قبل أيام دُعيت لورشة عمل أو لقاء تفاكري يناقش موضوع "الدين وحقوق الإنسان في مسودة الدستور الفلسطيني ـ الدروس المستفادة من تجارب دول الربيع العربي"، حيث نظم اللقاء معهد الحقوق التابع لجامعة بير زيت، وفي الجلسة التي حضرتها قُدمت ثلاثة أوراق من قبل أساتذة في القانون، وترأس النقاش عميد كلية الحقوق بجامعة الأزهر بغزة.. الورقة الأولى ناقشت إشكالية العلاقة بين الدين والدولة منذ انهيار الخلافة العثمانية، وتطرق الباحث لدساتير المملكة المغربية وتونس ومصر وفلسطين.. أما الورقة الثانية قدمها باحث آخر تناول فيها نموذجين إسلاميين هما الدستور الإيراني، والدستور السعودي، وقدم لمحة تاريخية عن النموذجين.. أما الورقة الثالثة تطرق فيها الباحث إلى مفاهيم الشريعة الإسلامية وأحكامها ومبادئها.. وامتلأت الصالة بجمهور من المهتمين طلبة وكتاب ومحامين ومخاتير ..إلخ، أجمع الحضور في المداخلات والنقاشات التي دارت بعد تقديم الأوراق الثلاثة بموافقتهم التامة على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، علما بأن الحضور لم يشتمل على تيارات سياسية إسلامية، وكذلك يسارية، وإن وجد أفراد قلة من التيارين.. مما ثار لدي تساؤلات مهمة نحاول أن نناقشها هنا..
هل نعيب على منظمي اللقاء عدم حضور تلك التيارات السياسية؟ أم أن اللقاء كان يؤدي مهمة (مدفوعة الأجر) يريدون تسجيل إتمامها فقط ؟ أم أن ما قاموا به هو من قبيل العبث الأكاديمي الذي تعودنا عليه، وهو عزلة جامعاتنا الغزية عن المحيط ومشاكله المختلفة..؟ أم هي نظرة فوقية من قبل هؤلاء وكان عليهم اختيار جمهور من الطلبة ليمارسوا عليهم دور السلطة؟؟ مع احترامنا الكبير للباحثين الذين قدموا أوراقا ومعلومات قيمة بذلوا جهدا كبيرا ومضنيا في الوصول إليها لا يقدر بثمن.. لكنها تحتاج إلى وقت كبير لمناقشتها والخروج منها بتوصيات مفيدة.. أيضا لا نفهم ما جاء في عنوان اللقاء "الدروس المستفادة من تجارب الربيع العربي"؟ ماذا يقصد بذلك بالنسبة لنا..؟ حيث لم يتطرق أحد لذلك الموضوع، هل أصبح دستور تونس بعد الثورة دستورا يُحتذى به؟ هل في الثورة والصراع الجاري في مصر على الدستور إشارة لنا كفلسطينيين؟؟ أسئلة كثيرة لم تنتهي إن بقينا بعيدين عن الجوهر الحقيقي لمشكلة الدساتير العربية، ونحن جزء من تلك الأنظمة..
تلك الأنظمة سواء كانت دساتيرها تطبق الشريعة الإسلامية بشكل كامل أم بشكل جزئي؛ فهي لم ترتقي بشعوبها إلى مستوى أصغر دولة في أوروبا من ناحية حقوق الإنسان في تلك الدول، أو من النواحي الأخرى من أنشطة مجتمعاتها.. نحن لا نفهم كيف لم يخطر في ذهن الباحثين الأفاضل هذا الجوهر؟ لماذا لم يقم أحدهم بمقارنة الدستور الفرنسي أو السويسري بدستور عربي مثلا ؟ لماذا نستمر في طحن الهواء؟ الجميع يعرف أن أحكام الشريعة متباينة في التفسير والتأويل، والجميع يؤكد أنه بعد الفاروق ـ رضي الله عنه ـ لم يأتي حاكما عادلا مثله، والباحثين أكدوا لنا أن الأنظمة التي تعتمد في دساتيرها كل أحكام الشريعة أو جزء منها لا يقومون بتطبيقها تماما.. من يقول لنا أن آل سعود مثلا يطبقون أحكام الشريعة على أفراد العائلة الحاكمة مثلا..؟ ها نحن في غزة بعد ست سنوات من حكم حزب حماس التي تتخذ من الشريعة دستورا للحكم على شعب غزة.. هل يقول لي أحد أنها طبقت العدل في حكمها؟؟ ألا يكفي أنها شرذمت النسيج الاجتماعي والأسري والثقافي في غزة؟ ناهيكم عن الانقسام السياسي الذي طال كل مناحي الحياة للشعب الفلسطيني، ولا نعيد ما رصدته ووثقته منظمات حقوقية من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان على مدى السنوات الماضية !!
إذا كان الدستور يعني: "مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بنظام الحكم من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" فلماذا لم يتطرق الباحثون إلى النظام السياسي الفلسطيني؟ أليس هذا هو جوهر الصراع والتشظي وليست الشريعة الإسلامية إن كانت مصدرا للتشريع، أم لا..؟ نعتقد أن أحكام الشريعة في العبادات والمعاملات لم يختلف عليها أحد، بل الخلاف هو في الحاكم وطريقة الحكم.. وهذا هو الجوهر الذي يحتاج إلى مناقشة.. بمعنى علينا أن نسأل الناس ونستفتيهم في قبولهم، أم رفضهم لوجود أحزاب سياسية دينية!! أليست هذه هي المشكلة الرئيسية للشعوب العربية أيضا؟؟ لماذا لا نسأل أنفسنا سؤالا مهما عاشته أوروبا قبل أن ترتقي بالديمقراطية التي نطمح بتطبيقها لدينا..؟ لماذا لا تسمح دساتير تلك الدول بترخيص أحزاب دينية؟؟ هل نعود إلى تاريخ العصور القديمة والوسطى في حكم الكنيسة أو سيطرتها ومشاركتها في الحكم؟؟ نذكر قصة قديمة ـ كنا قد تعلمناها في مناهج البحث العلمي، تقول القصة: في أوروبا القرن الثالث عشر اجتمع قساوسة الكنيسة لكي يحددوا عدد الأسنان في فم الحصان، حيث كانت المعرفة في ذلك الوقت تنتجها الكنيسة فقط ! ولا يجوز أخذها من جهات أو أشخاص غير الكنيسة ورجال الدين.. وحين اجتمعوا ثلاثة جلسات لهذا الشأن ولم يتوصلوا لمعرفة عدد الأسنان في فم الحصان، تدخل أحد التلاميذ الذين كانوا يحضرون الجلسات؛ فطلب منهم أن يحضروا حصانا ويفتحوا فمه ليحصوا الأسنان فيه.. حينها شاط غضب القساوسة ورجموه بالأحذية وطردوه، ومن ثم حرموه من استكمال تعليمه.. من منا ينكر أن الشعوب الأوروبية دفعت ثمنا باهظا عبر قرون طويلة ثمنا للديمقراطية؟!
يا سادة! إذا لم نتعلم من تجاربنا وتجارب الآخرين؛ فلن يصلح حالنا، ولن نرتقي بشعوبنا.. دستورنا يجب أن يلبي حاجات شعبنا الذي عانى من الانقسام ولن يسمح باستمراره أو وقوعه من جديد.. دستورنا يجب أن يعالج القضية الاقتصادية التي أضعفت من صموده.. دستورنا يجب أن يعمل على تأصيل هويتنا في الوحدة وعموميات الثقافة التي مزقها الاحتلال ومن لف حوله.. دستورنا يجب أن يحدد علاقتنا بالشعوب والدول التي وقفت معنا ومنحتنا الثقة في أن نكون شعبا إنسانيا يشارك باقي شعوب الأرض إنجازاتها الحضارية.. يا سادة! لا توجد على الكوكب دولة صافية العرق أو اللون أو الدين.. ولا نعتقد أن دساتير الدول التي فصلت الدين عن السياسة لم تأخذ من الدين تشريعات وقوانينا تساهم في نشر العدل والحرية بين الناس.. لذا فليأخذ دستورنا من أحكام الشريعة ما يفيدنا ويعمل على حفظ التوازن بين قوى مجتمعنا.. لكن علينا ألا نسمح باستغلال الدين في صراع طبقي وفئوي يضعف من مسيرتنا وتحقيق أهدافنا.. علينا أن لا نُغيّب الجوهر عن الشكل والفطرة، نحو دستور فلسطيني يُحتذى به..
0 comments:
إرسال تعليق