لم أتوقّع أن يصفق لي من وجّهت لهم ملاحظاتي وانتقاداتي من قادة أحزاب وحركات سياسية، بل توقعت أن يرد البعض على ما كتبت بحقهم وحق أحزابهم. لا يضيرني ردّ سفيه في فيسبوك، أو سفيه آخر كتب تعليقًا في ذيل مقال، فمن سبقني من أصحاب التجربة والحكمة كتبوا عن محاسن إغفال السفهاء الذين لا يعلمون. ولا يزعجني إعراض الذي ما زال يؤمن بما نشأ عليه وحارب من أجله عقودًا تلو عقود، بيد أن عتبي على من يرفض سماع رأي آخر ويحمل عصا "المطوّعين"، فهم، في هذه المقاربة، يشبهون رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سلفيون يشوّهون كل من خالف عقيدتهم ويرمونه بالكفر والزندقة، فهم يسخّفون من ينتقد، إن كان محظوظًا، وإلا فيوبلونه بأوصاف شتى، وقاموسهم حافل: فهو عندهم ساقط، مأجور، أو يلهث وراء شهرة، أو ليرضي أسياده.
لامني البعض على سوداوية واضحة تنضح بها مقالاتي الأخيرة، وتشاؤم ليس من شيم القادة أن تتحدث بنبضه وتبثه بين صفوف الجماهير الواسعة. لن أزوّر الواقع ليبدو أجمل، وسأترك مهمة زرع الثقة والتحشيد لقادة هذه الجماهير المنتخبة منها أو"المبرشتة" و"الكأنها" أيضًا. أرى من واجبي أن أكتب عما ألمسه من خطر حقيقي تنزلق إليه إسرائيل ويوازيه خطر لا يقل خطورة تنزلق إليه قرانا ومدننا. قادتنا يفتقدون لما أجاده قادة عصر التكوين والانزراع في الوطن. وأرى أنهم يعانون من صدوع في شرعية قيادتهم. حقي أن أكتب عن هذا لا سيّما أن الرأي السائد يتغنى بميادين التحرير المرتعشة في البلاد العربية، ألم نتفق أن أهم ما قوّض جرّاء هذه الارتعاشات كانت مسألة شرعيات تلك الأنظمة مقابل شرعيات من هوّج الريح وأقام العواصف. إنني ألمس أن قطاعات واسعة من جماهيرنا اليقظة الحية لن تكتفي إلى أجل غير مسمى بروايات تمجيد الماضي وحكايات الصمود الغابر على أهمية ذلك التاريخ. ذلك لأن أجيال اليوم ولدت بعد تلك الحكايا الكبيرة وتاريخ ساحات "أيار" وما سبقها وما لحقها. أجيال اليوم ولدت في عصر تتحوّل فيه جرائد الورق تذكارات سيجدها الهواة في دكاكين "السوفينير"، لذا أرى أن التحدي أمام من يؤمن بتعاليم لينين أن يجتهد ويفتي برأيه ويتخيل التصرف الذي كان لينين سيفعله، وأي موقف سيتخذ إزاء دنيا "الإنترنت" وعالم "أيفون" و"أيباد". هل سيبقى موقفه من مسألة "التنظيم الحزبي" و"الجريدة الحزبية" كما يردده اليوم بعض من الشيوعيين؟.
أخال أن المقاربة عن إيمان الشيوعي اليوم بدور الجريدة الحزبية كما رآها لينين في عشرينيات القرن الماضي تشبه إلى حد بعيد، إيمان شعب "ألآمش" في أمريكا الذي يحرّم استعمال السيارة، أو تشبه كل فتاوى الاقتداء الأعمى بالسالفين.
تستفزني تلك القراءات المغالطة لما أكتب، وتوجعني تلك التي تتعالى وتنتفش بريش العقائد والمبادئ كي لا تجابه واقعنا الخطير.
لا أبالغ إذا قلت إن الانتخابات ستدار في معظم القرى والمدن بمحرّكات غير سياسية وغير حزبية. في معظم المواقع العائلات هي أساسها، والتحالفات تخاط بإبر هجينة وبخيوط مسمومة تستل من كباكيب هي أقرب لأصابع الديناميت.
الأحزاب، غالبًا، ليست في التركيبات الأولى ومعظمها تنتظر على مقاعد الاحتياط تترقب فرصة ورضا المدرب وأصحاب الملاعب والفرق. هذا واقع خطير إليه أشرت وقلت إن الخاسر الأكبر منه كانت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. لأسفي لم يتناول أحد من قادتها وكوادرها ما قلته من باب المسؤولية ونقاش المصلحة العامة. بعضهم راح يكتب مدافعًا عن تاريخ حزب لم ولن أمسّه، وآخر يغمز على "عيوبي" ونواياي المبيتة تجاه الجبهة والحزب!، بزَّهم جميعًا الأمين العام للحزب الشيوعي الذي وجدها فرصة ليؤكّد أن النظام والانصياع للحزب واجب مقدس، وإلّا "قد يكون هناك جانب من الصواب في قاعدة الظلم ولا حلّة الحكم". لقد خفت عندما أنهيت قراءة ثوابته؛ النضال ضد الاستعمار والرجعية العربية والصهيونية. تخيّلت ما كان قد يصيبني أنا والمسؤولين في جريدة الاتحاد الحزبية، لأنهم خانوا ولاءهم للحزب ولتعاليم لينين فيما يخص دور الجريدة الحزبية والكتابة فيها.
الواقع أمامكم كقرون الوعل. النضال ضد الاستعمار والرجعية والصهيونية باق، ولكن كيف يعفيكم هذا من محاولة تفسير غياب "الجبهات" واندثارها بشكل مطلق في قائمة طويلة من قرانا ومدننا؟ كيف تبخّرت وفي بعضها كانت ترأس مجالس قرى عديدة وأعضاؤها يملأون المقاعد والمحافل؟ نناضل ضد الاستعمار، ولكن على من تقع مسؤولية هذه الخسائر؟
نحن بصدد تحديد مستقبل قرانا ومدننا، يعني بيوتنا وبيوت أولادنا، ولذلك أقول لمن سيستل أقلام الردح والاستخفاف ولمن سيشهر طبول التنقير، لمن يجيد فهم المقروء ولمن لا يجيد: نعم البيت ليس فقط بيتكم، إلى ماض ليس ببعيد كان البيت الآمن الوحيد إليه لجأت الجماهير، أصحابه لم يؤمنوا بأن "الظلم ولا حلّة الحكم"، فمن يؤمن هكذا سيسعى لما سعى إليه "الأمير"، ولا بد للغاية من تبرير الوسيلة. هذا سيكون بيتًا "للأمير" وعندها لن تجد الجماهير فيه مطرحًا، أيعقل؟
0 comments:
إرسال تعليق