لم يكن الإسرائيليون يعلمون أن محمود المبحوح سيقاتلهم حياً وشهيداً، وأنه سيلاحقهم في حياته ومماته، وأنهم لن يرتاحوا منه حياً فوق الأرض أوميتاً تحتها، فقد ظنوا أنهم باغتيالهم له قد وضعوا حداً له، وأوقفوا مسيرته، وأسكتوا صوته الهدار، وحالوا بينه وبين الاستمرار، وأنهم اطمأنوا على مشروعهم من الانهيار، وظنوا أنهم من بعده سينامون قريري العين، هادئي النفس، ولا يوجد من يقلقهم، ولا من يزعزع أمنهم، ولا من يهدد كيانهم، ولكن المبحوح المسكون بالمقاومة، والحالم بالنصر، والطامح إلى الشهادة التي نالها عزيزاً، لن يسكت عن قتالهم، حتى ولو وري الثرى، وسكن التراب، فسيبقى سلاحاً يلاحقهم ويقاتلهم، وشبحاً يطاردهم، فقد مضى عامٌ على اغتياله ولكن قضيته مازالت حاضرة، وجريمة اغتياله مازالت نتائجها تتابع وتتالى، والإسرائيليون الذين ارتكبوا جريمة اغتياله أصبحوا ملاحقين ومطلوبين.
عامٌ مضى على استشهاد محمود المبحوح وحيداً في غرفته بدبي، بعد محاولات كثيرة لقتله، ومساعٍ محمومةٍ لوضع حدٍ لحياته، ولكن الإسرائيليين الذين تكاثروا عليه لقتله، وجاؤوا له من كل مكانٍ عله يخشاهم، وجمعوا له عدتهم لينالوا منه، لم ينجحوا في طي ملفه، ونسيان اسمه، وإطفاء جذوته، واسكات صوته، فما زالت قضيته حاضرة، وجريمة قتله ساخنة، وتفاصيلها تظهر كل يوم، معلناً من شهادته فشل جهاز الموساد الإسرائيلي ورئيسه السابق مائير داغان، في إخفاء جريمتهم، وإنكار فعلتهم، فقد ظنوا أنهم بقتله سينهون مهمته، ويفشلون خططه، وسيقضون على الحلم الساكن في قلبه، ولن يسمع عن جريمتهم أحد، ولكنه كان لهم كطفل الإخدود، الذي قتل لتحيا من بعده أمة، عزيزة أبية، تسقط الباطل وأهله، وتؤمن بالله وتعبده وحده في أرضه، حيث لا ظلم ولا جور، ولكن عدلٌ وسلام.
محمود المبحوح لم يكن فلسطينياً عادياً، ولا مقاتلاً ككل المقاتلين، رجلٌ لم يعرف اليأسُ طريقاً إلى نفسه، ولا الخوف سبيلاً إلى قلبه، لا يوجد في قاموس حياته شئٌ اسمه صعبٌ أو مستحيل، ولم يكن يعترف بقوةٍ أقوى من إرادته، ولا عزماً أشد من عزمه، فقد آمن بشعبه وأمته، وأيقن بقدرات شعبه، وإمكانيات أمته، فطاف الدنيا بحثاً عن كل سلاح، ساعياً وراء كل أسباب القوة والتحدي، ولم يكن حينها يحلم بالخيال، أو يفكر بالمحال، بل كان يؤمن بحتمية النصر، واليقين بهزيمة الإسرائيليين ورحيلهم، وأنهم لن يبقوا في أرضنا خالدين، ولحقوقنا غاصبين، ولكن الأحلام تصدقها القوة، ويثبتها العزم والمضاء، وهو ما آمن به الشهيد محمود المبحوح، فاليوم ينبغي أن نكون أوفياء لدمه وروحه، فننتقم له ممن قتله، ونثأر له من عدوه، ونجبر قاتليه على الندم، ليعرف أنه أخطأ إذ قتله، فهذا رجلٌ ينبغي الثأر له ممن غدر به وقتله، فلا نسكت عن الجريمة، ولا نقبل بالذلة والهوان ونستكين، ولا نسمح لعدونا بتكرار الجريمة، ولنجعل من دم المبحوح سداً لكل الدماء، ودرءاً لكل الأرواح، وهو الذي كان يحلم بالانتقام، ويفكر بالثأر، ويضع الخطط لتحرير إخوانه من السجون والمعتقلات، ويرى أن يوم الحرية قادم، وأن الفجر آتٍ لا محالة، فحتى لا نبكيه في ذكراه بكاء النساء، ونكون له في حزننا أوفياء، كحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسد الله حمزة بن عبد المطلب، فيجب أن نثأر لمقتله، وأن نقسم بالله العظيم أن نحرق قلوب قاتليه، وأن نفتت أكبادهم حزناً وكمداً.
في الذكرى السنوية الأولى للشهيد محمود المبحوح نستذكر معاً حياته العامرة بالجهاد والمقاومة، المليئة بالقصص والحكايات، إذ لم يكن على لسانه غير أحاديث القوة، وسير المقاومة، وهو الذي لم ينسى أستاذه وقائده، الشهيد الأغر صلاح شحادة، وأذكره صبيحة اليوم الذي استشهد فيه صلاح، يصرخ بعالي صوته، ويبكي بحرقة الرجال، ويلوح بقبضته في الهواء، أن صلاح لم يمت، وأنه لم يقتل، رافضاً أن يقر بغيابه، فهو القائد العسكري الأول، الذي خطى معه خطواته الأولى في المقاومة، وكان يخطط معه لمواصلة المسيرة، واستكمال الطريق، فأقسم بالله أن ينتقم له، وأن يملأ الأرض سلاحاً وفاءاً له، وقد كان له ما أراد.
ونذكر النصف الأول من عام 1989، بعد نجاحه وإخوانه في خطف جنديين إسرائيليين، عندما أحال الجيش الإسرائيلي قطاع غزة كله إلى ثكنةٍ عسكرية، وهو يلاحق خلية المقاومة التي قامت بخطف جنوده، فأذكره وهو يجوب مخيم جبالياً، ويزور أهله في تل الزعتر، وينتقل من بستانٍ إلى آخر، ويركب سيارة ويترجل من أخرى، والمخابرات الإسرائيلية تكاد تصاب بالجنون والخبل، وهي لا تعرف كيف يتحرك، وكيف يتنقل، ولم يتبادر إلى ذهنها أنه يلاحقهم ويتابع خطواتهم، وأنه يقف على بعد أمتارٍ منهم، ولو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآه، ولكن الله خذل عنه، وأعمى أبصارهم وبصائرهم عنه، فبقي يلاحقهم ولا يلاحقونه، ويطاردهم ولا يطاردونه.
في ذكراه الأولى نعتذر له عن كل تقصيرٍ في حقه، ونقدم له الأسف عن كل إساءةٍ لحقت به، وعن كل ظلمٍ وقع عليه، فقد أساء إليه كثيرون، وظلمه آخرون، فلم يعرفوا فضله، ولم يقدروا شأنه، وظنوه كغيره من العابرين، لا أثر له ولا قوة ولا فضل، ولكنه سما بأحزانه، وعض على جراحه، وصبر على محنته، وتحمل الأذى ممن يحب ويكره، فلم يحقد ولم يغدر، ولم ينشغل بهم عن هدفه، وهو الذي لم يكن يعرف غير إسرائيل عدواً، وغير فلسطين ساحةً للقتال والجهاد والمقاومة، فرحل وهو نجم سامٍ، وروحٌ مباركةٌ ترفرف في حواصل طيرٍ خضرٍ، في قناديل معلقةٍ تحت عرش الرحمن.
قد ودعناك أبا الحسن شهيداً كما أحببت فطوبى لك، وجففنا الدمع من مآقينا التي ذُرفت حزناً عليك، ولكن من بعدك سيحفظون عهدك الذي قطعت، وسيواصلون دربك الذي بدأت، وأنت القائل، لا راية تسقط إلا وترتفع رايةٌ أكبر منها، ولا قائد يرتقي، إلا ويظهر غيره قادةٌ كبار، يحفظون العهد، ويستأنفون المقاومة، ويكونون على عدوهم أشد وأنكى من سلفهم، فطب نفساً أبا الحسن، وقر عيناً حيث أنت اليوم في جنان الخلد، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الأنبياء والصديقين، وكن لنا يوم القيامة شفيعاً، فأنت سيد الشهداء، ودرة الرجال المقاومين، وقد منحك الله ما أحببت وتمنيت فهنيئاً لك.
0 comments:
إرسال تعليق