إن المتتبع لمجريات الأمور في العالم العربي بشكل عام, وعلى الساحة الشرق أوسطية على وجه الخصوص, يدرك بأن أية رياح لتغيير الأنظمة ما كان لها أن تنجح إلا إذا كانت مدعومة بقوة مساندة وعوامل تم تهيئتها تتغير بتغيير الظروف والوقائع, وحيث أن ما يعانيه العالم العربي من انحطاط على كافة المستويات منذ عقود لم يكن إلا نتيجة للتحالف الاستعماري الذي جاء برياح التغيير في الحرب الأولى بعد أن أشبع هذا التحالف تلك الرياح بغيوم رسموها بألوان العروبة والدين, فان ما نشهده اليوم من رياح تغيير الأنظمة العربية ما كان لها أن تتم أيضا ما لم تكن مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية كقوة استعمارية في ظل عالم أحادي تتحكم في كل ما تشاء,حيث نجدها تدفع هي الأخرى كوريثة للتحالف الاستعماري القديم برياح إعادة صياغة الأنظمة العربية بما يحقق نظام شرق أوسطي تستطيع إسرائيل من خلاله بناء دولتها الكبرى .
إن معرفة الاتجاهات التي تسلكها رياح التغيير وانعكاساتها على المناطق التي ستصلها وفق المنخفض الذي تم الإعداد له والتهيئة له يستوجب منا أن نحاول معا استقراء الأسباب التي هبت فيها أول رياح تغيير على العالم العربي والإسلامي,ولماذا أفرزت تلك الرياح في حينه أنظمة شمولية مواليه للاستعمار وركائز جديدة تخدم مصالحه الآنية والمستقبلية؟.
كما علينا أن نعرف الأسباب التي أدت إلى هبوب رياح التغيير السريعة لتغيير الأنظمة الشمولية؟, بعد أن كانت تلك الأنظمة وفية لصانعيها ,حيث إننا نجدها اليوم ما بين رياح من صنعتهم وغضب من استعبدتهم,وما هي الأسباب التي حملت الإدارة الأمريكية بتغيير قواعد لعبة الرياح بان تجعل من الجماهير العربية نفسها هي من تحرك اتجاهاتها بعد أن كانت تلك الجماهير في حالة عبودية لأنظمتها بطلب منها وفقا للعبتها القديمة؟ وهل يمكن أن تأتي هذه الرياح بنتائج عكس ما تم التخطيط إليها ؟.
لنحاول الإجابة على تلك التساؤلات وذلك بعد إعطاء لمحة عن رياح التغيير التي جاء بها التحالف الاستعماري على مر العقود وذلك تحت مسميات مختلفة ولنبدأ من حيث بدأت تلك الرياح في إلقاء أعاصيرها التدميرية للهوية العربية الإسلامية وتذويب انتماء جماهيرها لعقود خلت:
رياح العروبة والدين:
كانت دولة الخلافة العثمانية بنظر الانجليز عقبة تقف في طريق توسعهم واستعمارهم, ولذلك تم الاتفاق في مؤتمر كامبل الذي حضرته الدول الاستعمارية في حينه على تجزئة الولايات الإسلامية والإبقاء على تفككها , والعمل على فصل الجزئيين الأفريقي والأسيوي عن الآخر وإقامة حاجز بشري قوي وغريب في نقطة التقاء الجزئيين يمكن للاستعمار أن يستخدمه أداة طيعة في تحقيق أغراضه.
إن حركة الاستعمار المتنافسة في حينه قد استطاعت جذب الهاشميين والصهيونيين للعمل خدمة لمخططاتها التي تم الاتفاق عليها في مؤتمر كامبل, والذي تقرر فيه إنهاء الدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها في الوقت الذي كان فيه العداء المشترك للدولة العثمانية بمثابة بداية تحالف مشترك بين هؤلاء جميعا بهدف القضاء على تلك الدولة وصولا لأهداف تطلعوا إلى تحقيقها، فالهاشميون كانوا يتطلعون لبناء دولة عربية في ظل زعامة هاشمية ، في حين تطلع الصهيونيين إلى تحقيق حلمهم في بناء الدولة اليهودية ، ولا يمكن تحقيق كل من تلك الدولتين الهاشمية والصهيونية لتحقيق المصالح الاستعمارية دون انهيار الدولة العثمانية وتجزئتها كما سعى إلى ذلك الغرب الصليبي منذ مئات السنين, ولذلك تم الإعداد لرياح التغيير فكانت العروبة هي عنوان تلك الرياح لإنجاح ما تطلع محركيها إلى تحقيقه .
من هنا بدأت معالم المنخفض الذي بدأت أثاره في الحرب العالمية الأولى لتنفيذ هذا المخطط ولذلك كان لا بد من تهيئة العوامل المساندة لإنجاح ذلك المخطط بإيجاد ما سمي في حينه الثورة العربية الكبرى التي البسوا رياحها رداء العروبة والإسلام وقد نجحت في حينه الدول الاستعمارية بما سعت إلى تحقيقه فجاء الانهيار السريع للدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها والإعلان عن تأسيس الركائز الاستعمارية الجديدة لحماية المصالح الاستعمارية وحماية دولة إسرائيل الموعودة ومنع أي اعتداء عليها ,كما كان إنشاء الكيانات الخليجية بعد أن كانت قبائل بدوية متناحرة في الصحراء وذلك ثمن ملاحقتهم لجنود الدولة العثمانية والإغارة على قوافلهم العسكرية وطعنها من الخلف .
رياح الانقلابات العسكرية لإنهاء المد القومي والتحرري :
لم تخلو الدول العربية في تاريخنا المعاصر من الانقلابات العسكرية رغم اختلاف ظروف كل منها وتسمياتها والأهداف المرجوة منها, فمع انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية وتيقظ الشعور الثوري في الشارع العربي والإسلامي نتيجة المخططات الاستعمارية التي اكتشفتها الجماهير العربية في وقت متأخر كان لا بد من إيقاف هذا المد وانحساره ,فجاءت موجة الانقلابات العسكرية بحجة القضاء على الدكتاتوريات تارة ,وتارة أخرى بحجة القضاء على الدعم النازي لبعض الكيانات , ولم تتوقف تلك الانقلابات,بل أنها كانت تأتي بالتتالي كلما دعت الحاجة الاستعمارية إليها, وذلك حتى بداية العقد السبعيني ,فإذا ما كانت الانقلابات التي تمت بعد الحرب الثانية قد تمت لإنهاء المد الثوري كما حدث لثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الركيزة الاستعمارية فيه, فان الانقلابات التي تمت بعد نكبة فلسطين كانت أيضا للحفاظ على الدولة اليهودية التي تم إعلانها بعد سيناريو حرب ال1948, ولم تكن ثورة مصر في حينه التي البسوها رداء العروبة أيضا أن تتمم لولا أن هيؤا لها عوامل إنجاحها بحجة الانقلاب على النظام الملكي الفاسد في الوقت الذي كان فيه الملك فاروق يعمل جاهدا لفضح المتآمرين على فلسطين وسعى صادقا إلى تحريرها .
ومع إعادة الشعور الوطني ورفض تلك السياسات وبداية انحسار الأنظمة والكيانات الاستعمارية في ظل النفوذ الفدائي وتصاعد عملياته جاء الانقلاب العلوي سريعا على الحكومة التي أعطت الأوامر بحماية المد الثوري حيث استطاع حافظ الأسد وفقا للأوامر الأمريكية في حينه بالاستيلاء على مقاليد الأمور في سوريا للمساعدة في الحفاظ على الركيزة الاستعمارية في شرقي الأردن بان أوقف الإمدادات التي كانت في طريقها إلى حماية الثورة الفلسطينية هناك .
رياح التغيير لبناء الشرق الأوسط الجديد
بعد الانفراد الأميركي في العالم والاتجاه نحو إعادة صياغة التوازن الدولي بطريقة شاملة وفق رؤية تخدم مصالحه الجديدة كان لا بد من الاتجاه نحو إعادة صياغة الأنظمة العربية عمليا لإقامة نظام شرق أوسطي بديل عن النظام العربي, إلا أن أميركا لم تجعل ذلك يحدث بالتوافق مع ما كان يحدث في جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا , لان الظروف لم تكن مهيأة للحفاظ على إسرائيل في حالة سقوط تلك الأنظمة ,ولذلك كان لا بد من الإعداد للثورات على تلك الأنظمة التي حمتها لعقود من اجل إعادة فك وتركيب الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة من حيث زوال دول أو تقليصها جغرافيا، اوإقامة دول أخرى جديدة على أقاليم مستقطعة من هذا الكيان أو ذاك, ولم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر باعتقادي إلا مقدمة لهذا التغيير وإعادة بناء المنطقة يقوم أساسه على الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقة سياسية وإستراتيجية معها والعمل أيضا على إنهاء الجامعة العربية كمنظمة إقليمية ذات طابع قومي وصولا لتسوية القضية الفلسطينية سياسيا، وبما يتماشى مع الرؤى الإسرائيلية والأمريكية، وبما يحقق أمن إسرائيل المطلق وهيمنتها الإقليمية.
إن النجاح الأميركي في إسقاط هذه الأنظمة بالتتابع ما كان له أن يحدث سريعا إلا بتوفير عوامل مساعدة ومن بينها تعزيز مؤسسات المجتمع المدني في الدول المرشحة لإسقاط الأنظمة فيها , بالإضافة إلى الجيوش العربية نفسها حيث إننا نلاحظ بان من يحرك الجماهير العربية اليوم ليست الأحزاب التي اكتوت بنار تلك الأنظمة لأنها فقدت هي الأخرى مصداقيتها لارتمائها في أحضان الأنظمة ومغازلتها بين الحين والأخر, بل إن الحركات الاجتماعية التي قامت أميركا بتغذيتها ومدها بأدوات الدعم باسم الجمعيات الأهلية ومؤسسات حقوق الإنسان هي التي تقوم بذلك فأصبحت المحركة لعواطف الجماهير بعد دغدغتها لمشاكلهم والمطالبة بتحقيق احتياجاتهم وقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا منذ مجيء بوش على الاتصال المباشر بقادة الجيوش العربية لتتويج تلك النجاحات واستثمار رياح التغيير فكان شراء الذمم والو لاءات للقيادات تلك الجيوش بما يحقق متطلباتها عندما تقرر تلك الإدارة عزل أنظمتها الشمولية الفاسدة وتركهم دون حماية من شعوبهم بعد إتمام لعبة إسقاطها وهذا ماحدث من الجيش التونسي ويحاول الجيش المصري الآن تكريسه بعد أن طلبت منه الإدارة الأمريكية رسميا بالتدخل تحت مسمى ضبط الأمن.
باعتقادي بان جميع الرياح التي هبت وما زالت تهب على المنطقة العربية ما هي إلا رياح صناعية اعد لها إلا ستعمار بتعاقب مسمياته وألوانه بعوامل تحريكها أدت إلى تقسيم المنطقة وفق أهدافها ومصالحها ,وأفرزت ممالك ومشيخات ككيانات استعمارية تقوم على حماية تلك المصالح , كما إن ما نشهده اليوم من رياح تهب سريعة على منطقتنا العربية ما هي إلا لتحقيق بذور الانقسام والتشتت والانفصال للتيه سنين بحثا عن الذات والهوية وإشغالنا بهموم داخلية وقضايا هامشية تأخذنا بعيدا عن مواجهة أية أخطار كان تحاول إسرائيل أن تعيد تنفيذ أحلامها وتحقيق دولتها الكبرى وإن ما يحدث الآن في السودان ، لبنان ,اليمن, وفي مناطق السلطة الفلسطينية, وربما دول الخليج غدا إلا المقدمات لما نتخوف منه.
إن ما نراه اليوم من تغيير تلك الأنظمة الشمولية لوجودها بين رياح من صنعتهم وغضب من استعبدتهم, إلا الخطوة الأولى نحو تحقيق تلك الأهداف, وان ما نلمسه اليوم من قناة الجزيرة يذكرنا بما قامت به الأقلام العربية المأجورة التي طالبت قبيل الحرب العالمية الأولى بضرورة إنهاء دولة الخلافة الإسلامية باسم العروبة ,كما إن ما يصدر عن القرضاوي اليوم من تصريحات يذكرنا بما قام به بعض علماء المسلمين في التحريض على دولة الخلافة ووجوب مقاتلتها جنبا إلى جنب مع الجيش الاستعماري عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ,فهل يمكن لأميركا وأدواتها في المنطقة أن تنجح في إعادة بناء الأنظمة العربية وفق ما يخدم مخططها الجديد؟, أو أن هذه الرياح ستأتي بنتائج عكس ما تم التخطيط إليها فهذا ما ستحمله لنا الأيام القادمة والأيام دوما حبلى بالمفاجآت ؟.
0 comments:
إرسال تعليق