لم نكن نعرف في السابق أن كثرة بناء المساجد في غزة ستصبح يوما قواعدا تنظيمية لفصيل أو حزب سياسي بقدرما هي دورا للعبادة والتواصل بين العبد وربه..؟ وعلى سبيل المثال: مخيم جباليا الكائن شمالي مدينة غزة وصل عدد سكانه لأكثر من تسعين ألف نسمة عام 1990 في مساحة لا تزيد عن الكيلو متر المربع، جميعهم من اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم وبلداتهم الفلسطينية عام 1948، وحتى عام 1990 كان في المخيم عشرة مدارس أساسية تديرها منظمة الأونروا الدولية بالإضافة لمدرسة حكومية واحدة ثانوية ومع ذلك كان يتلقى فيها التعليم الثانوي كل أبناء محافظة شمال غزة، وما يهمنا في هذا المقال أنه كان في المخيم مسجدان فقط مع إمامين رئيسيين، وأضيف لذلك مسجدان في أطراف المخيم الذي بدأ يتسع شمالا وشرقا، أما اليوم فوصل عدد المساجد داخل المخيم ما يزيد على عشرين مسجدا موزعة في كافة حاراته.. أي تضاعفت بنسبة 500 في المائة أما المدارس فبقيت كما هي سوى أنها أصبحت فترتين وبني فيما بعد ثلاثة مدارس بعيدة عن المخيم، وحسب ما هو متداول حاليا بين الناس أن هذه المساجد تسيطر عليها حركة حماس، عدا مسجدين تسيطر عليهما حركة الجهاد الإسلامي.
في الانتفاضة الأولى التي فجرها مخيم جباليا عام 1987، بدأت حركة حماس نشاطها في شهر شباط من العام التالي، وفي أثناء الانتفاضة تصادمت مع العديد من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كل على حدا، وكذلك حركة الجهاد الإسلامي.. ووصل بها الأمر في استخدام أحد المساجد معتقلا لمنافسيها من تلك التنظيمات، وعلى سبيل المثال: حدث مرة أن كان أحد النشطاء ضد الاحتلال هاربا من دورية إسرائيلية فلم يجد أمامه إلا اللجوء للمسجد كي يحتمي فيه، ولأنه كان معروفا لديهم ومن تنظيم غير تنظيمهم؛ فما كان منهم إلا تقييده والتوسع فيه ضربا مبرحا، وبعد تدخل بعض الوجهاء في المنطقة أخلوا سبيله.. ومنذ ذلك الوقت زاد اهتمام حركة حماس بالمساجد وبنائها في كل حارة كي يكون المسجد قاعدة حزبية لهم، وأصبح المسجد هو الخلية التنظيمية الأولى، وصار الأمير فيه وأعوانه من التنظيم يقود الإمام ويحدد له الخطوات والسياسة التي يجب أن يتبعها، ومن هنا وفرت المساجد في جميع محافظات غزة قاعدة جماهيرية قوية لم تتوفر لأي تنظيم آخر..
قبل فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية حدثت اشتباكات بين قوات الأمن الفلسطينية المتمركزة في مقر للشرطة وعددا من مسلحي حماس والجهاد في مخيم جباليا، ولسنا هنا في معرض الحديث عن ذاك الحادث.. إلا أن ذلك صار بفعل التحريض الكبير من الجوامع ومكبرات الصوت التي تعلو مآذنها إضافة لما يبث من سموم داخلها ليلا نهارا، وفي ذلك الحادث قتل ستة أطفال وجرح عدد آخر، ولم تعرف الجهة التي قتلتهم، لكنهم اُحتسبوا شهداء لحركة الجهاد الإسلامي.. وأذكر بعدها أنني قمت برفقة صديق لمقر الأمن الوقائي وقابلنا المدير وطالبناه بعمل اللازم لوقف استخدام المساجد في التحريض ضد السلطة التي تقدم الدعم المالي والإداري لهذه المساجد، لكنه لم يعر طلبنا أي اهتمام..؟! ومن هنا تتحمل السلطة والأحزاب كل المسئولية عما يجري؛ وفي هذا المجال يقع العبء الأكبر على النواب في المجلس التشريعي حينها حيث كانت كتلة فتح البرلمانية هي الأكبر، ولا ندري لماذا لم تناقش تسييس المساجد؟ وكيف أنها لم تكن تدرك ما يدور؟ وأن ذلك سينعكس سلبيا على العملية الديمقراطية برمتها ؟ إذ من الواضح أن معظم التشريعات في العالم تمنع استخدام دور العبادة للتجنيد السياسي، وكذلك لا ترخيص للأحزاب الدينية، ولعل ذلك حصيلة حروب طاحنة بين الكنيسة والقوى السياسية في أوروبا استمرت قرونا طويلة حتى فصلت الدين عن الدولة.. نعتقد أن ما جرى في غزة هو نتاج لتطور طبيعي للعملية الديمقراطية المشوهة، وكان يجب على دهاقنة السياسة والقانون الانتباه لما سيجرى.. لاسيما أن العالم الديمقراطي (ليس ديمقراطية العرب وإسرائيل) تحرم وجود أحزاب دينية.. إن حادثة مخيم جباليا كان يجب أن تنذر بالكارثة، كما أن سكوت السلطات على جريمة جباليا أيضا التي راح ضحيتها ما يقارب أربعين مواطنا عندما انفجرت صواريخ حماس التي كانت تستعرض بها في مهرجان لها، ولم تحاسب السلطة حينها المسئول عن تلك الجريمة، وكذلك لم تتفحص أو تضع شروطا تحافظ على أمن المواطنين في مهرجان كهذا وسط مخيم جباليا.. إن السكوت على تلك الجرائم، وكذلك عدم الانتباه لحاجتنا للتشريع بالتأكيد سوف نصل لما وصلنا إليه..!
في مخيم جباليا كما في أماكن عدة من غزة هناك أكثر من مسجد في شارع لا يتعدى ثلاثمائة متر.. فهل يعقل هذا..؟؟ والغريب أيضا في هذا المجال أنه عندما يقام الآذان في أي وقت للصلاة فإنك لا تفهم شيء من الآذان لعدم توافق مؤذني الجوامع في الصوت، وهذا يؤدي إلى تشويش كبير وإرهاق في السمع لسكان المنطقة، أو المارين من هناك.. فهل هذا يجوز؟ ونحن في عصر التكنولوجيا ويمكن حل هذه المشكلة بتوحيد الآذان في هذه المساجد؟؟ أو أن الأمر يتعلق بالسياسة لأن أحد تلك الجوامع يتبع تنظيم الجهاد الإسلامي والمساجد الأخرى محسوبة لحركة حماس؟؟ كما هو مؤسف جدا أن يبنى مسجدا حديثا ويؤثث على أحدث طراز وسط بيوت فقيرة ومنازل آيلة للسقوط ، ولا تتوفر فيها أدنى الشروط الصحية التي تحافظ على الإنسان.. وكأنّ في الأصل البناء، وليس الإنسان..؟! أليس أجدر وأثوب أن نهتم بالإنسان الذي يعيش في هذه المنطقة؟؟ وبدلا من بناء المسجد أن نرمم تلك البيوت ونحسن من الشروط الصحية لسكانها؟؟ أهذا ما أوصانا به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "لأن هدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم" أليس في ذلك حفاظا وقوة للإنسان التي تقبل صلاته في أي مكان..؟ هذا غير القصص والجرائم اللا أخلاقية مع الأطفال التي ترتكب بين وقت وآخر في عدد من مساجد غزة، ولعل ملفات الشرطة والمباحث تحوي الكثير من تلك القصص والجرائم.. والأفضل أن ننهي مقالتنا بما روي عن أحد الصحابة الجلل ـ رضوان الله وصلواته عليهم ـ حيث "حدثنا أنس بن عياض قال سمعت هشام بن عروة يقول لما اتخذ عروة بن الزبير قصره بالعقيق قال له الناس قد جفوت عن مسجد رسول الله قال إني رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية ..."
0 comments:
إرسال تعليق