تلقيت رسالة إلكترونية من مواطن يمني من عــَدن، يعقب فيها على ما كتبته مؤخرا حول ما يـُسمى بـ "الربيع العربي". ولأن ما جاء في الرسالة مهم وكـُتب من وحي ما عايشه صاحبها بنفسه خلال السنوات الأربعين الماضية من عمره من أحداث وتطورات عصفت بالبلاد العربية، رأيت أن أشارك القاريء الكريم فيها.
يبدو المواطن اليمني في تعقيبه محبطا ومتشائما من كل ما يجري اليوم على الساحة العربية تحت مسمى "الثورات الشعبية" أو "الربيع العربي"، بل يكاد يجزم بأن ما سيأتي لاحقا أسوأ بكثير مما مر سابقا على نحو ما كشفه لنا التاريخ العربي الحديث في مصر والعراق وسوريا وليبيا. أما السبب، كما يقول، فهو أن شعوبنا العربية وساستها وأحزابها وتنظيماتها تفهم الديمقراطية كرديف للفوضى والتخريب، بل لا تعرف معنى ومضامين الديمقراطية الحقة التي تطالب بها في الساحات والميادين، لأنها ببساطة شديدة لم ترب على هذا القيمة النبيلة وما يشتمل عليها من عدالة ومساواة وتسامح وإيثار وحوار حضاري وإحترام للآخر المختلف وإلتزام بالقانون، وبالتالي فهي معرضة للإنحراف نحو الفوضى والتسلط والإقصاء بإسم الديمقراطية.
وأستطيع هنا أن أضيف على لسان كاتب الرسالة أن لا مستقبل للديمقراطية في أي مكان، إلا بوجود الديمقراطيين، وهؤلاء للأسف عملة نادرة خصوصا في مجتمعاتنا العربية التي باتت تكتظ بالإقصائيين والطائفيين والموتورين سياسيا، وبالتالي فإن من يزعم بأن الديمقراطية لا تناسب إلا المجتمعات المتقدمة التي إخترعتها وروجت لها ورسختها في الأرض على مدى عقود من العمل المؤسساتي والسياسات المنهجية قبل أن تقطف ثمارها، لا يفتري ولا يتجنى.
ولنأخذ في هذا السياق عدن (مسقط رأس صاحب الرسالة) كمثال. فهي كانت، إلى ما قبل الإنسحاب البريطاني منها في منتصف الستينات تقريبا، جنة من جنان الدنيا بالمقارنة بما حولها، ومؤهلة أكثر من غيرها لتكون كيانا واعدا في جنوب الجزيرة العربية بفضل ما تركه المستعمر فيها من بنية تحتية جيدة نسبيا، وكوادر بشرية متعلمة ومدربة، وأجواء ثقافية تنويرية متسامحة، ولبنات أولى لإقامة مجتمع سياسي ديمقراطي تعددي، ناهيك عن موقعها الإستراتيجي المثالي كحلقة وصل ما بين الشرق والغرب، وروح شعبها الخلاقة المثابرة.
ولا أبالغ لو قلت أن عدن كانت وقتذاك مؤهلة لتصبح مثل أو حتى أفضل من سنغافورة، لو وجدتْ الحكومة الوطنية المحنكة والسياسي المتمتع بالرؤية الصائبة والعقل الراجح لقيادتها بعيدا عن العنتريات، والشعارات الفارغة، والأحلام الرومانسية. بل من المؤكد أنها كانت ستسلك دربا مختلفا لو تمسك شعبها بما رسمته لها الإدارة الإستعمارية قبيل إنسحابها، والمتمثل في كيان إتحادي تحت مسمى "إتحاد الجنوب العربي" الذي شمل سلطنات ومحميات ومشيخات جنوب اليمن، وكان شبيها إلى حد بعيد بما رسمه الإنجليز في ما يعرف اليوم بـ"الإتحاد الماليزي" قبيل إنسحابهم من سلطنات الملايو في عام 1957، وذلك حينما أسسوا لنموذج ملكي غير وراثي فريد، يتداول فيه سلاطين الولايات الحكم مداورة في ظل نظام ديمقراطي تعددي.
غير ان حظ عدن كان مغايرا لحظ سنغافورة والملايو بسبب التدخلات العربية في شئونها، وخصوصا من قبل الأنظمة العربية الثورية التي حرضت على الكيان المذكور ووصفته بالمؤامرة الإمبريالية، بل وجنــّدت كل ما تملك من أجل أن تكون لها كلمة وموقع قدم في خاصرة شبه الجزيرة العربية لترويج مفاهيمها الانقلابية البائسة.
وهكذا رأينا إنهيار حكومة إتحاد الجنوب العربي سريعا، وغياب الزعيم المحنك ذي الرؤية الثاقبة، مقابل بروز العشرات من الساسة والتنظيمات المرتهنة للإيديولوجيات الشمولية والأفكار القمعية والشعارات الفضفاضة من تلك التي كان يتغنى ويؤمن، بها نظراؤهم في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، علما بأن كل واحد من هؤلاء لم يكن معنيا بالجنوب العربي كوطن وشعب وإقتصاد ومستقبل قدر إهتمامه بأن يكون زعيما يصارع الآخرين على كعكة السلطة، أو مـُنفـّذا وحيدا لما يعتقد أنه الأصوب والأفضل.
من الأسماء التي برزت في تلك الحقبة المفصلية من تاريخ الجنوب العربي أتذكر النقابي "عبدالله الأصنج" زعيم إتحاد نقابات العمال، والمرحوم "عبدالقوي مكاوي" الذي صنعته الناصرية ليكون صوتها هناك، والمرحوم "قحطان الشعبي" المتماهي مع افكار المتطرفين من القوميين العرب (جماعة جورج حبش ونايف حواتمة) والذي صـُفي جسديا في ما بعد توليه رئاسة "اليمن الجنوبي" على أيدي رفاق له أشد تطرفا.
في برامج كل هؤلاء وغيرهم من رموز تلك المرحلة لم نقرأ أو نسمع شيئا عن الديمقراطية أو ما تشتمل عليه من عدالة ومساواة وحقوق وحريات وتعددية حزبية، مقابل تركيز شديد ومكرر على شعارات الوحدة والحرية والإشتراكية.
حينما أتذكر تلك المرحلة، التي كنا فيها مجرد مراهقين أسرى لما تذيعه إذاعة صوت العرب(خصوصا برامجها الموجهة للجنوب العربي وأغنية "إسكندر ثابت" الثورية التي يقول مطلعها "سلامي ألف للدولة، وللعسكر، وللشجعان في الأشعاب والبندر") وأسرى لتخرصات مذيعها الأشهر "أحمد سعيد"، المدغدغة للعواطف، أعلم كم كنا مخدوعين، وكم أسكرتنا الرومانسية الثورية التي لم نستفق منها إلا بعد أن غزا الشيب مفارقنا. حينها فقط أدركنا قيمة الديمقراطية في حياة الأوطان والشعوب، وأدركنا معها أن الديمقراطية الحقة لا تأتي بين يوم وليلة، وإنما هي حصيلة تجارب تراكمية طويلة، وأن إحتمال فشلها كبير في المجتمعات الموبؤة بالطائفية والعصبيات والنزعات الإٌقصائية وإختلاط السياسي بالديني.
من سؤ حظ عدن أنها لم تنجب شخصا مثل "لي كوان يو" الذي تصدى لمشاكل بلده (سنغافورة) بعد الإستقلال عن بريطانيا بحكمة وروية، وإبتعاد تام عن الضجيج والصراخ والشعارات الرنانة ودعوات التخلص من الإرث البريطاني الإمبريالي (رغم أنه بدأ حياته السياسية إشتراكيا)، مقابل التركيز على تمتين السلم الأهلي بين مكونات وطنه وبناء مرتكزات الدولة المدنية الحديثة وتحقيق النمو والإزدهار الإقتصادي، قبل الشروع في الإنفتاح السياسي. وهذا يشبه ما فعله نظيره الماليزي "تنكو عبدالرحمن" وخلفاؤه من بعده (ولا سيما مهاتير محمد) حينما رسخ المجتمع الديمقراطي التعددي وأركان الدولة المدنية الحديثة، وأطلق عجلة التنمية الإقتصادية، بصورة معاكسة لما كان يقوم به نظيره الإندونيسي "أحمد سوكارنو" من تكميم للأفواه، وتهديد للجيران، وتبديد للثروات.
ويمكن القول أن الزعيم الهندي الكبير "جواهر لال نهرو" - رغم كل ما يؤخذ عليه لجهة تبنيه سياسات إقتصادية إشتراكية وإعتماده لنهج التخطيط المركزي - سبق نظيريه السنغافوري والماليزي، ونجح قبلهما، في ما تبنياه من برامج سياسية لمرحلة ما بعد الإستقلال رغم إختلاف التحديات والمشاكل والضغوط الداخلية والخارجية التي كانت أقسى وأضخم في الحالة الهندية، وذلك حينما أسس لدولة القانون والمؤسسات، وتمسك بقوة بالديمقراطية المستندة إلى دعامتي العلمانية والفيدرالية كنهج لا حيدة عنه لتحقيق تطلعات الشعب الهندي وتعزيز وحدته، وحينما أصر أن يقود هو الجماهير بدلا من أن تقوده تطلعات ورغائب فئة منها ذي أهداف إقصائية وروح تسلطية ونزعة قومية.
د. عبدالله المدني
* باحث ومحاضرأكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: ديسمبر 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق