في انطلاقة الثورة كيف صنعت حركة فتح احترامها بين الجماهير؟/ محمد داود

ويرقى تاريخ نواة الحركة الأولى إلى الفترة الممتدة بين 1956 و1959، حين التقت مجموعة من الأفراد والخلايا واتفقت على إنشاء تنظيم عسكري فلسطيني مستقل، وقد أمضت الحركة الفتية ست سنوات في التمهيد سراً لإطلاق الكفاح المسلح، وعندما أعلنت عن نفسها حظيت بالتأييد الواسع بين الجماهير الفلسطينية بعد مؤتمرها الأول الذي عقد عام 1964 ، والذي به أعطوا الأولوية لتحويل الحركة إلى حالة شعبية وجبهة وطنية تضم كل من يرغب بالمشاركة بغض النظر عن خلفياته العقائدية والأيديولوجية. وقد كان مؤسسوها ومنظموها وزعمائها من ناشطي قطاع غزة وهم طلاب جامعيون يدرسون في مصر، ومن قياداتها "ياسر عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير ومحمود عباس وفاروق القدومي" . الذين ظهروا بعد هزيمة العرب عام 1967م بصفتهم زعماء حركة "فتح"، والتي ترجمت حروفها الأولى لـ"حركة تحرير فلسطين" (حتف) ولكن بالمقلوب، وهي "حركة التحرير الوطني الفلسطيني".

عملياً قام الشهيد أبو جهاد بإنشاء قواعد لفتح في الجزائر وسوريا، وقام بتنظيم وتنسيق العلاقات مع الخلايا الفدائية خارج وداخل فلسطين والتي تعرف "بقوات العاصفة" حتى استكملت جناحها العسكري الذي توسع إلى مئات الخلايا على أطراف فلسطين وداخلها وفي مخيمات اللاجئين؛ لاسيما وأن الأنظمة العربية قد اعترفت بحركة فتح بعد صعود نجم الفدائيين في المقاومة، فلقيت دعماً لوجيستياً وسياسياً، خاصة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتلتقي بذلك مع شعاراته بعد حرب 1967 . كما وجدت احتضاناً عربياً، الأمر الذي دفع "حركة فتح" عبر جناحها المسلح؛ بتوجيه انتقاد سلبي إلى م.ت.ف" باعتبارها أداة بيد من شكلها؛ بينما شنت باقي التنظيمات هجوماً عنيفاً على المنظمة بهدف تدميرها، والحلول محلها، لكنها عادت فاقتربت من موقف فتح نحو تقرير مصير سياسة المنظمة.

اعتنقت الحركة العنف الثوري إطاراً لبرنامجها لتحقيق الوحدة العربية ضمن النزعة الوطنية القطرية التي تبحث عن السيادة والاعتراف القانوني، كما ركزت على الهوية والكيانية الفلسطينية واستقلال القرار الفلسطيني" ، "بمعنى أن عدم تقيد حركة فتح بصياغة برنامج عقائدي مكنها من أن تكون حركة شعبوية وقومية في آن واحد، حيث الصيغة الوحيدة الواضحة بعد هدف التحرير هي صيغة العنف الثوري كطريق يوصل إلى التحرير، وكعنصر مهم في النضال السياسي وفي التعبئة الجماهيرية" ، وشددت في أدبياتها، على مسالة التحرير، وإزالة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وإعادة تأكيد الوجود الفلسطيني، والاستقلالية للقرار والإرادة الوطنية الصلبة؛ والكفاح المسلح والوحدة الوطنية، وبعث الكيان والشخصية الفلسطينية وطالبت مع حركات أخرى بضرورة إشراك الفئات الثورية والمسلحة في تقرير سياسة المنظمة ونهج تعاملها مع الحكومات العربية والأجنبية، مما وضع الحركة في محك وأزمات؛ أبرزها محاولة السيطرة عليها من قبل الحكومة السورية، التي اغتالت "يوسف عرابي - مؤسس الجبهة الثورية لتحرير فلسطين"، وسجنت عرفات وقيادات ميدانية لأكثر من ثمانين يوماً في دمشق ، مع ذلك أكدت فتح على عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية وضمته كبند في الميثاق الوطني عام1968؛ ليكون شعاراً تكتيكياً يهدف إلى إتاحة الفرصة للثورة الفلسطينية لتثبت أقدامها على الأرض العربية وعدم إعطاء مبرر لضربها وإجهاضها .

ومع تزايد العمليات العسكرية التي ينفذها الجناح العسكري لفتح العاصفة، اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي بكثافتها، لاسيما وأن الحركة كسبت الخبرة في إنتاج الأسلحة بنفسها، كما نجح عرفات شخصياً في تدعيم جهاز فتح السري وتوسيعه وبناء الخلايا العسكرية، بين قواعد ارتكازية ومجموعات متحركة خلال وبعد معركة الكرامة، حيث طرحت فتح مصطلحات "الشعب المسلح" والعمل الفدائي والحرب الشعبية، فأصبح التنظيم المؤهل لأن يكون أول فصيل مسلح، يمتلك أسلحة ثقيلة ودعم مادي سخي، وحظي على تأييد عربي ودولي كاسح خلال قمة الرباط عام1969، وداخلياً باندماج العديد من التنظيمات الفلسطينية الصغيرة لتمثلها قوات العاصفة، كما استقطبت جميع الاتجاهات باعتبارها حركة وطنية تضم كافة الاتجاهات؛ الذين يحرصون على برنامج موحد يلتقي حوله الجميع كما نجحت في طرحها للكفاح المسلح، وفي تمهيد الأرضية الديمقراطية في الساحة الفلسطينية وفي تثبيت المؤسسات الثورية كقواعد راسخة للثورة الفلسطينية من خلال الإطار السياسي المستّقل ذاتيا ضمن النزعة الوطنية القطرية التي تبحث عن السيادة والاعتراف القانوني.

كما حددت فتح أهدافاَ تسعى إليها، أبرزها : تحرير فلسطين بالكامل؛ والقضاء على الكيان الصهيوني؛ وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، ذات سيادة على كامل التراب الفلسطيني، تحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية، على أساس العدل والمساواة، كما طرحت تنظيمياً (الديمقراطية المركزية، من خلال العمل الجماعي والقيادة الجماعية والانتخاب، والمناقشة والمحاسبة والنقد الذاتي والرقابة والمركزية) . أي الكل يجد ذاته ويمارس قناعاته الفكرية والإيديولوجية، بحيث شملت الحركة العقائدي الإسلامي واليساري والقومي والوطني والشيوعي ..الخ، لأن شرط العضوية في الحركة هو الانتماء لفلسطين الهوية والقضية . وقد خلا البرنامج السياسي لحركة فتح من أي ذكر للقضايا الدينية أو العقيدية.

عرضت فتح برنامجها على المجلس الوطني، في20 يناير 1969؛ وكان يشمل خطوط الثورة الفلسطينية، ونجحت فتح من السيطرة على اللجنة التنفيذية للمنظمة، وتم انتخاب ياسر عرفات رئيساً لها، وهكذا استطاع برنامج فتح البسيط أن يزيد من الرصيد الشعبي والسياسي للحركة، الأمر الذي ساهم في تسهيل تحول الحركة نحو نهج النضال السياسي بشقيه الاستراتيجي والتكتيكي، بالرغم من المعارضة العنيفة التي واجهتها فتح داخل إطار "م.ت.ف". بينما النضال السياسي لحركة فتح ركز على الخيار السلمي بما يبقي الحركة في إطارها الوطني، فكانت فتح تربط كل خطوة للدخول في نهج الحلول السياسية بهدفها المرحلي المرتبط بمسألة حق تقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة كحد أدنى للنضال الفلسطيني.

يقود فتح لجنة مركزية ينتخبها المؤتمر العام للحركة ولها أيضاً مجلس ثوري يتألف من مسئولي وقادة الأجهزة والأقاليم والقوات، إلى جانب خمسة وعشرون عضواً منتخباً من المؤتمر العام وعشرة أعضاء من ذوي الكفاءات، تضمهم اللجنة المركزية، ويعتبر المؤتمر العام للحركة هو السلطة العليا ، وقد نجحت فتح بعض مخاض طويل من عقد مؤتمرها السادس في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية في أغسطس 2009، وأصدرت جملة من القرارات والتعديلات على نظامها الحركي وعلى عدد أعضاء اللجنة المركزية، حيث كان قد جرى انتخاب 19 عضوا فيها خلال المؤتمر السادس على أن يتم تعيين 3 من أعضائها، بجانب المجلس الثوري. كما للحركة نظام داخلي "النظام الأساسي"، الذي يعرفها ويحدد أهدافها والعلاقة بين أعضائها وأشكال المحاسبة، وهيكليتها التنظيمية والصلاحيات المنوطة بكل مستوى تنظيمي، وحددت مواد العضوية وأنواعها وشروطها واكتسابها، وحقوقها وواجباتها واستمرارها ، وهي سمة "الهرم التنظيمي" الذي يعتمد على مركزية شديدة في قضايا التشريع واتخاذ القرار.

المؤتمر العام: السلطة العليا في الحركة، يجتمع مرة كل ثلاث سنوات، ولا يجتمع بانتظام.

المجلس الثوري: يتكون من مسئولي وقادة الأجهزة والأقاليم والقوات، مجموع أعضاؤه (120).

اللجنة المركزية: القيادة المركزية للحركة، وتتكون من (18) عضو.

قوات العاصفة: القوات العسكرية وتتولى اللجنة المركزية تعيين قادتها.

كما أن لفتح عدة أجنحة عسكرية في تاريخها الطويل، أبرزها : "العاصفة وخلال الانتفاضة الأولى كان الفهد الأسود؛ والجيش الشعبي؛ وصقور فتح؛ وحالياً كتائب شهداء الأقصى" التي تعمل في مختلف أنحاء فلسطين، لكن الملاحظ أن الكتائب لا تلتزم دائماً بالسياسات المعلنة لحركة فتح، حول طبيعة العمل العسكري؛ حفاظاً على سرية العمل، والالتزام بنهجها التاريخي "الكفاح المسلح".

تركت أحداث أيلول 1970 الدامية أثارها على قوات فتح التي اتجهت إلى لبنان، حيث بدأت تعيد بناء نفسها متجنبة، قدر الإمكان تكرار تجربة الأردن، فاندلعت ما سميت "بحرب المخيمات" في شمال لبنان بين تنظيم فتح بقيادة عرفات ومنشقين عن فصائل أخرى أودت بحياة المئات. وعلى إثر خلاف سياسي بين قيادة المنظمة وسوريا أبعدت قيادة "م.ت.ف" وفتح من سوريا ولبنان الأمر الذي أدى إلى تراجع ملحوظ في البرنامج السياسي لحركة فتح والمنظمة عما كان عليه ؛ إلى أن تفجرت الانتفاضة الفلسطينية عام 1987فسارعت قيادة المنظمة إلى إيجاد صيغة وطنية فأنشئت "القيادة الوطنية الموحدة" للفصائل الأعضاء في المنظمة لتوجيه الانتفاضة، حيث اتجهت فتح إلى استثمار ورقتها للدخول إلى قاعات التفاوض؛ كما قال صلاح خلف في تبني برنامج سياسي جديد يعترف بقرارات (242،338) فيما سمي بإعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988، وعلى أبواب المجلس الوطني عبرت الفصائل بدقة عن مواقفها.

فتولى صلاح خلف "أبو أياد" عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الدفاع عن فكرة ربط الإعلان عن قيام الدولة بمبادرة سياسية تشمل الاعتراف بصيغة ما بالقرارين ٢٤٢ و٣٣٨ وقال: "قبل الانتفاضة كان لدينا برنامج مرحلي صار عمره ١٤سنة، ولم نفكر من قبل في تعديله وتطويره، أو في طرح أية مبادرة جديدة. والانتفاضة تدفعنا الآن للتفكير في هذا الموضوع الكبير". وعن تعديل الميثاق قال: "من السهل إلقاء الخطابات عن قدسية الميثاق الوطني الفلسطيني، ولكن علينا أن نفكر بالخروج من الجمود والتحرك باتجاه الدولة، فالدولة لن تأتينا من السماء والرفض المطلق لها يخدم الأعداء" .

وبعد توقيع اتفاقية أوسلو حسمت حركة فتح أمرها وقررت السير في خط المفاوضات، حيث وجدت نفسها بين نهج الثورة ونهج الكيان وهي تجربة جديدة دفعت ثمنها بإجراء تعديلات على الميثاق الوطني للمنظمة، والمتعلقة بإزالة إسرائيل من الوجود وما يتعارض مع اتفاق أوسلو. وتماهت حركة فتح في السلطة الفلسطينية بحيث بات من غير الممكن الفصل بين المنظمة والسلطة والحركة، مما ضاعف مسؤوليتها عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني، في حين ظلت فصائل العمل الوطني الفاعلة، تعمل من خارج إطار النظام فعلياً، وبعضها من داخل منظمة التحرير شكلياً. وواجهت فتح باعتبارها حزب السلطة، ضغطاً أكبر من الفصائل الأخرى بفعل تغيرات المرحلة وبروز المطالب الاجتماعية والاقتصادية وحاجات الحياة اليومية للناس في المناطق الفلسطينية، فلم تكن الحركة جاهزة بشكل تام لتقديم برامج تتلاءم والتغيير الحاصل نظراً لعدم وضوح الرؤية للمستقبل السياسي والجنوح إلى التمسك بما تم الاعتياد عليه. وربما يجادل البعض في أن الحركة لم تحيد ولم تلغ الكفاح المسلح كأداة من أدواتها في الصراع. ودليل ذلك دخول كتائب شهداء الأقصى وأفراد من الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومشاركة الفصائل الفلسطينية الأخرى في عمليات فدائية ضد القوات الإسرائيلية خلال أحداث النفق عام 1996 وانتفاضة الأقصى عام 2000.بالتالي لا نستطيع أن ننكر أن الحركة قامت وتقوم حتى اللحظة بممارسة المقاومة المسلحة. لكن حركة فتح لم تتقيد بايدولوجيا سياسية أو دينية معينة. كما قررت فتح أن يكون منصبي رئيس "م.ت.ف" ورئيس السلطة يشغلهما، كما كان في عهد الراحل ياسرعرفات، شخص واحد، فتم ترشيح الرئيس (محمود عباس) للرئاسة بعد وفاة عرفات وتولي روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي لمدة شهرين رئاسة السلطة.

بذلك يكون مر الفكر الفتحاوي بعدة مراحل؛ وهي: الفكر الثوري، ثم مرحلة الدولة الديمقراطية، يليها مرحلة البرنامج المرحلي، ومن ثم مرحلة انتفاضة الحجارة 1987، ومرحلة أوسلو والحل السلمي. أي أن النهج الفتحاوي يقوم على (الكفاح المسلح يزرع والكفاح السياسي يحصد).

بعد رحيل الرمز أبو عمار تعرضت فتح لأكبر أزمة مصير؛ فكان الرئيس محمود عباس هو الحل الفتحاوي الممكن والأفضل لحظة غياب عرفات، وسلمت له كافة الاتجاهات الفتحاوية والتفت حوله موحدة، وضمنت له الفوز في الانتخابات الرئاسية" . مرتكزة على التعددية السياسية، مع كل القوى الأخرى بما فيها منظمات الإسلام السياسي. غير أن الأحداث التي أدت إلى سيطرة حماس على قطاع غزة، والطريقة التي نفذت بها حماس "سيطرتها العسكرية"؛ عام 2007 قد أصاب جميع قطاعات فتح بالصدمة، ووحَّد عناصرها ضد ما رأته ضربة مهينة لها وللعمل الوطني المشترك وللمشروع الوطني برمته.