ذكرى 11 سبتمبر.. مناسبة لتقِفَ أميركا مع نفسها أولاً/ صبحي غندور

تتزامن هذا العام الذكرى التاسعة لأحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة مع الحملات السياسية والإعلامية الأميركية الممهّدة لانتخابات شهر نوفمبر القادم. وهذا التزامن جعل موضوع الإسلام في أميركا جزءاً من الحملات الانتخابية حيث يستغلّ التيّار اليميني المحافظ مناسبة 11 سبتمبر للنيل من الرئيس الأميركي نفسه، وبالتالي من الحزب الديمقراطي الذي يتزعّمه، من خلال التشكيك بديانة الرئيس أوباما وبأجندته السياسية.

طبعاً، الدستور الأميركي العريق أعطى حقّ الترشيح لمنصب الرئاسة لكلِّ مواطن أميركي بغضّ النظر عن دينه أو جنسه أو أصوله العرقية، تماماً كما هي دساتير أخرى في العالم نصوصها جميلة لكن نفوس المعنيّين بتطبيقها مرهونة ومحكومة بتقاليد وعادات تتناقض أحياناً كثيرة مع مضامين الدساتير وأهدافها.

هي أيضاً حالة شبيهة بما يحصل مع أتباع الرسالات السماوية حيث الفارق كبير بين مضامين نصوص الرسالات وبين الممارسات التي تحصل باسمها!.

وقد كان اختيار عشرات الملايين من الأميركيين (البيض والسود) لباراك أوباما، ليكون رئيسهم في الانتخابات التي حصلت منذ سنتين، بداية نموّ نمط جديد من مفهوم المواطنة الأميركية، وتجاوزاً لتراث وتاريخ عادات من العنصرية والتمييز الظالم بين أبناء الأمّة الواحدة.

لكن كان أمام هذا "النمط الوطني" الأميركي الجديد تحدّيات كثيرة واجهته، وما تزال، أبرزها الشعور العنصري الدفين في المجتمع الأميركي وما عليه أوباما من أصول إثنية أفريقية، ودينية إسلامية (لجهة والده)، وبرنامج سياسي واجتماعي متناقض مع برنامج اليمين الديني الأميركي الذي يصل تأثيره إلى خمس الأميركيين تقريباً، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي بين "ديمقراطيين" و"جمهوريين" وما في كل معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ "قوى الضغط" الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية.

ونلاحظ الآن في سياق حملات اليمين الأميركي المحافظ تركيز هذه الحملات على قضايا ثلاث يرمز لها وجود باراك أوباما في موقع الرئاسة: المهاجرون الجدد لأميركا، الوجود الإسلامي في أميركا والقضية العنصرية المزمنة بين السود والبيض. باراك أوباما هو، ابن مهاجر أفريقي حديث، ذو أصول دينية إسلامية، وهو جزء من الأقلّية السوداء في أميركا التي عانت الكثير حتى حصّلت حقوق المواطنة في المجتمع الأميركي. فمن لا يتضامن مع التيّار المحافظ على أساس عنصري ضدّ السود يجد نفسه مدفوعاً بمشاعر سلبية ضدّ الإسلام والمسلمين أو ضدّ المهاجرين الجدد ومعظمهم من دول أميركا اللاتينية.

ما حدث في نيويورك وواشنطن في العام 2001 كان حتماً عملاً إرهابياً كبيراً ومأساةً إجرامية بكلِّ التفاصيل والأبعاد والنتائج، ولم تجد واشنطن دولاً أخرى تختلف معها على ذلك، وعلى ضرورة معاقبة من خطَّط لهذا العمل الإرهابي الذي لم يسبق له مثيل في داخل أميركا أو خارجها، لكن وجدت واشنطن من اختلف معها في ظلّ إدارة بوش السابقة حول كيفيّة الردّ وحدوده وأمكنته، وأيضاً حول مدى شمولية مفهوم الإرهاب لدى السلطات الأميركية. فالولايات المتحدة ما زالت تعتبر أنَّ أيَّ عملٍ عسكريٍّ ضدَّ الجيش الإسرائيلي هو عمل إرهابي حتى لو كان هذا الجيش الإسرائيلي موجوداً بشكل احتلالٍ على الأراضي اللبنانية أو الفلسطينية!. وقد دخلت أميركا بعد 11 سبتمبر 2001 حربها ضدَّ "الإرهاب" كعدوّ، دون تحديد ماهيَّة "العدو" ومفهوم "الإرهاب" نفسه فاختلطت تسمية الإرهاب مع حقّ المقاومة لدى الشعوب الخاضعة للاحتلال، وهو حقٌّ مشروع بكافّة المعايير الدولية.

الملفت للانتباه في تلك الفترة التحوّلية التي عاشتها أميركا والعالم كلّه أنّ أصوات العداء بين "الشرق الإسلامي" وبين "الغرب المسيحي" ازدادت بينما كانت إسرائيل (التي هي "جغرافياً" في الشرق، و"سياسياً" في الغرب، وتنتمي إلى حالةٍ دينية "لا شرقية إسلامية ولا غربية مسيحية") المستفيد الأكبر من صراعات الشرق والغرب في "عالم ما بعد 11 سبتمبر"!!

فيوم 11 سبتمبر 2001 كان يوم انتصار التطرّف في العالم كلّه. يومٌ حصدت البشريّة القليل من نتائجه حتّى الآن، يومٌ انتعش فيه التطرّف السياسي والعقائدي في كلِّ بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح بعده "المتطرّفون العالميّون" يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحات مختلفة.. وضحاياهم جميعاً هم من الأبرياء.

كان هذا اليوم رمزاً لعمل إرهابي لا يفرّق بين مذنب وبريء، كما كان هذا اليوم تبريراً لبدء سياسة "أميركية" الشكل، "إسرائيلية" المضمون، قادها "محافظون جدد" في واشنطن اعتماداً على تغذية الشعور بالخوف من ناحية، ومشاعر الغضب الموصوفة بالكراهية من الناحية الأخرى.

السياسة الحمقاء في واشنطن بنَت خططها اعتماداً على الأسلوب الإرهابي الأحمق يوم 11 سبتمبر 2001، فنشرت الخوف لدى الأميركيين والغربيين من عدوّهم الجديد "التطرّف الإسلامي"، وشكّل ذلك بحدّ ذاته فائدةً كبيرة لمن ينتهجون أسلوب الإرهاب وفكر التطرّف، فكرّروا أعمالهم في أكثر من مكان استناداً إلى مبرّرات وذرائع وفّرتها الإدارة الأميركيّة من خلال حربها على العراق بدلاً من الحرب على الإرهاب وأسبابه السياسيّة. فالإدارات الحاكمة بواشنطن، خاصّةً تلك المدعومة من مصانع وشركات الأسلحة، تحتاج دائماً إلى "عدوّ خارجي" يبرّر سياسة الانتشار العسكري ويحافظ على التفوّق الأميركي، ويضمن تبعيّة الدول الأخرى لمن يقود الحضارة الغربيّة المعاصرة.

إنّ أميركا "الداخل" تعيش حاليّاً مرحلة تحوّل بمختلف أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. وفي أميركا يتصارع الآن اتجاهان: الأوّل، عنصري رأى بأنَّ الهجوم الإرهابي الذي حصل على أميركا في العام 2001 كان هجوماً "إسلاميّاً" من حيث الدين، و"عربيّاً" من حيث الجنسية، ويشمل في تبعاته بلدان العالم الإسلامي كلّها. أمّا الاتجاه الثاني، فرأى ما حدث من إرهاب في أميركا أشبه بصفَّارة إنذار تدعو الأميركيين إلى فهمٍ أفضل للعالم ولِما يجري حولهم بعد عقودٍ من الجهل ب"الآخر" الموجود خارج أميركا. اتجاه يدعو إلى التساؤل عن ماهيّة الأسباب التي حملت حوالي عشرين شخصاً على الانتحار بتفجير أنفسهم من أجل قتل أكبر عددٍ من المدنيين في أميركا.

إنّ الأمَّة الأميركية أمام مفترق طرقٍ يتناقض أحده مع الآخر: فإمّا توظيف ما حدث لبناء وحدةٍ وطنيةٍ أميركيةٍ لا تميّز بين أتباع دينٍ وآخر، ولا بين أصولٍ عرقيةٍ على أساس لونٍ أو ثقافة .. أو السير في الطريق الآخر الذي يحطِّم وحدة النسيج الأميركي والذي هو نسيج متعدّد الأديان والطوائف والأعراق والثقافات.

9 سنوات مضت على صدمة 11 سبتمبر في أميركا، ورغم ذلك لم يقدِّم أيّ مسؤولٍ سياسي أو أمني استقالته بسبب هذه الأحداث، كما هو التقليد الأميركي المعهود بإعلان بعض الأشخاص تحمّل المسؤولية بعد وقوع حوادث ما ترتبط بوجود تقصير بشري. فأحداث 11 سبتمبر لها نكهة خاصَّة، إذ الملامة الأميركية الرسمية كانت على "الإرهابيين فقط وما خلفهم من أصولٍ دينية أو إثنية"!!.

عسى أن تكون ذكرى أحداث 11 سبتمبر هذا العام مناسبة أميركية للتقييم وللتقويم معاً .. مناسبة لتقف أميركا مع نفسها أولاً! .. مناسبة لمحاسبة الذات وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخر!


CONVERSATION

0 comments: