في طرابلس مرة أخرى..(الرحلة الرابعة): غابة النصر/ شعيب حليفي



• رحلة أخرى إلى طرابلس
في الثالث والعشرين من شهر أبريل، توجهتُ إلى طرابلس في رحلتي الرابعة (1) ، وكنا ستة أدباء من المغرب(2) لحضور احتفالية صديقنا الكبير الناقد المصري جابر عصفور إثر فوزه بجائزة القذافي العالمية للآداب في دورتها الأولى .

نزلنا بفندق غابة النصر ، ريكسوس؛ وهو من أفخم وأجمل الفنادق ؛ جنة صغرى، وسط غابة فسيحة بمساحات خضراء طبيعية وهادئة .مكانٌ شعرنا فيه بدهشة منعشة أعقبتها راحة كبيرة ، فضلا عن إحساس عجيب بأن كل من كان يشكو من ألم ..تشافى منه منذ اليوم الأول ، فيما اعتقد الجميع أن مَرَدَّ ذلك راجع إلى الفندق ذي التصنيف العالي بخدماته وتواجده وسط الغابة ، على غير تخميني حينما خطر لي خاطر بأن هذا الفضاء كان ،في القديم ،مأوىً للتعبد وما زالت به بركات أوليائه وقد صاروا تُرابا .

كان الاحتفاءُ بنا جليلا وكبيرا، كما كان بكافة الوفود من أدباء حجُّوا من أقطار عربية وافريقية شتى ، وهو ما يعكس قيمة ثقافة الاعتراف بواحد من أدباء عصرنا الكبار.
***
في مساء يوم وصولنا، توجهنا إلى إحدى قاعات المسرح بوسط البلد ، مستمتعين خلال ثلاث ساعات بأناشيد وابتهالات فرقة طرابلس الموسيقية بقيادة الشيخ يوسف ، قبل أن نعود إلى جنتنا الصغرى..مبتهجين آمنين .

وفي صبيحة يوم السبت ، شعرتُ مع استفاقتي، بالرغبة في التوجه نحو مقهى عبد السلام ، بحثا عن سيد العزيز. لكن رغبتي هاته سرعان ما خفتت وأنا أتنزه وسط حدائق الفندق وغاباته الممتدة ..فقوة سحر المكان أقوى من أي فضول يبتغي استكمال حكاية ظلت ناقصة منذ رحلتي الأخيرة إلى طرابلس .

ابتداءً من منتصف النهار، انطلقت مراسيم الاحتفال بتسليم الجائزة بعد إلقاء عدد من الكلمات وعرض شريطين وثائقيين .وقبل الحفل فوجئتُ بحضور "سمدونة" التي تقدمت وسلمت عليَّ ، وأنا مندهش من وجودها ؛فقد اختلط عليَّ الأمر في آخر رحلة لي ، واعتقدتُها خيالا محضا .

جلستْ إلى جواري ، وفي كل مرة كنتُ أسألها بخفوت عن سيد العزيز ، لكنها كانت تُشيرُ إليَّ ،صامتة، بأصابعها المضمومة بما يعني التريث .

انتهى الحفلُ البهيُّ ، فخرجنا معا إلى الفضاء الخارجى الواسع .. نحتسي الشاي ونتحدث ،وبالي متحفز للقبض على الجواب عن أسئلتي المعلقة .

• عودة إلى الرحلة الثالثة
ترددتُ كثيرا قبل الخوض في كتابة نص ثان عن رحلتي إلى ليبيا ، وهو ما أعتبره تتمة واستدراكا للرحلة الطرابلسية السابقة في شهر يونيو المنصرم ، خصوصا بعد توصلي برسائل وخطابات إثر قراءتها فور نشرها وتعميمها .وقد اخترتُ خطابا واحدا توصلتُ به من الصديق "علي العالمي "الذي كان برُفقتنا وذكرتُهُ في موقعين من حديثي في الرحلة ، مما جعله يشعر ببعض الحزن فخاطبني برسالة- عبر البريد الاليكتروني- يحتج فيها على إدراجي لاسمه ولكل تلك الأوصاف التي وصفته بها.

وقد أجبته مباشرة بالرسالة التالية معبرا له فيها عن وجهة نظري باختزال كبير، وأنا حزين من تلقي خطابه بهذه القسوة :

"علي العالمي العزيز،
لقد كتبتُ نصا واحدا لم أبدل فيه تبديلا ، وما كتبتُه عنكَ.. تعبير صريح عن تقديري ومعزتي لك .وهو أمر لا شك فيه، بل وأنا أكتب عن علي العالمي، الذي كان معي في رحلة وأصبح جزءا من التخييل، كنت كما لو أحكي عن نفسي .

ليس هناك ما يُخِلُّ بالأمانة في هذا التخييل يا صديقي العزيز .

وعلى كل، فأنا أعتذر إن كان هناك ما قد يُفهم منه شيء آخر غير محبتي واعتزازي بك.أعتذرُ عما اقترفتُ وعما لم أقترف "بعد" ، لأني هش تجاه إحساس غيري بأني قد أسأتُ إليه.
(شعيب )".
***
بعد أربعة أشهر ، كلَّمني علي العالمي بالهاتف ذات ظهيرة وكأن شيئا لم يكن، وقد أحسستُ إدراكه أن طرفا ثالثا سعى إلى تحريف كلامي مكتوبا للإيقاع بصداقتنا..ثم التقينا دون التحدث في الأمر.. إلى أن جمعنا لقاءٌ ثانٍ ، بعد سنة كاملة، وتحديدا في نهاية مايو خلال رحلة دامت أربعين ساعة لا غير، وكانت علاقتنا قد عادت إلى طبيعتها الأولى.
التقينا بعد سنة تقريبا في رحلة سريعة ،دامت يومين فقط ،سافرنا معا إلى جانب وفد مغربي يزيد عن التسعين شخصية ، وهي الرحلة الأصعب في حياتي ..لم ولن أستطيع الكتابة عنها لأن لا زمن يُسندنا فيها أتكئ عليه ، فيما كتبَ عنها الصديق عبد الحميد جماهري عمودا طريفا تحت عنوان (الكارثة التي مرت بالقرب منا )(3) ؛كما كتبت الصحفية حنان بكور تقريرا ،مما جاء فيه :

" لم يكن قد بقي من عمر الرحلة سوى نصف ساعة ... بدأ الملل يتسرب إلى بعض أعضاء الوفد الذين غاصوا في مقاعدهم ...قبل أن يقفزوا منها مُكرهين لا راغبين.فجأة بدأت الطائرة تتراقص في السماء .علت ضحكات في البداية ، لكن الأمر جدي فالطائرة تُعيدها مرة أخرى واثنان ثم ثلاث ...اصفرت الوجوه وعلت ملامح الخوف.البعض انكمش وآخرون يسألون ويبحثون عن مضيفين اختفوا عن الأنظار .كل هذا والطائرة تتراقص في الهواء.
بدأ الصراخ يعلو..النساء غير قادرات على تحمل المزيد ..انهيارات عصبية وعويل ونحيب.أما الساسة المغاربة .فذاك مشهد آخر .بعضهم انزوى يسبح ويهلل، وآخرون انبطحوا أرضا يقرأون اللطيف في مشهد من مشاهد الدمار المنتظر ..الكل ظل ينتظر لحظة الصفر ، ففي لحظة لم يعد هناك من أمل لأن الطائرة دخلت في تذبذبات لم تُرد أن تنتهي ..تنزل إلى الأسفل مندفعة بأعلى قوة ، ثم سرعان ما تعلو لتعلو معها درجات الخوف التي فاقت كل الحدود ..."

أثناء عودتنا من هذه الرحلة الخامسة ،جلس إلى جواري "علي العالمي" وسط الخوف من تكرار "حتمية الموت" ،وخلال النصف ساعة الأولى تحدثنا عما وقع في رحلتنا السابقة بكل تفصيل متتبعين أبسط الجزئيات لنصل في الأخير – وهو ما كنا نخمن فيه منذ البداية في صمت - ونكتشف أن "عدوا " في لبوس صديق، يدعى ( خ. ح) سعى إلى دسيسة دنيئة كان مُتعوداً عليها ، لكن أمره افتضح فأُلبسَ الذي كفر ومكر وأنكر وكان من الخاسرين .

***
أشياء كثيرة حَصَلَتْ ، أعرفها ولا أعرفها ، وقد لا تَهُمُّ الآن .لكن الشئ الذي يهمني أن رحلتي السابقة (الثالثة) انتهت بغموض جعلني أرتاب من حكاية كنتُ شاهدا عليها رُفقة صديقي عبدو الفيلالي .اذ اختفى سيد العزيز واختفت قبله بقليل سمدونة ، والأغرب أن صديقنا المشترك بالمقهى، المدعو "عبد السلام " ، أنكر كل شئ.
ألم يقل لنا ، لما سألناه، بأن سمدونة التي نبحثُ عنها هي ولية من وليات الرحمان عاشت في ليبيا قبل قرون !؟.

هل يكون هذا المكان الذي أوجدُ به الآن ، غابة النصر ، الساحة التي رابطت بها سمدونة وبعدها عابدات أخريات منذ زمن سحيق، يبدو الآن أمامي قريبا وجليا ..وأنا بجوارهنَّ آنسا سعيدا ؟

• عودة إلى جنة النصر

التحقتُ بغرفتي رقم1107 ، ثم خرجتُ فورا بعد الاستحمام من عنت السفر، باحثا في جمال المكان . جلستُ في ساحته الخضراء المفتوحة على الهواء الطلق ،المحاطة بالأشجار والطبيعة الزاهية وبعدد من السواقي بمياهها الدافقة .
وفي يوم السبت استفقتُ باكرا . عدتُ إلى المكان وحيدا بعدما استبعدتُ الذهاب للبحث عن سيد العزيز.فشوقي فائض للبحث عن الذين كانوا هنا من قبلنا منذ مئات السنين أو آلافها ، بعدما شممتُ روائحه الزكية ووصل إلى روحي رنين إقبالهم عليَّ..منذ القرن السادس قبل الميلاد مع فنيقيا الكنعانية وهم يهتفون فيها باسم "أويا" الجميلة ، ثم الرومان والوندال والبيزنطيين.

تريبولي أو المدن الثلاث، أويا أو أويات بيلات ماكار ، بلدة الاله ملقارت في العهود الخيالية ...أيتها الصامتة المتعبدة في وحشة الصحراء ونظرات الأمازيغ وصرخة السلام لماركوس اوريليوس في رسالة قوس النصر ،ونظرات الليبو المتأملة في وجودنا.

قوس الحياة من لبدة الكبرى إلى صبراتا..خضعت الروح لامتحانات لا تنتهي مكَّنَتها من أسرار غامضة تُخفيها عنا ..هنا في غابة النصر ونحن جلوس ننتظر مصيرنا كما عاشه غيرنا هنا ..وليسَ مصيرنا الذي انفلتَ من قبضة الحياة وملائكتها ونحن على طائرة ذهاب بلا عودة .

• سمدونة تعترف

ونحن جلوس في فضاء الفندق المفتوح ، روت لي سمدونة أنها منذ ذلك التاريخ، لم تر بدورها سيد العزيز ، كما أسرَّت بأنها فوجئت بسماع خبر هجرته رفقة أخيها ميمون وصديقهما عبد السلام إلى إحدى الدول الإفريقية بوسط القارة ، يسكن الجبال محاربا ضمن مجموعة ثورية ..كما سمِعَتْ به ضمن القراصنة الذين يخططون لاختطاف السفن الغربية !.

عدتُ أسألها أسئلة خصوصية ، فلم تشأ الرد وكانت تضحك باستمرار قائلة لي في بَسْطٍ لطيف، أن أسأل السيد ماركوس وباتوس والمعز لدين الله .. فهم قد يعرفون مصير صديقي سيد .ثم عادت تضحك قبل أن تكشف لي في النهاية بأنها ستمدُّني ،غدا الأحد ،ببعض وثائقه المتبقية لديها.

يوم الأحد ، توجهنا ضمن كل الوفد للغداء في القرية السياحية ، على شاطئ المتوسط، ثم عرجنا بعد ذلك لحضور حفل افتتاح أسبوع الثقافة المصرية بطرابلس ، دون أن نجد أسبوعنا المغربي ، باستثناء رؤيتنا لعمال وعاملات من المغرب ممن يشتغلون بالفنادق والمطاعم ..وكانوا يسعدون كثيرا للقائنا .

في المساء ، جاءت سمدونة وسلمتني ظرفا به ست رسائل لسيد العزيز كان قد أرسلها إليها ؛ أربع منها مكتوبة بخط يده ، واثنتان بآلة كاتبة تقليدية ، أدخل عليها تصويبات بقلم حبر أزرق .

أسرَّتْ لي بأن رسالةً سابعة قد ضاعت منها ..دون أن نتوصل معا ،إلى معرفة ترتيبها ..هل هي الأولى أم الأخيرة ؟.ثم عدتُ أبحثُ في حياة سيد ، لكنها تفاجئني مرة أخرى وتقول بأن قلبها الأبيض خبَّرها بأن سيدًا قد قتل في تلك الأدغال البعيدة .."يا عيني على حبيبي الذي ستأكله حيوانات الأرض والسماء".

أسبلتُ نظري بعدما كنتُ أنظرُ إليها وتهتُ في مصير الخطاب الضائع .بل تهتُ في أعشاش الطيور التي يطلع منها ، كل صباح، نداء يغويني فأقوم من فراشي ..متسربا وسط الغابة منطلقا إلى ما تقوله وتحكيه .ثم أحدقُ في الشمس ، ما وسعت، ..وحدها رأت وترى كل شيء.

• حقيقة متنكرة

هل أنا هنا أيضا بترتيب بشري أم رباني ؟

عدتُ إلى إحساسي الأول أفتشُ فيه .. لستُ بحاجة إلى تآليف في الجغرافيا والأعلام .فقد سقطَ في نفسي أننا في مكان يُخفي كراماته ولا يُظهرها إلا في ما يُشرح النفوس ويُقوي العزائم ويُشفي السقم .

علاقتي بالأمكنة قبل الأشخاص ، تثوي حكايات "عجيبة " ، فأنا لا أزور إلا الأمكنة ذات الأثر النافذ والأزلي في نفسي ، وبإمكاني السير في دروبها مغمض العينين منقادا بإذن غيبي واضح ..في معالم حي الأندلس المشبع بأسراره إلى المدرج الروماني في صبراتا الأثرية، إلى السراي الحمراء في الجزء الغربي القديم بروائح بخوره العابقة والباقية مذ كان معبدا رومانيا يقبع فيه الكهنة أمام الفقراء الباحثين عن شفاعات ممكنة ..وهناك أسمع بوضوح لا خيال فيه صوت العابدة ، ربة المطر،زهرة السماء والأرض ،ما زال يترددُ بنفس الخشوع الذي تهتز له الفرائص:
- " كيف لا أحبُّ مخلصي ومرشدي .وكيف لا يُحبني هو ويحب الجميع ..وأنا التي انتفضت في الهزيع الأخير لإحدى الليالي ، حين دنا رب العرش فتدلى ، فأصبحَ قاب قوسين أو أدنى من سمائه السابعة ، لا إلاه إلا هو ، ليقول: هل من مستغفر فأغفر له ، هل من سائل فأجيبه؟".
***
وأنا هنا ،في هذا المكان الذي اختاره مهندسون بارعون لبناء مركب كامل وسط غابة ومروج خضراء ، كان إحساسي يتحول إلى يقين رأيته في فجر اليوم الثالث وأنا بين النوم واليقظة ، أرى هذا المكان صحراء رملية شاسعة ، تتوسطها واحة صغيرة ذات عشب بلون أحمر وأخضر ، بها صخرة شبه مربعة من الحجر العسلي الصامت في علو المترين ، تفجرت منها عين ماء زلال يتسرب في جدول يمرُّ على كل الشجيرات قبل أن يختفي في الرمال.. والتي لن ترويها سيول الأرض ولا هطول السماء.

عين ماء عذب محاطة بشجيرات رمان وعنب وتين وسفرجل وبرتقال، وبالقرب منها خيمة في شكل قوس النصر بلون الحناء، من جريد النخيل ودوائر من جذوعه وبعض القصب .وعلى يمين الخيمة وشمالها صفان ممتدان من نخلات باسقات ، خمسا خمسا، وبينهما حوضان للنعناع والزعتر ، وفي نهايتهما ، قرب الصخرة والعين ، اعتزلت نخلة لم يتبق منها إلا أقل من نصف متر،بعدما ضاع الجزء العلوي بجريده وثماره فبقيت وحيدة. بينها وبين الصخرة والعين استقر جبح/قفيرُ نحل يُسمع طنينه الممتد.

في تلك الخيمة، تُرابط ولية من وليات الله، العابدة ربة المطر العميم ، قصيرة القامة ذات وجه به بياض نوراني ..شامة مشتعلة وسط الصحراء مثل الثريا التي أوجدها الله هنا لتروي ظمأ الشعراء والأنبياء وتنسج لهم عباءاتهم الواسعة ..بها يُسافرون في مسيرهم الطويل ، برا وبحرا ، في السلم والحرب ...تمُدُّهم بالشوق والإيمان ، بل بالطمأنينة والحيرة ، بالحب والصمت ، بالحياة والموت .وهي التي قالت:
- "فتحتُ قلبي بسلام ، وسجدتُ ضارعة :إلهي !بالتجلي الأعظم !بُثَّ حبي في قلب كل من يرى وجهي !".


هي هناك في شباب دائم ، تعبدُ الله ليلا ، فيما تقسم نهارها بين ترتيب نظم صوفي رطب وسقي كل الشجرات، بما فيها النخلة المجدوعة التي تجلسُ إليها تُناجيها وتتلمسُ جزءها العلوي المقطوع قبل أن تلتفتَ إلى نحلاتها حيث تجلس جوار جبح النحل تحمل إليه الماء بين كفيها فيتسارع إلى عبِّ قطرات منه..وهي تحاوره كأنما تُعلمه وهو حولها جذلان دائخ برحيق المحبة المختوم .

كانت ،بشعرها الفاحم ،تُنير بوابات الصحاري الفسيحة ، بل مُزنة تثلج صدور النهارات الصاهدة .

قريبة من ربها ، ومن شدة توحدها رماها بحُبِّهِ فطلاها حتى صارت لابسة قفطان النور والهيبة والعشق..وسط فتنة الحبق والزعتر والحُمِّيضة ..مَسْرارة ترتقي أدراج شهوة غير مسقوفة ..مفتوحة على سماء ربنا .

كل يوم في منتصف النهار ،يزورها رجل طويل القامة ، طويل جدا ، سمراني ذو شعر أسود يتدلى على كتفيه ، يلبس جلبابا قصيرا يصل إلى ركبتيه .يحمل باستمرار على كتفيه قربة جلدية مشعرة ، يملأها ماء من عين الولية. ثم يجلس إليها لفترة يُحدثها وتحدثه وبينهما طعام هيأته من فواكه جنتها .

ينصرف السمراني إلى حاله وسط الصحراء ، بعدما يكون قد ملأ قربته ماءً وعينيه شوقا نديًّا زُلالا من وليته .ينصرف مثل كل يوم باحثا عن جفنات صخرية في أماكن مختلفة يصبُّ فيها ماءً ترتوي منه حيوانات الصحراء، من أفاع وسحليات وعقارب، ترتوي معها حشرات وعصافير أخطأت طريقها وعَبَرَت في مسار لا يُسنده زمن .كما يحصل أن يلتقي بتجار وشعراء جفت حلوقهم فيروي عطشهم ..مواصلا بحثه عمن هم في حاجة إلى ظل الله في فيافيه.

ومع تقدم الزمن شاع، ما يشبه الأسطورة ،عن الغريب السمراني الذي ألٍفَتْهُ حيوانات الصحراء وقُدرته على الطيران من مكان لآخر بحثا عن الدانين من الهلاك عطشا.

أما هي ، فكانت هناك ،نور الرب المشع ، تنتظر شيخها وقنديلها الذي لا يُخلف مواعيده أو يغيرها إلا يوم الخميس لما يأتيها بعد العصر محملا بأكل من عنده ، وأثناء الأكل يُخرج من صُرة زرقاء لديه، ياقوتة في حجم حبة حمص لمَّاعة ..يدقها بعناية إلى أن تتحول إلى غُبار فيذرها على الأكل بانتشاء .
يجلسان قرب النخلة المجدوعة ، يطوف بالقرب منهما كل النحل ، يطن سعيدا ، يُلاعب رنين صوت الولية ذي المذاق العسلي.(نحلات بالتناوب كانت تقترب من شفتيها العسليتين فتمتص رحيقهما وتطير فاسحة المجال لأخريات ).

- وأنت تكلمينني ..يتحرق قلبي شوقا لرنينك.لو فتحتُ لك قلبي وأطللتِ عليه لوجدتِهِ في خلوته يجذبُ وروحي وسطه تحاول تهدئته وهو لا يستجيب إلا لرنين صوتك يا وليتي الخالدة المخلدة .كل شيء فيك.. فيه شئ من ربي .

أنهى كلامه منتظرا ردَّها ، لكنها ،هامت مبتسمة،ثم تحولت تنظر في عينيه المسبلتين وقد لثمهما الوجد.

عاد يقول لها وأساريره منفرجة :
- إني أرى روحك الآن وهي تُخمن في هذي النخلة المجذوعة ،وتعتقدين أني الجزء الناقص ...
ثم يقوم واقفا فوق الجزء المتبقي من النخلة فتراه وقد صار نخلة كاملة .تمدُّ إليه يُمناها، تتلمس رأسه كأنما تسعى لقطف بعض حكمه الدانية ..فتدمع عيناه بما يشبه الحليب .
- أنا لا أحتمل .امنحيني رمانة تكتنز حليب الحياة فأفك كل الغموض المهتاج في طرق الظلام البعيدة وهي تعارك أسرارنا المحملة بخرائط وخزائن أقواس النصر والنور.
أنا وأنتِ اليوم مثل صلصال في اليوم السابع ..فلنكتب كل شيء بدون ارتياب.

• رسائل سيد العزيز
قضينا باقي أيام الأسبوع وسط مدينة طرابلس بين الأصدقاء نتداول أحاديثنا في مجالس متفرقة ومفتوحة.ورغم ذلك بقيتُ منشغلا عنهم بالرسائل التي تسلمتُها من سمدونة، فكنتُ أختفي عن الجميع في غابة النصر وسط المروج ،ذات الرائحة الزكية لأقرأها وأعاود التأمل فيها رابطا بين كل ما عشته معه من قبل .وقد شعرتُ بأسى كوني لم آخذ معه، آنذاك، صورة حتى ألتمس الحقيقة في كل ما أسمع وأقرأ وأكتب.
لم أعد أبحثُ عن ترتيب خطاباته غير المؤرخة ، ولكنني أوردها كما هي دون عناء ، باستثناء إدخال بعض التصويبات اللغوية البسيطة من غير الإخلال بأي معنى من معانيه الأكروباتية والتي لا يقدر عليها إلا الواحد الأوحد .

تقول الرسالة الأولى :
" سمدونتي العزيزة ،
الحياة التي أحبها ما زالت ضائعة .أنا وأنتِ هنا ..لماذا ؟ تعالي نرحل إلى الروم بإيطاليا ..لديَّ أصدقاء، هناك، لا يحبون موسولوني الذي استعمرنا قديما ، ويقدرون عمنا عمر المختار، ولنستخلف من بعدنا يوسف بُلكّين بن زيري الصنهاجي ."

لستُ مهيئا لفهم كل رموز هذه الرسالة .فمن شدة وضوحها، تبدو مُغرقة في الغموض .وأنا أقول هذا الكلام لاعتقادي أني أفهم شخصية سيد العزيز ، رغم الساعات القليلة التي جمعتنا .وقد كنتُ أعتقدُ أني قادرٌ على إخفاء سلاسل من المعاني الراقدة خلف الكلمات" البريئة"، فإذا بي أجدُني عاجزا أمام خطابات صديق عابر .
ما أدهشني أن يطلبَ الهجرة أو الفرار إلى إيطاليا ثم يستخلفَ شخصا يعودُ إلى مئات السنوات.
عدتُ بلا تردد أبحثُ في كتب التاريخ عن يوسف بلكين الصنهاجي فوجدتُ أمامي مؤلف "النجوم الزاهرة " لابن تغري بردي ، كما عدتُ إلى المقريزي وابن الأثير وياقوت الحموي ..وجميعهم يتحدثون عنه وعن المعز لدين الله:
" وخرج المعزُّ من المغرب في سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد أن استخلفَ على افريقية [يوسف] بلكين بن زيري الصنهاجي .وجَدَّ المعز في السير في خزائنه وجيوشه حتى دخل الإسكندرية في شعبان سنة اثنين وستين وثلاثمائة.
وقال عبد الجبار البصري :وكان السبب في مجيئه إلى مصر أن الروم كانوا قد استولوا على الشام والثغور وطرطوس وانطاكية ."

تقول الرسالة الثانية :
" سمدونة عزيزتي ،
المغربي شعيب حليفي لا تثقي فيه أو تصدقيه في كل ما يقول ويكتب .سيجري قتله قريبا ،إنه يكتبُ من أرشيف الألف سنة القادمة ويريدُ إقناعنا بأنه يتحدثُ عن الحاضر وعن الألف سنة المنصرمة ."

هذا أهم نص بالنسبة لي .وبالتأكيد فقد كتبه سيد عقب رجوعي إلى المغرب في رحلتي السابقة ونشرتُ وقائع رحلتي تلك على نطاق واسع .وأكيد انه اطلع عليها رغم أني لم أورد ،من حواراتي معه إلا أقل من عشرة بالمائة، فيما الباقي من حواراتنا المتنوعة مهمل في ركن من ذاكرتي ، أتذكرُ الآن كل فصوله .ومما قاله لي في آخر لقاء بيننا بالمقهى بأنه سيوصي سمدونة بألا تثق في كل ما أقوله لها عنه ؛ وانتقدَ بشدة نصوصا سابقة كان قد قرأها لي ، ومن ضمن تعليقاته عنها قوله بأني أكتبُ عن الألف سنة القادمة .وقد اعتبرتُ كلامه ، آنذاك ، من وحي ضغط "معسل الشيشة" التي كان يعبُّ منها عبا.
إنه ينعتني بالساحر المالك لكتاب الغيب ، أقَلِّبُ فيه تقليبا ؛لكن الجملة المُريبة هي حينما قال بأنه "سيجري قتلي قريبا".
ما هذا اللعب بالكلمات وماذا تُخفي في رنينها المدوي والصامت ؟
(هل هي مصادفة بين ما قاله سيد في هذه الرسالة وبين ما سأعيشه بعد شهرين في الرحلة الخامسة حينما عشتُ تجربة الدنو كثيرا من الموت ).

يقول سيد في رسالته الثالثة :
سمدونة عزيزتي ،
لا وصية لي سوى عن نفسك ، وعن السواد الذي يطلي كل جسدك وقد أبهر الملائكة والشياطين ."

لا توجد رسالة تُشبه الأخرى ، بل لا يوجد رابط ظاهري باستثناء أنها موجهة من شخص بعينه إلى مرسل إليها معلومة .

في كثير من أحاديثنا التي لم أوردها في النص السابق، كان سيد يتغزل في سواد بشرتها قبل أن يتحول إلى الهزل وهو يقول لي بأن لون الملائكة أسود؛ وبأن السواد أيضا هو لون الحياة المفضل لذلك فهو يحب الملائكة والحياة .

• بروق العابدة في جنتها
في واحتها بالقرب من عين الماء المتدفقة تجلسُ العابدة وهي تغزل أعلام النصر لجيوشنا المرابطة على حافّات الخيال المعتق من مراكش إلى حلب إلى انطاكية مرورا بدروب تُخبئ التين المجفف إلى جوار صناديق من خشب العرعار، ملآى بكل العصور القادمة وعلى شمالها صناديق أخرى من خشب الأكاجو بها كل أنواع البخور القادمة من الهند وكامبوديا واليمن ، وعلى يمينها قطع كبيرة من حجر الكحل اللامع الذي يجعل العيون المكتحلة به لا ترى إلا سيدها وحبيبها مستعجلة الليل إلى قبته بل إلى حضنه اللاهب تختلي إليه بالعيون اللواتي نضحن بمقامات الحياة كلها .

في واحتها بالقرب من عين الماء ،جلست الولية العابدة حزينة في انتظار سيدنا السمراني الذي تأخر هذه المرة ، ولما رفعت رأسها إلى السماء رأت الشمس وقد ارْتَجَّت فازداد هلعها وخفق قلبها كما لم يخفق من قبل، وأحسَّ النحل الذي كان حولها طائفا خاشعا ..بارتيابها وقلقها الذي لم يعد مختبئا بين ضلوعها مثل حنان هش أو ألفة أبدية ..فابتعدَ مرتجفا ، يُنصتُ إليها وهي تُهمهم:
- يا مَا زِغْ وفاطمي وأيها الغازي كل أرواحي.."كل الطرق تعبرُ تحت أقدامك ، باستثناء الطريق الذي يقود إليك ."

عادت وقد دمعت عيناها ، فأحست بالرغبة في الحديث إليه بعدما ساورتها شكوك مدمرة.

-"أنا رَسْمٌ إلاَهيٌّ في هَذَا العَرَاء..وَمَعْبَرٌ لِكَلِمَةٍ مِنْكَ.كَلِمَةٍ منكَ أنتَ فقط...تُدَمِّرُني أو تُحْييني.فأي سطوة لكَ على رُوحي؟."
-"استمعْ إلى حديثِ قلبي.وأصخ إلى صوت الوحدة وهول الغياب.استمعْ إلى الحلم الذي هو في حالة فرار..وإلى الشيء الذي لم يكن أبدا ."

أغمضتِ الولية العابدة عينيها ، وكان الغروب يزحفُ بذهول ، خلفهُ غيومٌ شاردة لا تدري شيئا مما يجري ولكنها ترى حبّا محجوزا في صدر تلك الولية التي تُتاخم الجنة وقد انحبس رنينها .
آخر مرة رأت فيها السمراني كانت بالأمس فقط ،حينما جاءها مدويا بسعادته المفرطة وقد حوَّلته إلى إنسان آخر ، يأخذها بين يديه قائلا بصوت مرتعش :
- " امنحيني نفسك كلية يا وليتي ...أمنحكِ بصري ترينَ به كل شئ. امنحيني روحك لأُحمَّلها سلالتي التي ستُعمر الأرض."

(شرعت الولية العابدة ، هنا ، تحكي بقية ما جرى ، وعيناها مغمضَّتان):
لم أُكلمهُ وإنما ارتعدتْ فرائصي النائمة وشعرتُ بقيود صدئة في وجداني تكسرها كلمات سيدي السمراني ،ثم نظرتُ إليه وعيناي شبه نائمتين ، فكلما رأيته، في فيضه البليغ، يتخدر كل شيء فيّ.. كأني في لحظة واحدة ،أردت البقاء إلى الأبد وأمنحه فرصة أخرى للكلام .

ارتخيتُ على صدره فتشربتُ سكرة الحياة وراق قلبي وقلتُ له بصوت لن تصل إليه الكتابة :
- " كلمني أيضا وأيضا ..قل لي الشيء الذي لا ينقال .امنحني نفسك كليا.أنا هنا .هنا فقط. على حافة الحلم أتعلقُ بكَ في الجهة اليسرى من صدرك .استمعُ إلى صوت عذب من دقات قلبك العاشق."

ثم ابتعدتُ عنه.نظرتُ في عينيه فرأيتُ السمراني مثل نبي ينتظر رسالاته منذ آلاف السنين ..وها أنتَ تأتيني متنكرا في لبوس سقاء يروي الصحاري .
عدتُ مبتعدة .دخلت خيمتي. جلستُ القرفصاء ثم وضعتُ رأسي بين ركبتيَّ فيما ضممتُ يديَّ فوق رأسي وسمعته يقول آخر كلماته ويمضي :
- " كل لحظة في زمني لا ترويها إلا أنفاسك.
اللحظة حانت .وليُّكِ هنا.ومن لا ولي له يضل الطريق ويفقد البصر ."

ثم اختفى يا عيني ..وبقيتُ وحيدةً بعدما ألفتُ قدومه بين يديَّ لعقود لم يتخلف فيها يوما واحدا.

***

قامت من مكانها دون أن تفتح عينيها وراحت تتلمس طريقها مثل أعمى حزين ، إلى أن دنت من النخلة المجدوعة ، ثم وضعت يدها اليمنى على قلبها فيما مدت يدها اليسرى وصاحت :
- يا سيدي ، يا فاطمي الذي فطمني على عبادته، سأحجز بصري عن رؤية أي شيء حتى تعود لتكون أول وآخر شيء تراه عيني.

• مرة أخرى
دنا سفرنا وبدأتِ الوفود ترحل تباعا، ولم يتبق بالفندق في اليومين الأخيرين سوانا ونفر قليل ، فأحسسنا ببعض التوحد وعدنا إلى تذكر رحلة عودتنا للانخراط من جديد في مشاغلنا التي لا تنتهي .
***
ما زالت جُملة سيد العزيز ، غير المفهومة: "سيجري قتلي قريبا "ترنُّ في خزائن تأويلاتي ، هل أشرحها بما وقع له أم بما كاد أن يُصبح في حكم الحقيقة فأتحول إلى خبر عاجل يتحدثُ عن سقوط طائرة لم تكن بها علبة سوداء ..فقد بات من المؤكد أن سيد قد قتل في تلك الأدغال غريبا خلال الشهور الثلاثة الأولى من هجرته .تمنيتُ لو كنتُ متفرغا وأعمل لحساب صحيفة كبرى لانتدبتُ نفسي للسفر إليهم ، هناك حيث سفحوا دمه المريب ، لانجاز تحقيق كامل أملأ به كل الثقوب الفارغة في سيرته .

ما زال أمامي أمل بعيد ووحيد أنتظره في عودة ميمون وعبد السلام إذا ما بقيا على قيد الحياة ..فهما الوحيدان اللذان سيرويان لي ما جرى وما أسرَّ به لهما سيد .
يقول في رسالته الرابعة :
- "انتظرتكِ بالأمس كثيرا حتى شعرتُ بالملل ، واعتقدتُ أنك نسيتِ سوادك الحالك والبارع ! "

كل رسالة من رسائله المشفرة قرأتُها مرات ومرات فأجدها رغم بساطتها، تحمل المعنى الظاهر ونقيضه ؛ كأنه يريد بصم الغموض في كل أثر يخلفه .
وتقول رسالته الخامسة:
- " عزيزتي سين ،
يوم الغد ، قبل الفجر بساعتين ، سأنتظرك بغابة النصر ، جوار الورش ."
وجاء في رسالته السادسة والأخيرة :
- "لقد تم تأجيل الموعد إلى يوم الأحد ،في نفس التوقيت والمكان .لا تُخبري أحدا بالأمر .سنكون في انتظارك ."
***
من المعلومات التي روتها لي سمدونة أنها ، بدورها ، لم تره منذ اختفائه عني ، وظلت تتلقى رسائله من تحت باب البيت قبل أن تعلم برحيله مع أخيها ميمون وعبد السلام.أما الموعد الذي ضربه لها فقد خلفته لأنها لم تستفق في الوقت المعلوم .
لم أفهم لماذا اختفى وبقي بعيدا عن سمدونة ؟ أم هي لعبة من ألاعيبه الضرورية ؟
لا يبدو عليها أي حزن أو ارتباط وجداني بسيدها العزيز ، بدليل أنها سلمتني الرسائل وكأنها تتخلص منها .وقد أوحى إليَّ ملاكي ونبهني إلى احتمال ممكن ،في كل ما وقع،أن يكون سيد العزيز هو من دبر كل شيء ومرر لي عبر سمدونة الحكاية والرسائل . وربما باتفاق مع علي العالمي أو باتوس الأول وآموناس أو المعز لدين الله أو جوهر الصقلي قائد جيوش الخليفة العبيدي الفاطمي وربما الخليفة يوسف بن زيري ...من يدري ! ؟.
***

نسيتُ أمر سمدونة وسيد ؛ ولكنني لم أنس جنة" غابة النصر " وكل أصدقائي هناك ، الأحياء الذين التقيتهم خلال الخمسة أيام ، أو أولئك الذين يحيون في السماء ممن كانوا أصحاب هذه الواحة وقد أحسستُ أنهم إلى جوارنا كل الوقت ..وأن الولية العابدة قد فتحت عينها لتراني ثم تذوب في وجداني .
chouaibhalifi@yahoo.fr

إحالات
(1) – تأتي هذه الرحلة بعد ثلاث رحلات سابقة،لي، إلى طرابلس :الأولى في 22 ماي 2007 ؛الثانية في 18 يوليوز 2008؛ الثالثة في 22 يونيو 2009، وهي التي دونتها في نص رحلي بعنوان : كازابلانكا تريبولي : ذهاب وإياب ؛ وأما الرابعة فكانت في 23 أبريل 2010ويمثلها هذا النص ، فيما هناك رحلة خامسة يومي 29و30 ماي 2010 ستتم الإشارة إليها في هذا النص .

(2) – الوفد المغربي المسافر في هذه الرحلة ، يتكون من : بهاء الطود ، كمال عبد اللطيف ،ثريا إقبال، عبد الرحيم العلام، بديعة الراضي، شعيب حليفي.

CONVERSATION

0 comments: