ان اصالة أي شعب تكمن في تراثه ، ومن ليس له ماض فليس له حاضر ولا مستقبل ، وبناءً على ذلك هناك اهمية لجمع تراثنا الشعبي الفلسطيني ، بكل الوانه وصنوفه بما في ذلك الشعر الشعبي ، من ميجنا وعتابا ومعنّى وأبو الزلف . هذا التراث الذي نحن بأمس الحاجة اليه ، أمام موجات العدمية الثقافية ومحاولات مسخ وتشويه وتزوير تاريخنا الكنعاني مما يجعلنا نشعر بجفاف الريق الحضاري .
ان تراثنا الشعبي الفلسطيني وخاصة الأغاني والأهازيج الشعبية ، مرتبطة بالوطن والارض والانسان ومشحونة بالصدق والبساطة والعاطفة القوية وتقوي شعور الانتماء الوطني لدى الانسان الفلسطيني وتعبّر عن اماني وآمال وتطلعات الشعب القومية واليومية واحلامه المستقبلية ، ولهذا احبها الناس وتناقلتها الألسن وحفظتها ذاكرة الجماهير .
ان الشعر الشعبي ينبثق من اعماق البيئة الريفية والاجواء القروية التقليدية ، ومن صميم المناخ الشعبي الرعوي الفلسطيني ، ومن قلب الارض الفلسطينية ، ويرسم أجمل المشاهد لحياة الناس العاديين ويعيدنا الى اجواء القرية ، الى البيادر وعيون الماء وطابون الخبز والساحة والازقة والشرفات والشبابيك التي شهدت قصص الحب بين العشاق والمحبين وحفظت اسرارها ، وهذا الشعر يتسم بالصدق الشفاف وحرارة التعابير وجمال الصور المنزوعة من انفاس البيئة وأخلاق الشعب وروحه وعاداته وتقاليده المنغرسة في الوجدان ، وقربه من الذائقة الجمالية للشعب .
ومن ابرز الشعراء الشعبيين الفلسطينيين الذين ساهموا في ارساء وتطور الشعر العامي الشعبي في بلادنا ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر كلا من : محمد ابو سعود الاسدي ، ابو الامين توفيق الريناوي ، ابو غازي الاسدي ، ابو عاطف الريناوي، ابو نازك ، ابو عصام الميعاري، عوني سبيت، علي صنع اللـه ، رشيد مناع، سعود الاسدي ، علي السخنيني، يوسف سعده، غانم الاسدي ، تميم الاسدي، ابو عابد ، ابو حسيب خليلية ، فضل دراوشة ،هشام منصور ، فواز محاجنة ، بالاضافة الى يوسف أبو ليل – موضوع حديثي- وكثيرين غيرهم .
يعد يوسف ابو ليل من اعلام الشعر العامي المحكي والحداء والزجل الشعبي . عرفته الاوساط الجماهيرية من خلال الاعراس والأفراح ، ولم تبق قرية او بلدة عربية الا وغنّى على بيادرها وفي ساحاتها وشوارعها واحيائها ، وكان له شعبية واسعة ، واذكر جيداً كيف كان يحمل الميكروفون ويحجل كالقطا بين صف السحجة ليطرب الحاضرين .
ولد ابو ليل ولا يزال يعيش في قرية كفر قرع ورأس مجلسها المحلي لعدة سنوات بعد اعتزاله الحداء والغناء قبل اكثر من عقدين ونصف . وقد حبب الغناء الى ولديه (د.صالح وحميد ) الذين اقاموا الفرق الموسيفية والغناء في حفلات الاعراس وحققوا نجومية وانتشاراً على الساحة الفنية المحلية .
وكان ابو ليل بحاجة الى التجاوب الشعبي العميق حتى يفيض نبع قريحته فتتدفق الكلمات على لسانه في انسجام ما بين المعنى البسيط واللغة المحكية والموسيقى الناعمة فيهز طرباً ، ويملأ سماء القرية بالنشوة والفرح الغامر وحب الحياة .
غنى ابو ليل للناس ، للوطن ، للحرية، للعامل ، والفلاح والسهل والجبل والوادي والجليل والمثلث والكرمل والخطاف ولابناء الحارة ، وحيا شعبنا ودعاه للتمسك بالقيم الاجتماعية العليا ، كالجود والشهامة والعصامية والتسامح وحب الخير والنخوة العربية .
اشتهر ابو ليل بالأغاني الفولكلورية بالقصص والحكايات الشعبية كقصة نوف وحكاية "ابن شعلان" التي تروي قصة غرام فيها الالم وحرقة الشوق والتضحية والفروسية .. ويقول مطلعها:
غابت الشمس يا ابن شعلان واريد ادور معازيبي
والدلة تسكب على الفنجان وبهارها جوزة الطيب
يا ولد يا ابو ثمن قمصان يللي على صدرك نياشين
يا عنتر يا فداك الفرسان يا ريتك تبقى من نصيبي
الى ان تنتهي بهذين البيتين :
صلوا ع طه النبي المختار يشفع لنا من يوم لغبار
تمت القصة وصاراللي صار انشاء اللـه تكونوا مبسوطين
ولأبي ليل قصائد قالها في الوطن ، ومفعمة بالعبق الفلسطيني ، منها قصيدة "اعذريني يا بلادي" التي يتغنى فيها بوطنه وبلاده التي اعطاها مهجة قلبه وروحه ، نختار منها هذه الأبيات :
اعذريني عالمحبة يا بلادي عطيتك مهجتي وروحي وفؤادي
عطيتك لهفة الام الحنوني وعطيتني المحبة والسعادي
لو انهم بالسلاسل قيدوني عصروا دمي خذو مني رشادي
لو انهم عن اولادي ابعدوني ورموني بأرض قفرا وقاع وادي
قبل الشمس تطلع عا عيوني بناديك قبل ما انده عا ولادي
عجينة تمر ارضك احرموني نسوني الزرع وغمور الحصاد
بسهلك كنت ازرع كل موتي وطليق امشي مثل عصفور شادي
على جبالك الكرمة والزيتون وعا زهر اللوز غنى كل حادي
على الشلال كانوا يسمعوني العذارى وكل حلوة وكل غادي
الى ان يقول:
على تربة بلادي اقبروني الوطن وارض الوطن غالي علي
وبدّي اموت على تربة بلادي
لقداقام ابو ليل صف السحجة / حولم / وخيلنا تدوس المنايا خيلنا/ عاش العامل والفلاح/ وع الكعبة اذّن بلال وغيرها من الطلعات الرنانة ، حيث كان يدور ويلف في الوسط وكان الصف يموجاً طرباً وفي مقدمته اصحاب الحطات والعقل والقنابيز العربية .
وفي النهاية ، فاننا نحن ونشتاق لسماع هذا الصوت الجميل ونغماته الحلوة ، ورنة صوته والاوف الطويل الذي اشتهر به ، وما احوج الغناء الشعبي الفلسطيني الى اصوات قوية كصوت ابي ليل ، الذي سيظل اسماً ساطعاً في عالم الفن والزجل الشعبي . ويا حبذا لو عمل ابناؤه على جمع وتدوين اغانيه واشعاره وقصائده واهازيجه التراثية في كتاب ، واعادة اصدار تسجيلاته والبوماته الغنائية لتستمتع بها الاجيال الجديدة ، التي تعيش مرحلة الانحطاط الفني وتشوه الذوق الجمالي ، بلا رقيب ولا حسيب .
0 comments:
إرسال تعليق