استمر الجسري – رغم الشكوك التي دارت حوله وتأكيدات الإخوان لعدنان عقلة بأنه عميل – نحو سنتين مع الطليعة، حتى جاءت اللحظة الحاسمة، عندما استغل رغبة أبي عمار الجامحة في العودة إلى الداخل وتعلقه بأي حبل يوصله إلى ذلك، فعرض عليه الجسري النزول للاتصال بالمقاتلين في منطقة الجبل (إدلب) وتأمين الصلة معهم، فقبل أبو عمار الفكرة وسمح للجسري بالنزول لتفقد أوضاع المقاتلين في الجبل وإمكانية نزوله!!
وعاد الجسري بعد أيام قليلة يحمل رسائل طار لب أبي عمار لها فرحاً وطرباً، وهي تؤكد له أن الطريق أمامه سالكة إلى الجبل دون أية مخاطر، فاعتقد أبو عمار أنها فرصته الذهبية التي طالما انتظرها، وراح بكل سذاجة يرتب الأمور لنزوله ونزول العشرات من الشباب المتحمس من أفراد الطليعة.!!
نزل عدنان عقلة ونائبه أبو الخير ومجموعة من مرافقيه الذين اختارهم إلى سورية عن طريق تركيا، وعند الحدود كان في استقباله عدد من المقاتلين الذين أعدهم الجسري، والذين لم يكونوا سوى عناصر من المخابرات، وقدمهم الجسري إلى عقلة على أنهم من مجاهدي الجبل، وحتى يطمئن عدنان عقلة أكثر قدم له الجسري ولمرافقيه بنادق (كلاشنكوف) حديثة ذات أخمص حديدي، تبين فيما بعد أنها غير صالحة للاستعمال، فقد نزع منها أبرها، وبعد عبورهم لمسافة معقولة من الحدود التركية كان في انتظارهم كمين أعد بعناية لاعتقالهم بعد إطلاق وابل كثيف من النيران والقنابل الصوتية، لإيهامهم بأنهم وقعوا في كمين. وتم اعتقال عدنان عقلة ومن معه دون أن يتمكنوا من المقاومة أو الإفلات من قبضة رجال الأمن.
أما مساعد أبي عمار أبو الخير فقد تمت السيطرة عليه تماماً، ومن ثم قبل تعاونه مع المخابرات وتنفيذ كل طلباتهم. وبالتالي خُدع المبعوث الذي جاءه ليتأكد من حال أبي عمار عندما التقاه مع مجموعة من مقاتلي الجبل (وكانوا مجموعة من رجال المخابرات)، فقام أبو الخير بتزويد هذا المراسل المغرر به والمخدوع، الرسائل التي أمروه بكتابتها ونقلها بدوره إلى عناصر الطليعة في الخارج.
وهذا فسر رسالة عدنان عقلة – التي أُجبر على كتابتها فيما بعد – إلى القيادة في الخارج يحثهم فيها على السمع والطاعة لأبي الخير نائبه، الذي تمكنت المخابرات من السيطرة عليه وإجباره على لعب هذا الدور المزدوج.
وهكذا كانت معظم المراسلات محمولة عبر مراسل هو عنصر مخابرات أيضاً، ولم تنتبه قيادة الخارج إلى كل هذه المؤشرات التي تدل على أن هناك حلقة مفقودة، فقد عميت عيون كل الطليعيين وراحوا بغباء ينزلون في مجموعات متتابعة ويزجون في أنفسهم بكل بساطة في الشرك الذي نصبته لهم أجهزة الأمن السورية الذين أتقنوا دورهم ليكونوا مجموعة من مجاهدي الجبل.
وأدى اعتقال الطليعيين إلى أن تكون لدى أجهزة أمن الدولة فكرة عن كل شيء في الداخل والخارج. وهذا أدى بالتالي إلى كشف الخلايا المستورة في حلب والمنطقة الشرقية، وصفيت عناصر هذه الخلايا أو سيطر عليها، كما كشفت بعض خلايا (أيمن الشربجي) في دمشق، واعتقل في النهاية المراسل الذي كان صلة الوصل بين الشربجي وعدنان عقلة.
وكان نجاح مخطط المخابرات السورية كاملاً لدقة حبكه.. وعندما تبين لها أن الشكوك في الخارج حملت القيادة هناك على إيقاف إرسال الطليعيين أدركت أن مرحلة الاستنزاف قد انتهت، وأن عليها إيقاف اللعبة والانتقال إلى المرحلة الثانية من مخططها وهو استدراج من تبقى من عناصر الطليعة في الخارج عبر القنوات السياسية والدبلوماسية.
الهروب الكبير
تمكن عدد يتراوح بين (20 إلى 23) طليعي من الفرار من السجن الذي كان يضمهم مع عدنان عقلة، وكان هدف الجميع الوصول إلى القيادة في الخارج، فتمكن ستة من الوصول، في حين تفرق الآخرون، فمنهم من توجه إلى أفغانستان ومنهم من وصل إلى طرابلس لبنان.
نقطتين أخيرتين!!
ذكرنا فيما سبق عن نزول (أبو عمر زرعيد ومرافقه ثابت) وعدم عودتهما. وتبين أن المخابرات اضطرت لافتعال عملية اشتباك لقطع الطريق على عودة زرعيد إلى الخارج، بزعم أنه قتل في ذلك الاشتباك، ولكنه في حقيقة الأمر كان قد وقع في قبضة المخابرات كمن سبقه وبنفس الأسلوب، وكشف أبو عمر كل نشاط الطليعة في الخارج وصلاتها بمنظمة التحرير، مما أدى إلى زيادة التوتر بين المنظمة وسورية.
النقطة الثانية: تسليم المخابرات العراقية لمسؤول الطليعة فيها (أبو دجانة حماد) مع أهله وأولاده إلى المخابرات السورية، حيث ألقته المخابرات العراقية وسط الصحراء السورية مع زوجته وأولاده لتلتقطه المخابرات السورية دون عناء أو ثمن.
وعلم فيما بعد بأن أبي دجانة وطليعي آخر سيطرا على حراسهما في سجن حلب، ثم اشتبكا مع الجيش الذي حاصرهما وقتلا.
إبرام الصلح بين السلطة والطليعة وانهيار تنظيم الطليعة
في أجواء مريعة من الانهيار النفسي والعصبي والمعنوي على مستوى القواعد والقيادة في صفوف الطليعة، أو من تبقى منها في الخارج، بعد أن تمكنت أجهزة الأمن السورية من تفكيك أوصال الطليعة واعتقال رأسها ومدبرها عدنان عقلة وقياداتها ومجموعة كبيرة من كوادرها، وتصفية قواعدها في الداخل، وبعد أن تأكد لأجهزة الأمن السورية أن من تبقى من كوادر الطليعة في الخارج هم في الدرجات العليا من الإحباط، تقدمت المخابرات بعرض سخي على قيادة الطليعة في الخارج لإجراء مفاوضات بينهما لوضع حد لحالة العداء والاقتتال بينهما، في مقابل تلبية طلبات الطليعة.
كانت قيادة الطليعة قد آلت إلى (أبو العلا – هاشم شعبان). ثم جرى عرض المفاوضات على أبي العلا سراً بواسطة مسؤول الطليعة العسكري في المنطقة الشرقية (أبو مروان)، والذي تمكنت المخابرات – بعد إطلاعه على اعتقال أبي عمار وانكشاف أمره – من إقناعه بالتعامل معها والتوسط في أمر الصلح مقابل إطلاق سراحه وبعض عناصره في المنطقة، فجاء المدعو (أبو مروان) واجتمع بأبي العلا وأبي النور وأقنعهم بجدوى المفاوضات والصلح مقابل الإفراج عن المعتقلين وتنازلات أخرى تقدمها الدولة، وأن هذا أجدى من المقاومة العقيمة.
بعد اقتناع قيادة الطليعة في الخارج بعرض السلطة السورية، توجه أبو العلا وأبو النور وحسن خضرو (والد الطفل المعتقل) توجهوا إلى مقابلة وفد من أجهزة الأمن السورية في ألمانيا الغربية دون إعلام أو استشارة مجلس شورى الطليعة أو إخبار جماعة الإخوان المسلمين أو استنصاحها أو أخذ رأيها، وتقدموا بطلباتهم إلى مفاوضيهم والتي تضمنت الآتي:
1- الإفراج عن المعتقلين.
2- إعطاء حرية الدعوة الإسلامية.
3- إزالة الطائفية من الجيش والوظائف.
4- العفو عن الملاحقين في الخارج وتخييرهم بين النزول أو البقاء في الخارج مع تسوية أمورهم.
وبينما كانت المفاوضات جارية بين الطليعة ومبعوثي النظام السوري في ألمانيا، أرسلت أجهزة الأمن السورية مبعوثين عنها لتعرض على من تبقى من عناصر الطليعة وغير الطليعة العفو الشامل على من ينزل ويسلم نفسه، وتمكنت من استدراج عدد من عناصر الطليعة بهذا الأسلوب، لتسحب البساط من تحت أرجل المفاوضين في ألمانيا وتضعف من موقفهم وما يملكون من أوراق.
وبعد جولات من المفاوضات الهزيلة التي تمت مع أبي العلا وأبي النور في ألمانيا ثم في قبرص ثم في دمشق، تحول الصلح إلى حالة استسلام رخيص، نتيجة لضعف موقف المفاوضين بافتراض سلامة نيتهم، وهو ما ذهب إليه من تبقى من قيادة الطليعة حيث اعتبروا إقدام أبي العلا ومن ذهب مذهبه إلى الصلح والاستسلام نتيجة للانهيار والإحباط، ولم يتهموهم بالعمالة المباشرة للنظام في سورية، وأصبح نزول المصالحين مقابل العفو عنهم فقط، وأُجبر معظمهم فيما بعد على التعامل مع المخابرات راضين أو غير راضين، وكان عددهم بضعاً وعشرين طليعياً من المحبطين الذين دمرتهم نفسياً النهاية المأساوية لتنظيم الطليعة الذي هز كيان الدولة والنظام لأكثر من سنتين، ووقوع قائدها عدنان عقلة لقمة سائغة بيد المخابرات وكان ثمن رأسه شيكاً مفتوحاً، وسقوط كل قواعد الطليعة وعناصرها المسلحة في الداخل.
يتبع
0 comments:
إرسال تعليق