حرق الكتب والمكتبات وثقافة الطاق طيق طاق/ صالح الطائي

القسم الأول

لم تمر حقبة زمنية في تاريخ العالم إلا وكابد المفكرون خلالها عذابات الشعور بالغربة والضياع،ولاسيما يوم كان الحاكمون يخافون الفكر، ويتهيبون من التنوير وكانوا بسبب مخاوفهم هذه يحاربونه ويقضون على آثاره سواء بالحرق أو بالإغراق في الأنهار أو بكل ما هو متاح وله قدرة طمس المعالم. والمفكرون أنفسهم كانوا على مر التاريخ هدفا سهلا ينصبه الجهلاء مثابة يوجهون لها سهام حقدهم.
ولم تأت عملية تحويل أناشيد الطفولة من (بلاد العرب أوطاني) و (عصفوري من كفي طار) إلى (أنا جندي عربي بندقيتي بيدي طاق طيق طاق) في تاريخ عراقنا المعاصر إلا لكي تطمس أي اثر للعلم والحب والبناء حتى تسهل عملية عسكرة المجتمع وتحويله إلى أدوات تحترق لتديم لعجلة الحكم دورانها وهي واقعا كانت جزء من تلك المنظومة التخريبية الأولى التي ما إن يتذكرها القلب حتى ينزف دما وحسرة.
ربما لم تكن ثقافة التغريب مقتصرة على أمة من الأمم ولكنها حتما أوغلت كثيرا في عالمنا الإسلامي ربما لأننا كنا نملك أغنى ثقافة وأعظم مكتبات وانضج أسواق كتب ولذلك طمع الطامعون والوافدون والقاطنون بثقافتنا وأعادوا كرة التدمير مرات ومرات وفي كل مرة كانوا يقضون كليا على الأعم الأغلب من الكتب والمكتبات والمؤلفين، ولكن عزاءنا أن هناك من شاركنا في محنتنا هذه وربما سبقنا في تذوق علقمها ومرارتها حتى قبل أن نعي حقيقة تاريخنا الذي زاره الوعي بعد بزوغ نجم رسالة الإسلام لأن ذلك يعفينا من تهمة التفرد بهذا العمل التخريبي الكبير
فالروم كما يقول إلياس سركيس في معجم المطبوعات العربية أحرقوا قبل ميلاد السيد المسيح خمسة عشر حملا من كتب ارخميدس ثم قتله أحد جنود الروم بعد فتحهم للمدينة.
وإذا ما كان الآخرون قد سبقونا فقد أبت عنجهيتنا أن لا نسبقهم بشدة الفعل فسبقناهم في نسبة التحريق وكمية المحروق ونوعيته ابتدأ من عصر الإسلام الأول لتصبح ثقافة التحريق جزء من موروثنا المقدس الذي نستخدمه للقضاء على ثقافة قائمة وبناء ثقافة أخرى مكانها. ففي صدر الإسلام وبعد موت رسول الله (ص) قام بعض المسلمين لسباب بعضها مقنع وبعضها عصي على الفهم بحرق الحديث النبوي المكتوب وكتب العلوم الأخرى التي تعود لأمم دخلت جيوش المسلمين أراضيها بعد الفتوحات ظناً منهم أن هذا العمل سوف يحفظ للإسلام مكانته وصفاءه.
وفي الروايات أن قائد فتح بلاد فارس كتب إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) عن كمية عظيمة من الكتب التي وجدها هناك فأمره الخليفة بحرقها قائلا: (إن كان ما فيها مضرا كفينا شرها، وإن كان ما فيها مفيدا فلدينا ما هو أكثر منه فائدة!) ثم تكررت القصة مع المكتبة المصرية العظيمة يوم كتب عمرو بن العاص قائد فتح البلاد المصرية إلى الخليفة الراشد عمر بشأنها فأمره أيضا بحرقها وإغراقها في النهر.

CONVERSATION

0 comments: