سأل أحد الأصدقاء الفايسبوكيين السؤال التالي : "هل من الممكن أن تكون الفلسفة علاجا على المستوى العملى لحالة التعفن العربية !! ؟ ما سبب عدم احتكاك الفلسفة الى حد الآن بالواقع العربى؟ هل لأنها فكرة يوتوبية تكتفى بالإمتاع على المستوى التنظيرى فقط...؟ أليست "الفلسفة حياة " ببساطة، فهي التى تحاول دائما أن تضع العقل فى مكانه الصحيح، وهو أن"يفكر" ؟"
وما كان علي الا أن أجيبه كما يلي: اعلم يا محب الحكمة أن العرب أمة تحمل رسالة خالدة الى العالم وأن جوهر العروبة هو الاسلام ولذلك عرفت على مر العصور المكائد والاعتداءات من الدول المجاورة وظهرت فيها النزاعات والفتن واذا كانت حضارة إقرأ شهدت التدفق والصعود لحظة التكوين وبلغت السؤدد والمجد زمن الازدهار فإنها ما لبثت أن هرمت بسرعة وتدحرجت وفرطت في سبل الترقي وشروط العمران. لقد كان ذلك بسبب التضييق على الاجتهاد ورجحان كفة التدمير على حساب البناء والتعمير وطلاق الفكر العلمي والابتعاد عن الصناعة وتحريم الاشتغال بالتفلسف والاكتفاء بالتقليد والاتباع ، وقد تواصل الأمر على نفس المنوال وبقيت بنية العقل ثابتة واتسمت العلاقة بالآخر بالعداوة والتوتر وظل الاشتغال بالعلوم والفلسفة والتقنية محصورا في مجال النخبة وتحت رعاية الدول. غير أن اليقظة العربية المعاصرة بدأت مع تشكل حركات التحرر الوطني من الاستعمار وبناء الدولة القطرية ذات السيادة المنقوصة وظهور موجة تحريك بنية العقل من طرف اتجاهات تحديثية تجسدت في هبة فكرية عربية واحدة.
لقد ترجمت هذه الحركية العقلية في ظهور المشاريع السياسية والثقافية الكبرى التي نحتتها كل من الحركة الليبرالية الدستورية واليسار الماركسي العربي وحركة القوميين العرب والجانب التقدمي من تيارات الاسلام السياسي وبعض الشخصيات الجامعية المرموقة والكتاب الأحرار والمثقفين العضويين والعصاميين الاعتباريين.
في الواقع برزت صعوبة في موجودية الكائن العربي المسلم في العالم المعاصر وفي السماح لتراثه بالاستمرارية ولثقافته بالانبعاث وفي النهل في نفس الوقت من القيم الكونية وامتلاك معالم ناصية العلوم والتقنيات وتحريك عجلات التقدم والتطور والعصرنة. كما تحولت كل مواطن القوة والأصالة لدى تيار الهوية وأمل الأمة الى أماكن الضعف والتعصب وأضحت النقاط المضيئة في التاريخ الى مصدر للتوتر والتنازع مع الذات والأغيار وسبب للخلاف والفرقة والتباغض.
بارقة الأمل كانت مع تدفق الحراك الاجتماعي وتفجر الثورة العربية وتمكنها من اسقاط بعض الدكتاتوريات وكنس مجموعة من الأنظمة الفاسدة وترسيخ قيم الديمقراطية وارادة الشعوب. ولكن ما لبثت الثورة المضادة أن أطلت برأسها وتم ابطال مفعول الربيع العربي حينما تعلق الأمر بأنظمة رجعية متخلفة ووقع عسكرة المعارضة ورفع السلاح في وجه الأنظمة الداعمة للمقاومة وقام البعض بالزج بفصائل الممانعة في العراك السلوك الداخلي واثارة النعرة المذهبية.
من هذا المنطلق يصح نعت المشهد الحالي بأننا نعيش حالة من التعفن العربي ونسير ببطء نحو التقسيم والتشذرم والتدمير مما يهدد المتبقى من الأنظمة المتماسكة والمؤسسات الناجعة بالتعطل.
أعلم كذلك أن الفلسفة العربية ظلت منذ تشكلها الأول بعيدة عن الاحتكاك بالواقع تتأمل في المجردات داخل القصور ومتحالفة مع الحكام وضاربة بعرض الحائط بمشاغل الناس ومغتربة عن الواقعة خائفة من هجوم الفقهاء ومذعورة من سخرية العوام ومتوجسة من بطش السلاطين.
صحيح أن معظم ابداعات الفلسفة في حضارة إقرأ كان على المستوى النظري وفي مجال المعرفة والكونيات والعلوم المنطقية والرياضيات، وصحيح أيضا أن حكماء العرب فضلوا النظر على العمل واقتنصوا الفرص النادرة للفوز بالنعم الدنيوية والمتع المادية ولم يؤثروا في المجتمع. لكن الأصح هو الإقرار بأن متعة الفلسفة الحية ليست في التنظير والمراكمة المعرفية بل في الممارسة والتغيير والتأثير في حركة التاريخ وطبيعة العمران وأشياء السياسة وركائز المدنية.
في الختام الفلسفة ليست النقدية المنشودة التي تدربنا على التفكير الحاذق فقط بل هي تلك التي تحرضنا على السائد وتدعونا الى المزيد من التمرد كلما صار وضع الحرية مهددا وتثوير الأنظمة المعرفية والبنى الادراكية وخلخلة كل اليقينيات وتفكيك جميع الأنساق الشمولية.
كاتب فلسفي
0 comments:
إرسال تعليق