في وداع القس الوطني شحادة شحادة: وداعــا يا محترم/ د. حبيب بولس

في قرية متواضعة على شمم، هادئة على ثورة، نشأت أيها القسّ الوطني الحبيب. وحين شببت كانت قريتك كفر ياسيف تغلي وتتفور وتتخلق فيها حركات وطنية تناطح قرون الوعل، فذوّت كل ذلك وأنت بعد في عمر الورود، وحملته في القلب بوصلة، وعلّقته بالعنق أيقونة، ورحت تشق الطريق، طريق الحياة بثبات وصبر وإصرار، حتى كان لك ما تريد، فصرت كاهنا يكهن في بيوت الله وخادما للاهوت وللناسوت، فطوّفت وراء الخدمة والعلم والعمل وتنقّلت في أماكن عديدة، عايشت فيها مع أهلها ذل القهر والفقر والعوز، وذلّ الاحتلال والظلم والقمع، والغوص في جحيم المقلاة، فترسّخت قناعاتك وتأكدت من صحة مواقف أهل قريتك. وقادتك تجربتك على سعتها وغناها إلى الانحياز لفقراء الوطن، فنذرت عمرك تدافع عنهم وتخفف آلامهم وتمسح دموعهم، وتزرع لهم على أوتارالقلب البلابل والحساسين لتطرد الهمّ والوجع، ولتزرع البسمة والأمل. واهتديت بحسك السليم إلى التيار الوطني الثابت والصادق تيار الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة فالتحمت به وصرت أحد أعلامه ومأثرة من مآثر نضاله، فقدت شعبك نحو يوم الأرض الخالد ونحو معارك الكرامة. وقلبت لنا بذلك المفاهيم، لأننا قبلك كنا نعتقد أيها الحبيب أن رجل الدين أسير مذبحه ورعيته، محاصر بوعظة في يوم أحد، أو في يوم عيد، مكبّل بصلاة جنازة أو قداس إكليل، فعلّمتنا أن الكهنوت إلى جانب ذلك مزامير كفاح وأناشيد نضال وأناجيل تحدّيات ومقاومة واصرار.
في سعيك الدؤوب الجامع بين الدين والوطن، بين اللاهوتي والنّاسوتيّ، رحت تلملم أشلاء المتبعثر فينا وتجمع أطراف المتخالف وتصل أجزاء المتناثر والمتلعثم والمتشظّي، تارة بوعظاتك الدينية، وأخرى بمواقفك الوطنية، وثالثة برؤيتك الثورية الناضجة، تلك الرؤية التي فهمت وتفهّمت أننا شعب كم ألف الحزن والقهر واحترف الانتظار، وعايش أزمنة العهر. لقد وعيت منذ حداثتك كم أرادوا لنا في هذا الزّمن العربيّ الرديء أن نغرق في مستنقع من الذلّ، وأن نغوص في سبخةٍ من الخنوع، وأن نقبع تحت ركام من العجز والجهل، ولكنك لم تقنع بما كان، ولأنّك مؤمن رأيت بصفاء إيمانك ونقاوة قلبك، أنه كان صباح وكان مساء وكانت الرحلة المضنية التي خرجنا بعدها مرفوعي الهامة وأزلنا بترشيدك وبترشيد زملائك في الهم والكفاح غبار السنين عن وجوهنا، ونفضنا ركام الأيام عن أجسادنا، وأسقطنا عن وجوه صفراء كالحة الأقنعة. كان صباح وكان مساء يا أبا سمير، وكان رجال منا يعدّون عدّتهم، يتعلمون رغم الحصار، يتثقفون رغم الأسوار، ليغزلوا لشعبهم قصيدة أمل، ولينسجوا لوطنهم تعويذة وثوبا من خزٍّ، وليعيدوا لواقعهم الذي تشوّه رونقه، لأنهم عرفوا منذ البدء أنهم ليسوا نبتا شيطانيا نشأ من فراغ وفي فراغ، إنما على بيدر شعبهم حبَوا صغارا، وعلى جذعه الصلب شحذوا المناقير.فمكافأة لهذا الشعب، وردّا لبعض جمائله كان العطاء دافقا كما الزيتون، شهيّا كما العنب، غزيرا كما القمح، وكان لك أيها المحترم دور فاعل مشرف في رحلة العطاء هذه لعاملين: ذاتيّ وقوميّ وطنيّ. فعاملك الذاتي انطلق من قوله شاعرنا: "ولا تحسبن المجد زقّا وقينة..." على هذا درجت في بيتك المتواضع، وفي قريتك الصامدة صغيرا، وعليه تربيت وتثقّفت. أما عاملك القوميّ الوطنيّ فتجلى في حبّك لشعبك ولوطنك ووفائك لهما، ذلك الوفاء الذي يقطر روعة ويفيض أصالة. الوفاء الذي زاوج بين الخدمة الكنسيّة والخدمة الوطنية، والذي قادك إلى أن تنقش الحب لشعبك على شغاف القلب علما وتثقيفا، إيمانا منك بأن ذلك يلهم ويستنفر ويدفع نحو الشمس رغم جحيم المقلاة. بهذا العطاء المزدوج والوطني حرثت حقلا وعرا، وبذرته برؤاك المتفتحة ورويته بدم شرايينك حتى غل الحقل رُسُل محبة وسفراء سلام وجنود عدل وحق. من هنا أولا حق لنا جميعا أن نفخر ونفاخر، ومن هنا ثانيا نقول: انك بما قدمت وبما عملت تصبح جديرا بمحبتنا وجديرا بأن نبكي عليك، لأنك رجل تربى على ثوابت راسخة وتأسس على مثل وقيم، وبُني على قواعد ونواميس تقول:" لا تحسب المجد تمرا أنت آكله- لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا".
رجل مثلك يا أبا سمير أيّها القسّ الوطنيّ الصّادق الأصيل جدير بمحبتنا، وجدير بأن نشعر بفداحة خسرناه. رجل مثلك سعى إلى الرفعة والى مطاولة أعنان السماء من خلال عمله المتلاحم الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بشعبه وبقضيته العادلة جدير بأن نبكيه. فمن كان مثلك أيها الحبيب راسخا كالطود، واثقا من عمله، لا يترفع ولا يتسامى، ولا يغتّر ولا ينخدع، ولا يؤمن ب "خدعوها بقولهم حسناء"، من كان مثلك متواضعا على كبرياء- قانعا على طموح، واثقا من خطاه، من نهجه من رسالته، لا يتذمر ولا يتململ ولا يتشكّى ولا يتشهى ولا يتغيّا مركزا، بنى نفسه بنفسه بعصامية وعزيمة وهدوء، لا بضجة وضوضاء وصخب. من رسّخ أقدامه في مستنقع القهر فشب على الطوق وركل صلعة هذا الدهر، قائلا:" لا يدرك المجد إلا سيد فطن- لما شقّ على السادات فعّال". رجل كهذا من أمثالك جدير بأن يلتف حوله الأصدقاء والمحبّون في حياته وفي مماته.
أبا سمير، من نذر نفسه للتضحية وللتفاني في خدمة رعيته ووطنه وشعبه، من يدفع نحو العزة والكرامة والتسامح والألفة، جدير بالاحترام.
رجل مثلك ملأ الفضاء وطنية صادقة ومواقف مشرّفة ورصف الدنيا مفاهيم ثورية ناضجة تجمع وتؤلف، رجل يكرر صباح مساء:" لا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ولا تباغضوا ولا تنابذوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا". رجل يعظ كلّ يوم: "إذا الرعاة اختلفوا تجرّأ الذئب"، رجل تؤلمه الفرقة، يدعو إلى التسامح مع العمل إلى المحبة مع الإخلاص والى الإيمان مع النضال، رجل مثلك لا يعرف القنوط إليه سبيلا، تسربل بالمحبة وبالتفاؤل، كيف لا يكون جديرا بمحبّتنا وباحترامنا.
معجزتك أبا سمير تجلّت في كونك وأنت ترفع راية النضال وتخوض معارك الكرامة ما نسيت كهنوتك، بل خدمت السماء والوطن بأمانة. من هنا احترمك الجميع وأجلّوك ومن هنا ثانية كان فراقك السّريع خسارة. ولكن ثقْ بأننا سنواصل المشوار، فالبذرة التي زرعتها نمت وكبرت وحتما سنكمل الدرب، درب النضال كي يصل شعبنا إلى الواحة الخضراء. وهناك حيث ضجّة الأضواء وأعراس السنابل ومواكب الفرح لن ننساك أبا سمير. فرجل مثلك جمع النضال والإيمان وأحبّ الناس وأحبّوه، وأخلص لقضيته ورسالته، رجل مثلك تجمعّت فيه هذه الخصال الطيّبة حتى صار تركيزا لها، ومفردا بصيغة جمع، ما مات، ما مات، ما مات.
خسارتنا فيك فادحة، لكن عزاؤنا فيك عائلتك الصغيرة وعائلتك الجبهوية الكبيرة، وشعبنا كلّه. الله اسال أن يسكنك فسيح جنّاته وأن يسبغ عليك كثير رحماته، وأن يلهمنا بعدك وذويك وأصدقاءك وزملاءك في النضال الصبر والسلوان.
ونحن وأنت وشعبنا وشمس الحرية والوطن على ميعاد، على ميعاد.
نم قرير العين.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ومحاضر جامعي

CONVERSATION

0 comments: