من أجل عروبة جديدة/ زهير الخويلدي


"من تكلم العربية فهو عربي" حديث شريف

في الهزيع الأول من القرن الواحد والعشرين يقف العرب وحدهم صامدين في الواجهة الأمامية من جبهة التصدي للمشاريع التوسعية الاختراقية المعولمة التي فرضتها عليهم الايديولوجيات العنصرية والمغلقة. وتلوح حضارة اقرأ بالمخزون الرمزي من المقاومة أبية عن كل معتدي وعنيدة عن كل استقطاب وموظفة في ذلك موروث الأجداد في دحر الاستعمار وطرد المحتل ومستلهمة من المؤامرات والمحن التي تتعرض لها روح الشجاعة والبطولة ومتمسكة بأخلاق العزة والكرامة ومفعلة لكل أشكال النضال السياسي والثقافي والاجتماعي ضد عقلية الاستسلام في الداخل والانتقام من الخارج.

لقد حددت الأمة هدفها باكرا منذ تعرضت لنكبة الاستعمار والاستيطان ومنذ حلت فوق ديارها جحافل الجيوش الغازية وغطى الجراد سمائها الزرقاء الناصعة ورسم لها رجالها وكتابها وشعرائها وفنانيها وساستها ورموزها وقادتها وفقهائها ومصلحيها وجهتها وأجندتها ومنطلقها وبذلوا كل ما في وسعهم نحو تفعيل ذلك وإقامة دولة الاستقلال القطرية التي تكون اللبنة الأولى نحو التوحيد الشامل للعرب من المحيط إلى الخليج عبر آليات تشاورية ديمقراطية تحتكم إلى رأي الشعب الكريم وقواه العاملة ونخبه المثقفة.

لا ندري ماذا كان حال الأمة وماذا كان قد يحصل لها لو غاب عنها مشروعها ونسيت لحظة واحدة هدفها وأضاعت علاقتها برسالتها وأدارت ظهرها عن مستقبل أبنائها ومقترحات مثقفيها وتوصيات مناضليها وتضحيات شهدائها، ولا ندري ماذا سيكون مصير الملة لو اختفت من مسرح وعيها أفكار التوحد والتقدم والممانعة والتغيير الاجتماعي والديمقراطية الجذرية وغابت عن رشدها قيم التحديث والنهوض بكرامة الإنسان والانتصار لقيم الحق والعدالة والانخراط في الثورة الثقافية والإصلاح الديني والتنمية الاقتصادية.

لقد كانت هذه الأفكار في تلك الفترة العصيبة نظرية ثورية جاءت لتسد الحاجة النظرية والرغبة العملية نحو تحقيق التماسك المعرفي والأمان السياسي لتخلق بعد ذلك استراتيجيا شاملة وطدت دعائم الدولة الأمة ورفعت رايات العروبة عاليا في العالم وحلت محل رايات الطامعين من شركاء الدين ونظراء الجغرافيا.

ما يحسب على الفكر العربي أنه استأنف مسيرة التحضر وأشعل مصابيح النهضة مجددا وأخرج الشعب من ظلام القرون الوسطى وبعث الناس من رقادهم وأعاد إليهم الأمل في تحمل مسؤولية وجودهم وفي صنع مصيرهم بأنفسهم وبين لهم حدا فاصلا بين أصدقائهم وأعدائهم وحثهم على التمسك بأرضهم وعرضهم والاستفادة من قدراتهم وثرواتهم ومن وقتهم والتزود بالعلم والمعرفة قصد التخطيط للمستقبل.

لا يمكن أن نتصور أمة تعيش حاضرها وتقبل على الآتي وتخطو نحو المستقبل دون مشروع يستلهم ملحمات رجالها وتضحيات أبطالها ويستفيد من الكنوز النيرة والمدخرات الرمزية التي يتضمنها ماضيها، ومن هذا المنطلق يبدو من غير اللائق أن نتحدث عن المذهب والطائفة والقطر والاقليم والأقلية والمحلية خاصة ونحن نعيش في عصر عولمة تفكيكية وفي مواجهة امبراطورية نيوكوليانية تستعمل أدوات دعائية نموذجية وغير مرئية من أجل اختراق العقول وترويض الأجساد ، ولا ينجو منها سوى الشعوب التي تمتلك نواة حضارية خلاقة ورأسمال ثقافي متين وعروة وثقى أو تلك المجتمعات التي تعتمد منطق التكتل والتوحد والائتلاف والانصهار والتجبيه والتعاون، ومن الراسخ أن أمة الضاد هي الأقدر من غيرها على الوقوف بمفردها في مواجهة هذه التحديات شريطة أن تقوي الجبهة الداخلية وأن تنهي حالة الانقسام بين المجتمع الأهلي والطبقة الحاكمة وأن تضمد الجراح التي سببها لها الاستعمار والاستبداد.

صحيح أن التجربة السياسية التي جعلت من العروبة خلفيتها النظرية كانت دامية ومتوترة وخلفت العديد من المآسي والضحايا والكوارث وبررت الاضطهاد والعنف والاقتتال الداخلي وصحيح أيضا أن البعض ارتكب حماقات ونكسات وسبب هزات باسم العروبة ولكنها بنت مشروعا ورسمت مسطح محايثة للمدنية العربية ورصعت أركان الهوية التي أبانت عن جملة من الخصائص والعلامات التي تفردها عن الغيرية.

ولقد ارتكب العرب أنظمة رسمية وهيئات تابعة للمجتمع المدني تجاوزات وتعديات،وقامت الحكومات والأحزاب بأخطاء فادحة وفيهم من ذهب إلى أقصى اليمين والى أقصى اليسار وفيهم من نظر للعدمية والفوضوية وفيهم من اقتنع بالتقليد والعودة القهقرى وتبنى الماضوية وقد انعكس ذلك سلبا على حالهم ففقدوا البوصلة وخرجوا من التاريخ وتفرقوا شيعا ونحلا وتقطعت بهم الأوصال فسقطوا في الدوائر الضيقة وبجلوا مصلحة العشيرة على الوطن والغنيمة على العقيدة وهيمنت صورة العائلة والزعامة الأبوية على مخيالهم السياسي، وتكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب وتزايدت أطماع دول الجوار في ثرواتهم وأراضيهم، ولكن مازال هناك من يبني ويعمر و يتشبث بالأمل ويدفع بالناس إلى الأمام وينهض الهمم ويحفز النفوس ويرص الصفوف ويلم الشتات بغية الاستثبات.

إن المشروع العربي مازال راهنا وواقعيا طالما أن أغراضه مازالت لم تستنفذ بعد وطالما أن العرب ليس لهم خيار آخر غير الوحدة والنضال معا ضد الامبريالية والصهيونية وليس لهم من حل سوى رد كل التحرشات الخارجية طالما أن أرضهم مازالت محتلة والثروات منهوبة والشعوب العاملة مستغلة من طرف مالكي رأسمال العالمي وطالما أن الشركات الاحتكارية تتصرف بحرية في مدخراتهم والفئات ذات المصالح الربحية الأنانية الضيقة تضغط على رقابهم وتتحكم في مصيرهم.

صحيح أن العروبة هي دائرة انتماء وأنها جوهر الإسلام وركيزته الروحية وقوامه المادي وصحيح أيضا أن الإسلام المحمدي في نسخته التنويرية الاجتهادية وفي طابعه المنفتح المتطور هو النبراس الهادي للعروبة وأفقها المضيء ولكن الخوف هو أن تتحول العروبة إلى هوية منطوية على ذاتها وإيديولوجيا كليانية تجمد الحراك الداخلي وتلغي التنوعات والفوارق الذاتية وتحكم بالقبضة الحديدية، وأيضا الخشية هي أن يتحول الإسلام إلى محاكاة لتقاليد بالية وفرض نسق شمولي من الأحكام الإطلاقية التي تغيب الزمانية والتاريخية التي تعيشها المجتمعات في عالم الحياة ويفقد سلامه ورحابته وسماحته.

من هذا المنطلق يجدر بنا تفعيل آليات تجديد الفكر القومي والمناداة بعروبة جديدة خالية من الأفكار المتصلبة التي ظهرت إبان فترة التحرر والبناء. زد على ذلك ينبغي أن يتم دمج المشروع القومي مع المشروع الإسلامي ضمن تصور أكثر ترابطية بين اللغة والدين والتاريخ والثقافة والمجتمع وأكثر عقلانية وتقدمية، ويجب أن تعاد صياغة أرضية تعاقدية لتشكيل الهوية الوطنية على قاعدة تفاوضية تساهم فيها جميع الخصوصيات في فضاء عمومي تواصلي مع نبذ كل تمركز عرقي أو مذهبي أو جهوي والقطع مع أسلوب فض النزاعات الداخلية بالقوة العسكرية.

ما أحوج العرب إلى إسلامهم المستنير والمسلمون إلى عروبتهم حتى يعودوا إلى أنفسهم ويتصالحوا مع ذواتهم وحتى ينتشرون في الأرض ينقحون الأفق ويتطلعون إلى المستقبل بقلوب متقدة وأيادي عاملة وعقول منتبهة وعيون حالمة وآذان صاغية لصوت الحياة ونداء الوجود، وما أروع أن يتم ذلك على هدي التراث الديني النير وبالاستفادة من القيم الإنسانية التقدمية ومن تجارب الشعوب الناهضة والمتحفزة.

إن المطلوب هو الجمع بين العروبة السردية والمسيحية الوطنية والإسلام المستنير الذي يضعه التأويل العلمي على يسار الصهيونية والامبريالية والرجعية وبين القيم الإنسانية التقدمية من إنصاف وحرية وصفح والاستناد إلى الحكم الجمالي في العمل التمديني ضمن رؤية حيوية للسياسة تستفيد من المنعطفات الكبرى في منظومة حقوق الإنسان وتقدر حقوق الشعوب حق قدرها مع إحداث توازن قانوني بين الأقليات والأغلبية في إطار نظام سياسي علماني فوق طائفي وما بعد لاهوتي.

إن العرب لهم ما يكفي من المؤونة الفكرية والمدد الروحي والمعين الأخلاقي الذي يؤهلهم للاضطلاع بتدبير شؤون مستقبلهم وهم في ذلك لا ينتظرون العون والدروس من أحد لكي يتعلموا فن الحكم وحسن القيادة وموهبة التسيير ويكفي أن يعولوا على ذواتهم ويستفيدوا من خبراتهم ومقدراتهم وكفاءاتهم البشرية وما تتمتع به نخبهم من ذكاء وإبداعية حتى يتمكنوا من صنع المعجزات وتحقيق الاستفاقة المنشودة.

غير أن تجديد الفكر العربي لا يعني التبديد والتفريط في الثوابت والتخلي عن العرض والأرض وتقديم تنازلات مذلة ودون موجب للطرف المعادي بل تعني المزيد من التسلح باستراتيجيات التثوير والتطوير وعقلنة أدوات المقاومة وتمكين العقل العربي من الجرعة النقدية اللازمة لإعداد العدة من أجل تدبير مقتضيات المرحلة القادمة على أسس ناجعة ووفق تكتيكات ملائمة.

لعل الدرس الأكبر الذي ينبغي أن نضعه نصب أعيننا هو ألا تتكرر مأساة الغزو والاحتلال لبعض الأقطار وألا نخترق في عمقنا الاستراتيجي مرة أخرى وألا نأخذ على حين غرة وان ألا نسهم في تدمير أنفسنا بقوتنا ومالنا وألا نسمح لغيرنا بأن يعتدي علينا من أرضنا وأن يستخدم أجواءنا وممراتنا البحرية ومياهنا الإقليمية لتضييق الخناق علينا. كما يجب أن نقول للعالم أن خيار السلام مع الأعداء لم يعد الطريق الاستراتيجي النافع للمنطقة وبالتالي ينبغي التوقف عن الهرولة نحو التطبيع المجاني والانبطاح المذل، لكن كيف نجعل من مشروع الوحدة العربية وتحرير الأرض واستعادة مشعل الحضارة وناصية التقدم أكثر المطالب الديمقراطية راهنية وواقعية بالنسبة لكل ناطق بلغة الضاد؟

كاتب فلسفي

CONVERSATION

0 comments: