أبناء الطوائف لا يريدون للفلسطيني ان يمتلك البنطال الثاني!!/ سعيد الشيخ

في ستينيات القرن الماضي وآثار النكبة ما زالت طازجة على نسيج الحياة الفلسطينية التي نزحت ببؤسها وشقائها الى لبنان، حدث ان حافلة توقفت عند حاجز للجيش اللبناني أقيم على جسر نهر الأولي كنقطة لتفتيش الداخلين الى محافظة الجنوب... وقد طلب الجندي الذي صعد الى الحافلة من الركّاب وكان جلّهم من العمال الفلسطينيين إبراز البطاقات الشخصية، وتوقف الجندي عند أحدهم وقد لاحظه مرتبكا ويكثر البحث في جيوب أسماله وسأله:
- من أين أنت؟
- فلسطيني من المخيم
- وأين بطاقتك الشخصية؟
- والله يا سيدي على ما يبدو انني نسيتها في بنطالي الثاني.
ولم يتمالك الجندي نفسه إلا وأنفجر مقهقها، ومن بين قهقهاته كان ينادي على زميله الواقف عند باب الحافلة.
- تعال يا إلياس وأسمع آخر نكتة..."فلسطيني وعنده بنطلونين"
*****
لأن الشئ بالشئ يذكر، فقد سقت هذه الحادثة أو "النكتة" كما أرادها الجندي اللبناني تماهيا مع قرارات مجلس النواب اللبناني في جلسته الأخيرة يوم 17 أب الجاري التي أجاز فيها للاجئين الفلسطينيين ممارسة العمل في العديد من المهن وعددها اثنين وسبعين مهنة مستثنيا منها الطب والهندسة والمحاماة والاعلام وغيرها من المهن المغلقة كما تسمى في لبنان... على ان تتم مزاولة العمل في القطاع الخاص وليس العام.ويستفيد العمال الفلسطينيون من صندوق خاص يؤسس لغرض الضمان الاجتماعي وليس من الصندوق العام.
اتفق كامل اعضاء البرلمان اللبناني على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم على ان لا يتساوى الفلسطيني مع اللبناني، أو بعبارة أخرى اتفقوا على انتقاص الحقوق المدنية والانسانية للانسان الفلسطيني خوفا على كمال الوطن اللبناني!
هذا الوطن المنذور لصناعة الدهشة منذ أن قال الرئيس الأسبق أمين الجميّل جملته الشهيرة في الثمانينات من القرن الماضي إبّان الصراع الاهلي: "أعطونا السلام وخدوا ما يدهش العالم".
أدهشني ممثلو الشعب اللبناني في البرلمان في دفاعهم عن لبنان مرتين:
-أول مرة عندما اعلنوا بأن الأطباء والمهندسين والمحامين الفلسطينيين غير مرغوب بهم في سوق العمل اللبناني،هذا مع علمنا ان جميع الدول المتحضّرة تتراكض لكسب وإستيعاب هذه الشرائح لدمجها في نسيجها حيث هي معقد الأمل في الرقي والتقدم الاجتماعي والحضاري.
-وثاني مرة عندما حرموا على الفلسطيني إمتلاك مسكنه وبالتالي ان يورّثه لأبنائه خوفا على إستقلال لبنان من توطين الفلسطيني فوق أراضيه، حيث تعتقد الطوائف المسيحية والاسلامية غير السنّية ان خللا ديموغرافيا يصيب البلد اذا ما منح الفلسطيني حق التملّك في لبنان.
كل التبريرات التي يسوقها لبنان الرسمي للقرارات الموصاة من قبل مجلس النواب بشأن التعاطي مع الوجود الفلسطيني في لبنان تظل باهتة ولا تستطيع إخفاء الممارسات اللبنانية المخالفة للقانون الدولي بشأن حقوق الانسان، ولا النزعة العنصرية والتمييز بحق الفلسطيني، بالرغم من اعتقاد الكثيرين ان خطوات لبنان الاخيرة تجاه الفلسطينيين قد رفعت سنوات طويلة من الغبن والاضطهاد عن الشعب الفلسطيني.
*****
وبشكل أدق ان الانجاز البرلماني اللبناني يبدو بأنه حركة التفافية على حقوق الفلسطينيين بإعتبار ان هذه الحقوق هي استحقاق مؤجل منذ وطأت أقدام الفلسطيني أرض لبنان نتيجة النزوح القسري الذي دفعت به العصابات الصهيونية عام 1948،وتماشيا مع القوانين والاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها لبنان والمتعلقة بحقوق الانسان.
وعلى ما يبدو ان القوى الطائفية التي ناصبت العداء للوجود الفلسطيني في لبنان منذ البداية ما زالت فاعلة ونشطة وتتربّص لهذا الوجود في المشهد اللبناني، وهي تتحرك على نقيض ما توصلت اليه الدولة الحضارية (أي دولة).
وهذه القوى لها في الدولة اللبنانية ما يكفي لإسقاط المصالح الوطنية الشاملة للكيان اللبناني لصالح كانتونات طائفية ضيقة، الكل فيها يحسب امتيازات ومصالح طائفته.. وهي في جلسة البرلمان الأخيرة استطاعت الانتصار على قوى ديمقراطية طالبت بحقوق كاملة للفلسطينيين مما أدى الى تحقيق الحد الادنى كما شاهدنا في القرار البرلماني.
أكثر من ستين عاما وما زالت الدولة اللبنانية على ذات العقلية التي أجازت لذلك الجندي المنتمي الى زمن غابر ان يستهجن ويتهكّم على الفلسطيني في أن يملك أكثر من بنطال..انها دولة لا تريد ان ترى الفلسطيني في كامل هيئته الانسانية، ويملك عدة بناطيل مثل أخيه الانسان اللبناني.
فمن الناقص في هذا الفضاء السياسي، الدولة أم الفلسطيني؟
وأين يكمن الخلل، في الدولة أم في الفلسطيني؟
ومن يسئ لمن في هذا الملف الصعب على صعوبة التوافق الوطني؟
حقا انها دولة مدهشة في زمن افتقاد الدهشة!!

* كاتب وشاعر فلسطيني

CONVERSATION

0 comments: