلى حصر مهام الدولة  على عملية الضبط و التحكم  تحت مفهوم" الدولة الحارسة " ـ التي أيضا أصبحت غير مجدية بعد بروز تحديات محيط دولي تفرضه قواعد العولمة ،أصبح الأمر يقتضي تصميم مفاهيم جديدة لدور الدولة ووضع صيغ جديدة للأمن الاقتصادي تراعي بصفة أساسية المحيط الدولي الحالي المشكوك فيه أمام الحلول الليبرالية واختفاء منطق الدولة الحامية ، كما تهدف في الوقت نفسه إلى تحديد إستراتيجية للتنمية وفق رؤية علم الاقتصاد أي تستند إلى مسألة الفعالية وليس إلى مسألة إيديولوجية ، فسيرورة النشاط الاقتصاد لا تتحمل الحماقات السياسية لأنه شديد التأثر بنتائجها  كما أن طبيعته تأبى الانصياع نحو فرضيات قائمة فقط على مجرد ولاءات سياسية تفرضها تحالفات سياسية لا تعطي بالا للبنيات الاقتصادية وتركيباتها ومجالات النشاط المنتجة فلا تفرق بينها وبين تلك الأنشطة التي تفتقد لأدنى المقومات للنهوض بها .
من هنا يمكننا التوصل إلى أن مفهوم الأمن الاقتصادي يعالج قوة الأجهزة المختلفة للدولة وقدرتها كالشبكات الكهربائية، الاتصالات، شبكات المياه، الشبكات النقدية ... بإبقائها في حالة عملياتية باستمرار ، إن الصدى الواسع لدائرة تقبل الأمن الاقتصادي يؤدي تلقائيا إلى بروز قضايا كبرى في الدفاع عن المصالح الإستراتيجية لكل دولة ليس فقط في معنى قدرات رد الفعل ولكن أيضا في تدعيم مواقع القوة التي أصبحت تحتل أهمية بالغة في سياسات الدول ومنها إقامة مشاريع الشراكة الحقيقية بين مؤسساتها الوطنية والشركات العالمية ذات الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا الحديثة المنتجة للثروة ، إقامة شبكة واسعة من العلاقات الدولية في إطار التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية والمالية ، وتشجيع عملية جلب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في مشاريع وطنية ، وتوطيد العلاقات مع مختلف مجالس رجال الأعمال في دول العالم  ، ولعل الأهمية التي تكتسيها مثل هذه الاعتبارات كانت وراء إنشاء ملحقات اقتصادية في سفارات دول العالم للقيام بمهام متابعة ورصد إمكانيات إقامة التعاون الاقتصادي وتحديد الآفاق المستقبلية لطبيعة المشاريع الاستثمارية الممكنة وتحين الفرص المناسبة لتحقيقها والتمهيد لها في أوقاتها المناسبة والتحضير العملي لخطوات التنفيذ ، وضمان سرعة الاتصال والتواصل مع مختلف الجهات المسؤولة لتعزيز علاقات التعاون وتنويعها وتوسيعها إلى مختلف المجالات الأخرى ، وضمان تنسيق جهود التقارب الفعال من خلال المشاركة المتبادلة في المعارض الدولية المتخصصة وتنظيم زيارات الوفود وضبط جدول أعمالها و لقاءاتها ، مثل كل هذه الجهود القائمة فعلا بين مختلف دول العالم وعلى نحو مكثف ومتسارع سواء على المستويات الثنائية أو الجماعية  تمثل في حقيقتها دعائم قوية ومنعشة لاقتصاديات الدول كما تعد بدائل متعددة أمام تقلبات الظروف السياسية ومتغيرات العلاقات الدولية فتكسب النظام الاقتصادي لدولة ما مرونة أكبر في التحرك في مواجهة المشاكل و الأزمات الاقتصادية ، هذا بالإضافة إلى كون مثل هذه الأنماط من التعاون تخلق المصالح المشتركة الذي سيحرص كل طرف منتفع فيها وبها إلى ضمان استمرارها قائمة بالمساهمة الجادة والتكاتف النشط في إبعادها عن أي مصدر يهددها بالتعثر أو بالزوال ،  ويبقى على كل حال الاقتصاد العام هو مركز التنمية و محرك النمو الاجتماعي بالرغم من رفض بعض الفاعلين الاقتصاديين لسيطرة الدولة فهؤلاء أنفسهم لا تراهم يبادرون بالمخاطرة  المحسوبة بل  ويحجمون عن المغامرة ، ومن جهة أخرى ـ ومن باب الإنصاف ـ  فالملاحظ أنه بالرغم من الضمانات التي تقدمها الدولة فهي لا تبدي ثقة كبيرة في المؤسسات والافتقاد إلى بناء شبكات الثقة التي تعتبر العامل الأول للتنمية يدفع تلقائيا للحذر وسيكون مظهره عدم فتح رأس المال للمساهمين .
ومن الدول أيضا ما يشكل موقع إقليمها الجيـوـ سياسي مشكلة ذات طبيعة أخرى لها حيث قد تجد نفسها أمام حالات من العداء السياسي من بعض دول الجوار لأسباب قد تتعلق بمطالب ترابية حدودية أو لإطماع في مناطق غنية بالثروات الطبيعية ، أو قد تكون هذه الدول عرضة لموجات من الهجرة السرية لمواطنين من دول مجاورة فارين من الفقر أو الجفاف أو الحروب الأهلية أو عرضة لأشكال مختلفة من الجرائم المنظمة كالتهريب وعمليات تبييض الأموال والاتجار بالمخدرات ونشاطات عصابات قطع الطرق بالمناطق الحدودية النائية ... أو أن يكون موقعها قريبا جدا من مناطق صراع سياسي محتدم  وتهديدات عسكرية لا يستبعد مع تطور حدتها أن يتطاير شررها إليها ،  أو أن تجد نفسها أمام التزامات  تاريخية قومية تمت صياغتها في اتفاقية للدفاع المشترك ، في مثل كل هذه الحالات تبرز على رأس الأولويات ضرورة ربط علاقة وثيقة بين مقتضيات الدفاع الوطني وتنمية البلاد لأن هناك علاقة مباشرة بين مستوى التنمية عموما و مستوى القدرات العسكرية المكتسبة أو تلك التي يراد امتلاكها ، لذلك هناك من الدول في الوقت الراهن من بلغت بها الشكوك في درجة سلامة الوضع الأمني في الإقليم الذي تنتمي إليه ترى بأنه إذا لم تتحسن الظروف الاقتصادية لجيرانها فان ذلك سيشكل تهديدا مباشرا وجادا لأمنها ولتجانسها الاجتماعي لذلك فهي تستشعر حاجتها الملحة لامتلاك قوة عسكرية ردعية بصفة دائمة كافية لضمان سلامة وأمن حدودها واستقرارها الداخلي ، ولكن امتلاك مثل هذه القوة خاصة في البلدان ذات المساحة الشاسعة وتعدد دول الجوار من جهات الأرض الأربعة يبقى رهن وجود اقتصاد قوي يضمن تمويل برامج التسليح الحديث الذي يتطور من سنة لأخرى وتمويل البرامج التعليمية المتطورة لتشكيل قدرة بشرية كبيرة مؤهلة علميا لاستيعاب واستعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة والمتجددة في الحرب كما في السلم ، الثابت الآن أنه لابد من تطوير الاقتصاد الذي يكون مؤسسا على المعرفـــة ، ومجالاتها التربية ، الإعلام والاتصال ، التجديد ، ومناخ الأعمال، وكلها مكونات أساسية من شأنها التشجيع على اتخاذ إجراءات تحفيزية اقتصادية تتعلق بضبط الحواجز التعريفية وحق الملكية وتقوية البنية التحتية و تطوير الخدمات والمرافق العامة والتحكم في عمليات إدارة التنمية الوطنية ومشاريع الشراكة وتكريس التشاور الاجتماعي مع الفاعلين الاقتصاديين و الاجتماعيين وفق مبدأ " الديمقراطية التساهمية " بالإضافية إلى ضبط عملية التأهيل النوعي للموارد البشرية عن طريق تنظيم الدورات التدريبية ذات المستوى العالي  والمتابعة المستمرة للدوريات و النشرات العلمية و التقنية المتخصصة ، إن الضرورة الآن بالنسبة للدول النامية وتلك التي تنتمي إلى مجموعة المصدرين لمادة واحدة هي الأخذ بمبدأ تضافر رؤوس الأموال والمعرفة والتنظيم كمفاتيح لبناء اقتصاد تنافسي .
لاشك في أن المنافسة الاقتصادية نشاط حتمي ضمن نظام اقتصاد السوق فهي العنصر الأساسي للرأسمالية و محركها ، والمنافسة تدفع إلى التجديد وتساعد على تطوير العلاقة بين النوعية و السعر باستمرار رضا المستهلك ، إن غزو السوق الوطنية أو الدولية كهدف استراتيجي ذات أولوية بالنسبة لبلد ما يجعلها دوما في حالة تعبئة مرتبطة بهذا النشاط ، ويصبح نفس النشاط عنصرا أساسيا لأمنها الوطني،وهنا يلعب الذكاء الاقتصادي دور الأداة الضرورية لهذه الإستراتيجية، فالدول النامية تكون مقيدة في عملية تطوير وتيرة ممارستها وثقافتها بسلسلة علاقات متقاربة من الذكاء الاقتصادي تكون متناسبة مع الأولويات المدرجة وذلك بسبب هشاشتها .
قد تكون أيضا البحبوحة المالية لبلد ما سببا في بروز تعقيدات تجعله أكثر هشاشة وتتسبب بالتالي في زعزعة استقرارها إذا كان لا يلقي بالا للذكاء الاقتصادي وكان وحيد الإنتاج و التصدير ، في مجال الذكاء الاقتصادي لا توجد أسواق كبيرة أو صغيرة ولكن الجهد المبذول فيما يخص مجال الكثافة هو المعيار ، كما إنه حسب مفهوم " المناطق الاقتصادية " التي  قد تبدو أنها  تسهل كثيرا عملية الدخول للسوق العالمية ولكن مجرد الانتماء إليها في نفس الوقت يقلص القدرة على اختيار الشركاء بتضييق هامش هذا الاختيار في حدود دول هذه المنطقة أو تلك وبالتالي تتحدد كثيرا عمليات التحسين النوعي للإنتاج والانتشار الجغرافي لها ،ومن الذكاء الاقتصادي تقييم التوابع النسبية والأنشطة الفرعية التي تتطور داخل الاقتصاد وتقدير انعكاساتها على الأمن الوطني للبلاد في مجال إنتاج المواد الغذائية و الأودية والطاقة و السلاح .. وهكذا نلاحظ  أن من السياسات ما لا ترفع العناء بل تؤدي إلى إحداث المزيد من الضغط .
إن الأمن الاقتصادي وفق ما ذكرناه إذن يشمل فيما يشمل الأمن الصحي و الأمن الغذائي و الأمن البيئي وأمن الطاقة ...  وإذا كان المفهوم يسبق عادة الأداة ، والوظيفة هي التي تحدث الهيئة فان الأمن كونه غاية في حد ذاته يجعل الدفاع أحد وسائله و يصبح بالتالي من الضرورة المنطقية القبول بأسبقية الأمن على الدفاع  على خلفية أن الأمن يعطي أولوية لتحليل ومعالجة الهشاشات بمعنى التخلف فيما يتولى الدفاع مهمة تقييم التهديدات والمخاطر ، وهنا يحدث التحول من الأمن عن طريق الحرب إلى الأمن عن طريق الدفاع ومنه الدفاع الاقتصادي .
                                       .    .    .    .    .    .  
وعليه تتشكل لنا المقومات الثلاثة اللازمة لأن تؤدي دولة ما دورا رياديا في منطقتها يضمن أمنها :  قوة اقتصادية ذات دعائم ثابتة ومتنوعة المصادر ، قوة عسكرية رادعة في حالة عالية المستوى من التسليح والتدريب ، سلطة سياسية مستقرة في إطار ديمقراطي وتعددي راسخ و عتيد ، وإذ يصعب حقيقة الجزم أي من هذه المقومات الثلاثة كان له السبق التاريخي للوجود في حياة الأمم أو إن كان ثمة ثبات في موضعه في سلم أولويات الدولة بصفة مطلقة فان الثابت بما لا يدع مجالا للشك بأن بين القوى الثلاثة علاقة تكاملية دائمة قد يكون لإحداها أفضلية نسبية في وقت معين على سبيل المعالجة الظرفية لقضية بعينها ثم لا يلبث أن يجري تراجعها بسلم الأولويات في وقت لاحق أمام مقتضيات وضع جديد بمعطيات مرحلية أخرى تتطلب معالجات مغايرة عن المرحلة السابقة عليها ، فليس من التحضر الإنساني مثلا وشروط النظام الديمقراطي مواجهة المناورات السياسية من قبل الأحزاب السياسية الشرعية الممثلة بالمجالس النيابية والبرلمان بالقوة العسكرية " الرادعة " !  كما لا يمكن أن تعيش سلطة سياسية في أجواء السلام والاستقرار بدون توفر قوتي الاقتصاد و الأمن ، والأمثلة التي يجوز أن نذكرها للتدليل على صحة فرضية ضرورة وجود هذه المقومات بصفة متزامنة ومتكاملة يمكن أن نسوقها من تاريخنا المعاصر الحديث فكم من دولة تمتعت بنظام سياسي ثابت و مستقر وثروات مالية ضخمة فقدت عزها وانهارت أركانها في لحظات طيش عدواني خارجي بسبب افتقارها إلى قوات مسلحة قادرة على التصدي و الردع ، وكم من دولة جيشت الجيوش وأقامت نظاما اقتصاديا قويا انهارت في لحظات بسبب هشاشة نظامها السياسي المستبد وانفصال الشعب وجدانيا عن السلطة بعد تفاقم مظالمها تجاه أبنائه ، فيما أودت الأوضاع  الاقتصادية الصعبة بدول تتمتع بنظام سياسي عتيد وجيوش جرارة إلى تدهور مكانتها الدولية وتراجع دورها كطرف مؤثر وفاعل في الكثير من القضايا الدولية وباتت في حالة أشبه  بالضعف وبالعزلة ، وعليه يمكن القول أن مسألة الأمن الاقتصادي هي في صلب مهام الدفاع الوطني إن لم تكن كذلك قضية أمن قومـــي .

CONVERSATION

1 comments:

FORALI يقول...

السلام عليكم، إن المقال التي تفظلت بإعداده صبحة بغورة والموسوم بالأمن الإقتصادي، وبعد إطلاعي عليه وددت أن أشكر هذه النبغة جزيل الشكر على هذا الأداء الراقي جدا من الوصف، التحليل، الربط والإستشراف.