الثورة العربية المقدمات والافاق/ عدنان عطية رمضان


بيت لحم

تعيش المجتمعات العربية ومنذ ثلاثة أشهر مرحلة تاريخية تولد من رحمها مجتمعات جديدة تختلف عن التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، فقد انطلقت ثورة الشعب التونسي ضد نظام زين العابدين بن علي رافعة شعارات الحرية والكرامة، ملخصة بذلك مطالب الجماهير التي تمردت على نظام الاستبداد والفساد ونهب الثروات، وصممت على إسقاط النظام حتى لو كلف ذلك تضحيات جسام، فهرب الطاغية وانتصر الشعب التونسي.

لقد الهم انتصار الثوار في تونس وهروب الطاغية الشباب العربي عموما والمصري تحديدا فعمت المظاهرات المدن والشوارع العربية ،بعد أن رأت النموذج وتحول الحلم إلى واقع مرئي فاندفعت الملايين التي أهمل صوتها و”ديس” على كرامتها ملهمة بتجربة تونس، فجاءت مصر بثورتها المبدعة وملايينها الهادرة ومكانتها في المشهد العربي والاقليمي، فتعلقت الأمة بشبابها في كل المدن المصرية وخاصة في ميدان التحرير ، وراقبتها لحظة بلحظة وأمدتها بكل التعاطف بكافة أشكاله كأن هذه الثورة ثورتهم ففيها يرى العربي مستقبله ومكانه على الأرض، لقد كانت الثورة بمثابة المنقذ من كل المآسي التي تعيشها الشعوب العربية فلبت مصر النداء والرجاء وتجاوزت بشعاراتها الإصلاح إلى تغيير النظام وبناء الدولة المدنية.

اندحر حسني مبارك بعد أن استمات في محاولات البقاء وكان الثمن مئات من الشهداء والضحايا، وفي أثناء ذلك وبعده ضج المشهد العربي بالحراك والنشاط السياسي والاجتماعي وارتفعت الأصوات الشعبية ضد الفساد والمحسوبية وضد لا شرعية الأنظمة العربية وعدم تمثيلها لشعوبها، وما بين الإصلاح والثورة يعيش العرب مخاضا عسيرا لولادة جديدة حيث تساهم الشعوب وكل المضطهدين في صناعة مولودها الجديد.

الأسباب الكامنة خلف الثورة

يعيش الوطن العربي حالة من الانكفاء القطري وتبديد الثروة والانكشاف المائي والغذائي والأمني والثقافي والاتجاه إلى الاستهلاك، كما تتسع الفجوة بين أقلية مرتفعة الثروة وأكثرية ضائعة في ردهات الفقر، وعزز من ذلك علاقة التبعية مع السوق العالمي .

التردي والتراجع الخطير في الأوضاع العامة نتج عن الخلل البنيوي المتمثل في التفاوت الكبير في توزيع الدخل وغياب الديمقراطية وتآكل الثروات وتراجع الإرادة للتغيير، الفروق الطبقية الهائلة والديون وانتشار الفساد ونزوح الرساميل والعقول والإحباط العام الناتج عن الإخفاق في إخراج الوطن العربي من مآزقه والتعامل مع قضايا الاستقلال الناجز والتبعية ومجابهة إسرائيل وعدم الاستغلال الأمثل للثروات وخاصة النفط، كل ذلك أوجد حالة عالية من الغضب والإحباط لدى غالبية العرب .

كما تتهدد الإنسان في الوطن العربي الكثير من المخاطر على رأسها يأتي النظام السياسي ونظام القوة والقمع وانعدام الحريات والنزاعات والحروب والاحتلالات العسكرية وعدم سيطرته على مقدراته وتنحيته عن المشاركة في القرار السياسي الاقتصادي مما يجعله غريبا في وطنه.

لقد عاشت المنطقة العربية في العقد الأخير تحولات كبرى وعلى درجة عالية من الأهمية مست بشكل مباشر كل العرب بكافة أطيافهم ومشاربهم وانتماءاتهم الطبقية والدينية والفكرية والقطرية، وكان واضحا وجليا أن هذه الأنظمة سقطت تماما منذ زمن على صعيد الشرعية الشعبية ، وحتى تكون القراءة أكثر علمية من الضروري الوقوف بصورة أكثر تحديدا أمام الأبعاد التي تشكل القوة الدافعة للثورة الجارية.

بالرغم من أن الوطن العربي يختزن في باطنه وعلى أرضه ثروات طبيعية ضخمة،بما في ذلك المخزون الاحتياطي الهائل من النفط، و الكثير من الثروات الزراعية والبشرية فإن البلدان العربية تستورد أكبر جانب من حاجاتها الاستهلاكية ولا تنتجها ،حيث يستورد الوطن العربي معظم حاجاته من الغذاء ويعتبر الأمن الغذائي من أهم التحديات التي تواجه الوطن العربي

الثروة النفطية العربية رغم كثافة عائداتها فأنها لم تكن قادرة على تمويل عملية التنمية العربية الشاملة ، فالنفط العربي بمقدار ما وفر من ثروات للبعض فقد وفر تهديدات وأوجد خللا في بنية النظام والمجتمع العربي وقاد إلى اكبر حروب المنطقة، فالثروة عمقت الخلافات والفروقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأغرت العالم باستعمار المنطقة والسيطرة عليها في ظل الضعف العربي، فدفع المواطن في الدول غير النفطية ثمن النفط آلاما وتضحيات ولم ينعم بعائداته، فغالبية السكان في الوطن العربي تعيش حالة فقر، فقد بلغ نصيب الفرد حوالي 4095 $ سنويا مع العلم أن 90% من السكان تعيش بمعدل اقل من هذا بكثير، ويعيش أكثر من 20 مليون تحت خط الفقر الدولي وهناك 35 مليون عربي يعيشون في فقر مدقع بالإضافة الى65 مليون عربي يعيشون في فقر حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

لقد بلغت قوة العمل أكثر من 82 مليون معظمهم يعمل في قطاع الخدمات نتيجة الخلل في البنية الاقتصادية ، ووصلت معدلات البطالة أرقاما قياسية بلغت أكثر من 14% وترتفع هذه النسبة بشكل كبير بين الشباب خاصة وانه مطلوب توفير ما يزيد عن 50 مليون وظيفة للقوى العاملة في العام 2020 في الوقت الذي تشير فيه تقرير التنمية الإنسانية 2009 إلى أن البلدان العربية كانت في العام 2007 اقل تصنيعا منها قبل أربعة عقود

زاد من حدة هذا الواقع علاقة التبعية للسوق العالمي واكبر مثال على ذلك الأزمة الاقتصادية التي كان من نتيجتها خسائر بآلاف المليارات وفي نفس الوقت العجز التام عن القيام بأية خطوة تمنع ذلك لان العرب ليسوا في مركز القرار الاقتصادي بل هم ممولين دون استحقاقات مما اضعف من القدرة على مواجهة تداعيات الأزمة.

لقد كانت الأزمة الاقتصادية العالمية محطة مهمة ليتأكد المواطن العربي أن أموال وثروات العرب ليست لهم بل مسخرة لخدمة أعداء العرب وإذلالهم ، فلا تنمية ولا تقدم اقتصادي ولا تعليم مشرف ولا فرص عمل بل فقر وإفقار ولقمة مغمسة بالدم والذل بينما الغرب والصهيونية لهم المغانم من الثروات العربية فيما المواطنين العرب لهم المغارم .

وكما كان للعوامل الاقتصادية دور فقد كان للعوامل الاجتماعية دور مهم أيضا في الدفع باتجاه إطلاق هذه الثورة، فالوطن العربي يتميز بواحدة من أعلى معدلات النمو السكاني في العالم اجمع مع هجرة متزايدة إلى المدينة من الريف حتى وصلت إلى ما يقارب 60% من الحضر، والمجتمع العربي مجتمع شاب حيث يبلغ المتوسط العالمي لمعدل العمر 28 عاما في حين يبلغ المتوسط العربي لمعدل العمر 22 عاما. والوطن العربي يواجه اختلالات سكانية كبيرة، تتفاقم يوما بعد يوم، وتنذر بمخاطر مصيرية تتمثل في وجود كثافة سكانية عالية، في دول عربية ذات مصادر اقتصادية وموارد مالية محدودة، مثل مصر واليمن والسودان في حين تقوم الأقطار العربية ذات الكثافة السكانية المتدنية والغنية مثل دول الخليج بجلب حاجتها من العمالة من الأسواق الآسيوية وبأعداد كبيرة جدا، كما لم تنجح الأنظمة العربية في حل مشكلة الأمية التي بلغت ما نسبته 40% ومعدلات قراءة وكتابة منخفضة، ومن الناحية الصحية فان الخدمات لا ترقى بمستواها الى الحد الأدنى من احتياجات السكان ، وتنتشر في كثير من الأماكن المياه غير الصالحة للشرب ، كما أن الأنظمة التي سخرت أجهزة الدولة لخدمتها ولم تبن أجهزة الدولة المدنية بل عززت البنى الطائفية والجهوية والقبلية لإضعاف المجتمع ورفعت حالة الشعور بعدم الأمان، ففي الوقت الذي كانت الجماعات الأولية هي الملاذ الآمن للناس إلا أن ذلك لم يلغ التوق الكبير للمؤسسات والمجتمع و الدولة المدنية.

لقد عملت السياسات الرسمية على رفع درجات التهميش للكثير من الفئات العريضة وزادت حدتها سواء كانت للفقراء أو الناس في الأطراف أو المرأة أو الطفل وبالتأكيد الشباب فعززت الشعور بالاغتراب والإحباط ، حيث اهتمت الأنظمة العربية بالمراكز وخاصة العواصم وأهملت الأطراف فكانت أعين الأمن على المراكز وعلى القوى السياسية التقليدية وأحزاب المعارضة ونشطاءها حيث اشتدت

الانتهاكات بحق وكرامة المواطن بشكل مستمر وبإشكالها المختلفة وعلى كافة المستويات وبحق غالبية الفئات حيث التعذيب والقمع جزء من السياسات المعتمدة لأجهزة الأمن في الدول العربية ، وزد على ذلك أن الأنظمة والأسر الحاكمة عززت أو أغمضت العين عن المحسوبية والواسطة والفساد حتى أصبحت السمة الدائمة للأنظمة الحاكمة.

كما أن الحالة السياسية في الوطن العربي يرثى لها ، فمجرد نظرة سريعة على الواقع السياسي تظهر حجم التردي والانقسام والضعف وعمق المآزق التي تقف أمام دور واضح المعالم ومؤثر على المستوى الإقليمي أو العالمي وحتى أحيانا في الأزمات الوطنية مثل لبنان واليمن والسودان وفلسطين، إن مقارنة بسيطة بين الدور الذي تلعبه بلد مثل تركيا في المنطقة أو إيران أو إسرائيل تبين عمق هذا العامل.

فالدول العربية لم تتجاوز عمليات التقسيم الكولونيالي وارث المرحلة الاستعمارية التي أفرزت 22 دولة عربية بعضها محتل بالكامل مثل فلسطين والعراق، وبعضها يعيش الاستعمار الجزئي ، كما أن غالبيتها تعاني من مشكلات في استقلالية قرارها السياسي

حيث تعيش غالبية الدول درجات ملموسة من القمع والتقييد تبلغ حد حظر العمل السياسي، فتشكيل الأحزاب السياسية ممنوع في ستة دول ومسموح بشكل جزئي في بعضها الآخر والكثير من الدول العربية لا زالت تعيش في ظل نظام طوارئ أو تخضع للأحكام العرفية كما ثبت وبوضوح كيف غذت الأنظمة العربية النزعات العشائرية والطائفية والجهوية والقبلية واستثمرتها في تعزيز سلطتها و أجهزتها الأمنية.

لقد قامت بعض الأنظمة تحت مسمى الإصلاح السياسي بمنح بعض الحرية السياسية كهبة لأطياف من المعارضة هدفها تجميلي وتكملة لديكور مصنوع وفق مقاييس الأنظمة، لقد تميز العمل السياسي في اغلب الدول العربية بسيادة الأسر الحاكمة سواء ملكية او جمهورية مع بعض الطغم الأمنية والعسكرية والمالية في تحالف خاص مدعوم من الأنظمة الغربية ، ترجم عمليا باحتكار البلدان وثرواتها وامتهان كرامة مواطنيها ومنع تطورها وإبقائها رهن حالة من الجمود والتخلف.

لقد شهدت الدول العربية بعد حروب الاستقلال تراجعا تدريجيا في الزخم التحرري بل وشهدت تراجعا نوعيا في أواخر الثمانينات ترجم نفسه مصريا باتفاقيات كامب ديفيد وما تلاها من احتلال بيروت و حروب داخلية وحرب الخليج الأولى والحرب في الصومال ثم حرب الخليج الثانية التي تمت بتواطؤ عربي رسمي على هذا البلد العربي العريق ، لقد كان لسقوط بغداد ورؤية ثرواتها تنهب وأثارها تسرق وتدمر، الأثر البالغ على كل العرب ، لقد تحقق المواطن من أن هذه الأنظمة لن تساهم في شيء إلا زيادة مهانته وشقائه ، وتحول هذا الشعور الى قناعة راسخة لدى كل مواطن عربي في الحرب على لبنان عام 2066 والعدوان الغاشم على غزة 2008 انتهاء بتقسيم السودان والتصريحات العلنية والوقحة لأجهزة الأمن والسياسة الإسرائيلية والأمريكية والغربية عن دورها ودعمها لهذه التوجهات والمشاريع والخطط المستقبلية التي تنتظر العديد من الدول ومنها العراق و مصر واليمن والمغرب العربي من خلال استغلال الاختلافات العرقية الدينية والطائفية والطبقية والمظالم التي ترافقها وعدم جاذبية البقاء في إطار هذه الفسيفساء المهترئة المتخلفة والعاجزة

لقد شهد الوعي العربي مع هذه التحولات أيضا نقلات نوعية تجلت في انتصار وعي المقاومة ،حيث تأكد المواطن العربي من أن أنظمة الحكم لا تحرص على شيء أكثر من حرصها على كراسيها وظهر ذلك جليا في افتراق خطابين، خطاب يعبر عن القدرة لدى فئات واسعة من الشعب وقواه الحية وآخر الخطاب العربي الرسمي خطاب العجز الذي يواصل عبر ماكينته الإعلامية وفضائياته وصحفه ، ونخبه، العيش والنظر لحالة الوعي انطلاقا من "أن العرب غير قادرين على تقديم أفضل مما هو قائم ، حتى وإن حققوا بعض الانجازات التكتيكية فإن الغرب وإسرائيل سرعان ما يستعيدان الإمساك بزمام المبادرة من جديد، واستنادا لذلك فانه يجب الكف عن حديث الشعارات، فإمكانيات التغيير الثوري والوحدة والبحث عن مكانة للعرب في هذا العالم لن يتم إلا عبر الواقعية وفكرة الدولة الوطنية وإدارة الظهر لما يسمى الهموم القومية وان الاستقرار أي بقاء الأنظمة أهم عامل سيؤدي إلى التنمية وان المساعدات الغربية هي الشرط لتحقيق ذلك وان قدرة العرب على التأثير في سياسات أمريكا مرهون برضاها عن سياسات هذه الأنظمة .

هذه الثقافة هي التي مهدت إلى تطبيع العلاقة مع إسرائيل كعلاقة تعاون بدل الصراع ، وبالتالي التحالف معها في مواجهة الأعداء المشتركين ، هكذا تصبح المواقف الرسمية سلبية وعاجزة ومحصورة في النداءات الموجهة لأمريكا والأمم المتحدة

،وهنا تظهر، وبشكل خاص، المسافة بين هذا الوعي المشوه وبين الخطاب البديل، خطاب الوعي المقاوم أو خطاب القدرة ، هذا الخطاب الذي تعزز عبر محطات كبيرة ومهمة وتعمد بالتضحيات والألم والدم عبر المقاومة في العراق مرورا بالثبات في وجه آلة الحرب على لبنان التي أرادوها أن تكون مدخلا للشرق الأوسط الجديد وفق مقاسات أمريكا وإسرائيل فكان الصمود وانتصار وعي القدرة والمقاومة وبزوغ مشروع الشرق الجديد وتأكد هذا الأمر في حرب 2008 ضد غزة ، وجاءت تونس لتعطي نموذج القدرة على إزالة الأنظمة التي تقف أمام طموحات الجمهور ، لقد رسخ هذا الوعي فكرة أن التقدم والتغيير لا بد أن يبدأ من الفرد وان على الشعوب أن لا تنتظر الأنظمة أو الآخرين بل أن تتحرك لتأخذ مصيرها بيدها للتخلص من الظلم الداخلي قبل التخلص من ظلم الإغراب كما عبرت عن ذلك إحدى النشيطات في ميدان التحرير.

هذا التغير في الوعي مهد الطريق لاستثمار افضل لما قدمته التكنولوجيا وثورة الاتصالات من فرص هائلة للمواطن العربي للمعرفة وإزالة بقايا الأوهام حول طبيعة هذه الأنظمة ،كما وفرت حالة تواصلية ومعرفية متجددة باستمرار،واستطاع المواطن العربي عبر التكنولوجيا الحديثة ان يتوحد نفسيا مع أولئك المظلومين في صبرهم وأحلامهم وأيضا ان يتوحد معهم في غضبتهم وثوراتهم ، ليس في بلده فحسب بل أيضا في البلدان الشقيقة حيث خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع في كل البلدان العربية دون استثناء في بداية القرن ال21 تعبيرا عن التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية التي تابعها الجمهور يوما بيوم عبر الفضائيات وفي نفس الوقت شاهد الأداء الرسمي العربي وقمم المهزلة العربية التي لم تصل إلى الحد الأدنى من توقعاته وكانت الطامة الكبرى متابعة المواطنين العرب كافة التحضيرات للحرب على العراق والحرب الجنونية التي شنتها الإدارة الأمريكية و حلفائها الغربيين على الشعب العراقي ، وكذلك استطاعت لتكنولوجيا ان توفر لهم صورة حية عن هول العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين في 2006 و2008 وصمود وانتصار المقامة رغم عجز وتآمر الأنظمة

لقد نجح الشباب في تسخير الأدوات التي وفرتها التكنولوجيا وثورة الاتصالات من مواقع الكترونية سواء الفيس بوك او تويتر أو البريد الالكتروني والشبكة العنكبوتية وما وفرته من إمكانيات تواصل ومعلومات والية للتنظيم بالإضافة إلى سهولة استخدام المحمول كوسيلة اتصال ووسيلة توثيق مصور ،لقد كانت الثورات والانتفاضات في مرحلة سابقة تستخدم جريدة الحزب في معظم الثورات أو المنشور الذي كانت أداة التنظيم الأساسية في الانتفاضة الفلسطينية مثلا واستعاضت عنه بما وفرته التكنولوجيا من وسائل أكثر فاعلية وسرعة وقدرة على الوصول لأكبر قطاعات من الناس بغض النظر عن الجغرافيا مما فتح الباب للتواصل مع الثورة والثوار وإعطائهم بعداً عالميا من حيث التداخل والتواصل ونقل المعلومة والخبرة والرأي



كما دخل الإعلام العربي مرحلة جديدة في السنوات الأخيرة حيث لعبت الفضائيات وخاصة الجزيرة دورا هاما في إثارة العديد من القضايا وتقديم الكثير من الآراء والوجوه والمعلومات التي اعتبرت على القائمة السوداء للأنظمة مما فتح افقأ إعلاميا جديا ساهم في تقديم معلومة جديدة للجمهور في العديد من المحطات ومنها الثورة الحالية من حيث إبقاء حالة الحماس وتوفير غرفة عمليات على مدار الساعة تستخدم في تغطية خبر الثورة والثوار وفي توصيل رسائلهم وفي نفس الوقت رفد الثورة بالرأي الاستشاري للعديد من المفكرين والساسة والنشطاء.

هذه العوامل الداخلية تفاعلت مع العامل الخارجي الذي لعب دورا مهما في الأسباب التي أدت إلى انطلاق هذه الثورة منها المباشر الذي تمثل بدعم الغرب لأنظمة الحكم الدكتاتورية بشكل مستمر ضد إرادة الشعوب وكان للدور الذي لعبه الغرب وأمريكا بالتحديد اثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبالتواطؤ مع الأنظمة في استباحة المواطن العربي ، بل وشاهد المواطن العربي الإمعان الغربي في التفنن في تحديد مصادر الشر في ثقافته المجبولة على العنف والتخلف والخطط المناسبة لإعادة صياغة العقل والتوجهات وبناء برامج الإصلاح على الطريقة الأمريكية كما عاش زيادة القبضة الأمنية على الدولة والقبول العلني لدمغ المقاومة بالإرهاب

كما فضحت الحرب على العراق شهوة الغرب للاستيلاء المباشر على النفط العربي والاستهانة بالعرب واستسهال الإفصاح عن مآربه في تحقيق الأهداف والرغبات الصهيونية المتعلقة بإعادة بناء المنطقة والشرق الأوسط.

وقد كان للعوامل غير المباشرة للعامل الخارجي دور مهم، فنمط الديمقراطية والحريات التي يعيشها الغرب وكذلك النجاحات الاقتصادية التي سجلها والتحولات الديمقراطية التي تشهدها دول كثيرة وعلى مستوى المنطقة فان تعاظم الدور الإيراني والتركي على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري وقدرتهم على التأثير في الواقع العربي بشكل اكبر بكثير من العرب أنفسهم زاد من شعور المواطنين بأهمية التغيير والبدء بإزالة هذه الأنظمة العاجزة والفاشلة.

هذه العناصر المختلفة التي يعود جذور بعضها إلى عقود وسنوات طوال تفاعلت مع مجموعة من القضايا التي عاشتها الدول العربية المختلفة كل بطريقته الخاصة، فلقد كانت شرارة البوعزيزي في تونس التي ألهبت وأخرجت هذا الغضب المكبوت ترمز إلى عدم قبول المهانة والإحباط وفقدان الأمل لهذا الشباب العربي، إن الغلو في الفساد ونهب الثروات وإهدار كرامة الإنسان الذي مثلته المجموعة الضيقة للأسرة الحاكمة وزوجة الرئيس بالتحديد من العناصر المباشرة التي دفعت المواطنين إلى الاستجابة لألم البوعزيزي، وكان عنصر الاستمرارية وانتقال الشرارة من الأطراف ( وهي البيئة الخصبة لقوى التغيير، فهي بالعادة مهمشة ولا تخضع للتدقيق الأمني وأكثر بعدا عن الإفساد وتحتاج إلى جهد إضافي حتى يلتفت الناس إليها ) إلى المركز أحد هم أسباب نجاحها كما كان لحالة الإنكار والرد العنيف الذي مارسته السلطة تجاه المتظاهرين ونعتهم بالمجرمين والخارجين على القانون وغيره من الصفات التي أمعنت في إنكار الحق وامتهان الكرامة وهو ما حدث في تونس وتكرر في مصر وتكرر ببشاعة كاريكاتورية في ليبيا واليمن والبحرين، لقد التقطت قوى التغيير اللحظة وسارت مع الجموع الغاضبة إلى إسقاط رمز النظام ولكنها لم تسقط النظام كاملا فاستكملت القوى السياسية وبجلاء وبدعم إعلامي ومعرفي استشاري بأرقى الصور العملية الممكنة كنس النظام ومحاسبة المجرمين والفاسدين خصوصا أن ذلك ترافق مع الدفق الثوري الذي شكلته ثورة شباب التحرير في مصر.

ثانيا تضافرت عدة عوامل أهمها انهيار منظومة الأمن القومي العربي لدرجات قصوى مع وصول الأداء السياسي للأنظمة إلى درجات غير مسبوقة من حيث الفساد والتوريث والطاعة العمياء للغرب وإدارة الظهر للمواطنين والتلاعب بهم وتزوير ارادة الجماهير والتبجح بذلك كما جرى في الانتخابات المصرية الأخيرة. لقد وصلت الجماهير إلى مرحلة من عدم القدرة على العيش بالطريقة السابقة فخرجت الجماهير إلى الشارع وتحدت أجهزة القمع التي لم تعد قادرة على قمع الشارع يضاف لذلك عدم قدرة أجهزة الإعلام وتزييف الوعي على تبرير الحالة وتمرير المشاريع الوهمية المعهودة بترهيب من تطرف إسلامي وحالات فوضى وفقدان ثمار التنمية التي لم يراها أصلا المواطنون.

دور الشباب وباقي قطاعات الشعب

الكثير من المراقبين والمحللين والساسة تحدثوا عن أن المتظاهرين الذين خرجوا للشوارع هم مواطنون بعيدون عن الحركات السياسة ممن سئموا ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية وعدم قطف ثمار التنمية، وأنهم من الشباب المتعلم الذي تمكن من استخدام أساليب التواصل الحديثة ، هذا الأمر ليس بغريب خصوصا وان الشباب هم القوة الأساسية لأي تغيير في أي مجتمع، فما بالك بالمجتمع العربي الشاب بتكوينه وبنيته وتضاؤل مساحات الأمل في قدرة المعارضة على إحداث تغييرات سياسية توافق الحد الأدنى من تطلعات أولئك الشباب

هذا الوصف يعكس جزء من الصورة، فقد تكاملت جهود الشباب المتعلقة بالهوية والكرامة ورفض البطالة والفقر والاحتجاج على التهميش والفساد ومبادرتهم مع حراك سياسي واجتماعي في المساحة التي افردها النظام لتحسين صورته وللتصديق على ديمقراطيته، فكانت النقابات أو الاتحادات المهنية أو بعض منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بالإضافة إلى الإسلام السياسي والمعارضة القومية واليسارية التي دفعت ثمنا كبيرا في حراكها عبر السنوات والعقود الأخيرة.

ولهذا فإن من نزل إلى الشوارع هم فئة الشباب وباقي قطاعات الشعب بأجياله من رجال ونساء وعمال وفلاحين وقضاة ومحامين وغيرهم من الفئات التي رفعت حاجز الخوف وفتحت الباب أمام كافة الفئات التي عانت ولا زالت تعاني من أنظمة لم تفكر بالحد الأدنى من العمل لصالح كرامة المواطن الفردية والجمعية، فالعربي مهان في بلده وهو عرضة للنهب والسرقة والاحتقار والتخويف والترهيب من الأجهزة الأمنية المنتشرة في كل الدول العربية وفي المهجر وهو موسوم أيضا بالتخلف وعدم القدرة ولهذا فهو إما حرث سهل للغرب أو مشروع للتطرف الديني.

وقد شاركت في هذه التظاهرات غالبية ألوان الطيف السياسي المختلفة والتي لعبت دورا هاما في نقل الاحتجاجات وتنظيمها والارتقاء بها سياسيا إلى درجة تحويلها إلى ثورة على الأنظمة بأكملها فتكاملت مع الجهود المبدعة للشباب الثائر والمثقفين ونشطاء العمل الأهلي والنقابات والاتحادات والطوائف.

الثورات العربية بين العام والخاص

القد أظهرت الثورة العربية الروح المشتركة والعامة التي تجمع هذه الثورات سواء في تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن وغيرها من الدول العربية، فالمطالب سواء اجتماعية واقتصادية او سياسية هي قضايا متشابهة اذا لم نقل متطابقة، فقضايا الديمقراطية والحريات العامة والعدالة الاجتماعية ومدنية الدولة كانت من القضايا التي أجمعت عليها الثورات العربية والاحتجاجات سواء تلك التي قادت الى تغييرات كبيرة في كل من مصر وتونس او تلك التي في ليبيا واليمن حيث المطلب الأساسي هو تغيير النظام أو في غيرها من الأقطار العربية التي رفعت شعارات الإصلاح باتجاه تغييرات تنسجم وهذه الرؤية العامة.

كما اتسمت أيضا بطابع المشاركة الجماهيرية الواسعة من كافة قطاعات الشعب برغم من تميز الدور الريادي والطليعي الذي يلعبه الشباب في هذه الثورات إلى جانب استخدام التكنولوجيا و الفضاء الافتراضي ووسائل الاتصال الحديثة كآلية للتنظيم والحديث والتواصل.

كما اتسمت الثورة في تونس ومصر ومعظم الأقطار العربية بكونها سلمية، وفي ليبيا كانت البداية سلمية مما أعطاها زخما ومصداقية سرعان ما فقدته عندما تخلت عن هذا الطابع ، لقد كانت إحدى أهم سمات الثورة أنها لم تستهدف السيطرة على السلطة بل كانت تستهدف إحداث هزات وتغيير في السلطة والنظام كما لم تتم قيادة هذه الثورة من حزب سياسي واحد بل أن الثورات أفرزت بنى سياسية وأنماط عمل سياسي جديدة.

القضية المشتركة الأخرى هي رفض التدخل الخارجي بالرغم من عدم امتلاك الشعوب سوى إرادتها أمام طغيان الأنظمة في مصر وتونس وإطلاق يد البلطجية والعصابات وإشاعة الفوضى في وجه الثورة. ورغم آلة الحرب في ليبيا وخطر المواجهة المسلحة والحرب العشائرية في اليمن ومخاطر الفتنة الطائفية في البحرين إلا أن رفض التدخل الخارجي كان موقفا مشتركا في الثورات العربية رغم محاولات بعض الأطراف الليبية الخروج عن هذا الإجماع مما يفقدها الزخم والمصداقية خصوصا بعد أن تحولت إلى مواجهة مسلحة.

تشابه ردود فعل الأنظمة على الثورات أولا في الرد العنيف والدموي وفي عدم إعارة الانتباه لها وإنكارها ومن ثم التقليل من أهميتها وبعد ذلك توجيه الاتهامات للمتظاهرين والثوار بانهم قلة خارجة عن القانون ثم الادعاء بدور للمتطرفين الإسلاميين او الإسلام السياسي وإشاعة الفوضى بعد ذلك ثم الاعتراف المتأخر بشرعية بعض المطالب وإجراء تغييرات هامشية ومن ثم إزالة بعض رموز النظام والتضحية ببعض قواه ومحاولة الالتفاف على الثورة بالتعامل معها على أساس مطلبي وبعد سقوط النظام اقتناص الفرصة للثورة المضادة.

إن تزامن الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في عدة بلدان عربية وتشابه الشعارات التي رفعتها هو تعبير عن الروابط البنيوية وليس المعنوية فحسب كما ان تتابع سقوط هذه الأنظمة سيثبت أننا أمام نظام عربي واحد تختلف العلاقات بين شعوبه عن العلاقات التي تربطه مع تركيا وإيران وغيرها من البلدان الإسلامية مما يعبر عن البعد القومي لهذه الثورة.

الحالة التونسية

من ميزات تونس أنها من البلدان العربية التي حققت بعض النجاحات على المستوى التنموي ومعدلات الدخل فيها أعلى من جاراتها المغربية كما أن تونس تتمتع باهتمام ملحوظ بالتعليم و حريات اجتماعية وتشريعات ليبرالية، إلا أن النظام ضيق على الحريات السياسية وعلى الحراك السياسي، كما تميزت الساحة السياسية بضعف تيار الإسلام السياسي وقوة التيارات اليسارية والاجتماعية وظهر على سطح الأحداث دور زوجة الرئيس وأسرتها في موضوع الفساد وسرقة ثروات الشعب.

لقد أظهرت ثورة تونس مسألتين هامتين:

أولا أن الأنظمة العربية هي اضعف بكثير مما تبدو عليه وان قدرتها على البقاء محدودة أمام إرادة الجماهير خاصة إذا تخلى عنها حلفاؤها الغربيون وأن التحركات الجماهيرية قادرة على الوصول إلى بديل كما أنها قادرة على تحقيق انجازات مباشرة لها علاقة بالحقوق والحريات الأساسية وبطريقة العيش.

ثانيا لقد أعطت نموذجا أو موديلا لطريقة تحرك الجمهور وطريقة تحرك النظام خارج إطار الصورة التقليدية للثورات التي تستهدف الوصول إلى السلطة بل ثورة جماهيرية تستهدف التغيير بإشكاله المختلفة المؤدية إلى نظام دولة حديثة ومعرفة حداثية وممارسات مدنية وموديلا للسلطة التي تستخدم أحط ما لديها من قيم وممارسات ومؤامرات لإعاقة الثورة والتغيير.

وبالتالي فقد أعاد النموذج التونسي الأمل المفقود وقدم طريقا محددا وواضحا إلى المستقبل كبديل عن الحالة الموجودة، ولهذا فإن هذه التجربة تسجل وتدخل في الفضاء المعرفي والذاكرة اليومية لملايين المواطنين العرب الذين واكبوا الثورة التونسية عبر الجزيرة والشبكات الالكترونية والأعلام المرئي الذي وفر مساحة وفضاء لتوصيل المعلومة للثوار وقدم الرؤى والتحليل المساند والتجارب والخبرات المختلفة ووضعها بين أيدي الفاعلين من القادة الشباب وعبر عن تضامن الشعوب العربية مع الشعب التونسي في ثورته التي رفعت مع شعارات إسقاط النظام والحرية والكرامة شعارات تحرير فلسطين.

تونس تعيش الان مرحلة انتقالية تمهد للانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة ، وهي مرحلة تشد فيها القوى همتها وتستدعي قوتها وحلفائها وبرنامجها للميدان كما أن الباب لا زال مفتوحا أمام الكثير من التدخلات المباشرة وغير المباشرة من الأطراف الدولية والإقليمية وكذلك بقايا النظام السابق أو أولئك الذين ركبوا موجة الثورة والتغيير وبهذا انفتحت تونس على موجة من التناقضات والنزاعات والأجندات المختلفة والتحدي الأكبر هل ستكون تونس الجديدة قادرة على التعامل مع هذه التناقضات والنزاعات والبرامج والأجندات والحراك السياسي الاجتماعي الضخم دون أن تنهار الدولة ويدخل المجتمع في أتون العنف والحرب الأهلية؟

مصر

في الفترة الممتدة ما بين 25/1- الى 11/2/2011 استعادت مصر صدارتها في قلب الأمة العربية بعد إن تم تغييبها وتهميش دورها بشكل مبرمج ومقصود منذ بداية الثمانينات في القرن العشرين وحتى بداية العام الحالي،فقد تحولت دعوات الشباب على الفيس بوك للاحتجاج إلى ثورة عربية عارمة وعملية تغيير اجتماعي سياسي متسارع يعمل على إعادة الروح للأمة وللشعب المصري والشعوب العربية لتعود مصر للقيام بدورها العربي المتناسب مع موقعها وتاريخها وحجمها بدلا من الدور الذي رسمه لها مبارك في العقود الثلاثة الأخيرة كدولة منهارة ومتهالكة تضع نفسها في مواجهة قوى المقاومة والتغير وتفرض نفسها كعراب للسياسة الأمريكية الصهيونية وتغرق في الصراعات والشرذمة التي اتسمت بها سياستها في المرحلة السابقة حيث عاشت المنطقة العربية حالة من الردة عندما قاد النظام المصري وعي الهزيمة والاستسلام عبر ترويج فكرة ان 99.9% من أوراق الحل بيد أمريكا ، وكان من نتائج ذلك إخراج مصر من المعركة العربية مع إسرائيل وفتح باب التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي ازدهر دوره الإقليمي على حساب الدور العربي والمصري تحديدا.

الثورة بطبعتها المصرية وهي الأكثر إشراقا وعبقرية وديمقراطية ابتدأت برفع شعارات مدنية وسلمية لترسل رسائل واضحة وجلية بان هذه الثورة ليست دينية وليست عنيفة وهي لا تستهدف السلطة بل تستهدف التغيير.

متمردة بذلك على التهميش والإذلال وفقدان الحرية، ومع شعارات المطالبة بالعمل والخبز رفعت شعارات رفض النظام وبنت على ما تراكم من فعل سياسي سابق على الثورة والمظاهرات التي لم تتوقف في الأعوام الأخيرة برغم محدودية المشاركين فيها عدديا واقتصار طابعها على الشكل المطلبي مرورا بدعوات شبيهة للدعوة التي أطلقت في 25/يناير فعلى الأقل مرتين في العامين المنصرمين وصولا إلى الانتخابات الأخيرة التي عبرت عن الاستهانة الكبرى بالشعب وقواه في الانتخابات التي افلت فيها النظام أزلامه وعصاباته وزور إرادة الشعب بكل ما أوتي من صلافة وجلافة ووقاحة، فجاءت الشرارة من ثورة تونس التي ألهمت الشباب وجموع الشعب وأنارت الطريق وفتحت الأمل فخرجت الملايين لتصنع نموذجا عالميا جديدا في ظل أوسع مشاركة شعبية وبأشكال مشاركة متنوعة في القرار والتخطيط والحوار وكان ميدان التحرير ميدانها الأساسي تحت أعين العالم مباشرة.

ان للثورة المصرية المستمرة أثار وتبعات هائلة على العالم العربي وفلسطين خصوصا، حيث أن أهم تبعات الثورة المصرية هي عودة مصر إلى مكانها الطبيعي في ريادة العالم العربي ودورها الإقليمي المتوقع في تمثيل طموحات وآمال العرب بدور يتماشى مع ما تملك المنطقة من إمكانات، وكذلك فان المحاور التي انقسمت إليها المنطقة ما بين تيار معتدل تقوده مصر وتيار ممانعة سوف تعاد صياغتها بطريقة جديدة وفي أسوا الأحوال وكيفما تموضعت مصر سياسيا فان هذه المعسكرات على الشكل الذي رأيناه قد انتهت وستتم إعادة صياغة المنطقة سياسيا من جديد.



تعيش مصر الآن مرحلة انتقالية ستكون مسرحا للجهود ولتآمر وهي أيضا ستكون البلد الأكثر استهدافا للمؤامرات وللانقلاب على الثورة من قبل الكثير من القوى الإقليمية والدولية وأيضا العربية التي ستتلاقى مع الجماعات التي تضررت نتيجة الثورة في الداخل وستظهر الكثير من والنزاعات و القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكامنة إلى السطح مما سيهدد بدخول مصر في حالة من الفوضى خصوصا وان الأجهزة الأمنية لم تبنى كمؤسسة دولة بمقدار ما كانت أداة حفاظ وحماية للنظام وهذا يترك البلد مكشوف على الصعيد الأمني كما أن الدور الذي قد يقوم به الجيش يتناقض مع الطبيعة المدنية للثورة، إن القوى التي تتربص بمصر وبثورتها كبيرة وكثيرة إنها بحجم مصر وثقلها لذا فان مصر مع غالبية الشعوب العربية ستواجه تحدي بناء الدولة المدنية الحديثة التي يعلق عليها العرب آمالهم.

ليبيا

دعا عدد من الشبان في ليبيا إلى مظاهرة مطلبيه في 17/2 إلا أن النظام واجه هذه الدعوات باعتقالات استبقت المظاهرة فخرجت الجماهير في بنغازي للمطالبة بالإفراج عن ناشط ومحامي طالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين واندلعت المواجهات ما بين المتظاهرين والنظام الذي رد بطريقة عنيفة على المتظاهرين منكرا وجود الاحتجاجات والمظاهرات التي تحولت إلى ثورة مسلحة سيطرت على مدن الشرق الليبي في اغلبها وتحركت باتجاه الغرب فيما كانت المنطقة الغربية تواجه حمام الدم الذي فتحه النظام والموالين له على المتظاهرين.

تتميز ليبيا بمكانة خاصة ليس بسبب موقعها الجغرافي وامتدادها الكبير على ساحل المتوسط وعمقها في الصحراء بل أيضا بما تملكه من ثروات نفطية ، كما تتميز ليبيا بعدم وجود نظام سياسي كلاسيكي كرئيس وحكومة ووزارات فشرعية القائد تأتي من كونه يقف على رأس الجماهير ويقود ثورتهم المستمرة وهو المفكر والسياسي والقائد والثائر الأول وصاحب الشخصية الغريبة التي أثارت وأضحكت الكثير من الجماهير العربية حتى اظهر وحشيته في قمع أبناء الشعب الليبي وخاطبهم بلغة الاحتقار التي ظهر فيها بابشع صورة ، لقد ظهر القذافي ولسنوات طويلة كداع للوحدة العربية وبعد الفشل تحول الى الوحدة الإفريقية وكان من اشد الشخصيات عداء للإمبريالية الأمريكية وتعرض للحصار والملاحقة فعاش النظام تحولات دراماتيكية بعد سقوط بغداد من حيث تخليه عن حالة العداء للغرب الى عقد الصفقات وفتح أبواب الاستثمار وتطوير علاقات التعاون الأمني في مواجهة الإسلام المتطرف والتحالف مع الأنظمة وحصر السلطة بصورة متزايدة في أيدي الأسرة الأبناء.

لقد تحولت الثورة بفعل ديناميات المجتمع الليبي إلى ثورة مسلحة تستهدف إسقاط النظام والوصول للسلطة مما افقدها طابع السلمية والمشاركة الجماهيرية الواسعة التي أحرجت النظام في البدايات و خصوصا الادعاء بتمثيل الجماهير

لقد كان خطاب الثورة هو التخلص من العقيد وأسرته والسيطرة على ثروات البلد وبناء الدولة الحرة الديمقراطية فتعاطف الشارع العربي مع هذه المطالب إلا أن المسار العام للأمور يشير إلى أن الثورة وبفعل الدور الذي لعبته بعض الرموز الليبية في الخارج والمعروفة بصلتها بالغرب فقدت جزء من مصداقيتها خصوصا في ظل الاتصالات اليومية ومحاولة تسويق الثورة على الغرب لنيل الاعتراف ،ان الثورة في تونس وفي مصر اكتسبت شرعيتها من الناس في الشارع ومن سلميتها وهي عناصر غابت عن الثورة في ليبيا ومسار الأمور يشير إلى ان مزيدا من الدماء والعنف سيتخلل هذه المعارك خصوصا ان ساحة المواجهة العسكرية يتفوق فيها النظام على المعارضين كما ان التعاطف الجماهيري مع الثورة محليا وعربيا بدأ بالتراجع أمام الدعوات الغربية والأمريكية والخليجية العربية للنظام الليبي ودعمهم للمعارضة وهي في الغالب مؤشرات تستخدم للدلالة على رجعية وعدم تمثيلية الثورة للمصالح والأحلام العربية.

ان ليبيا مرشحة لان تعيش حرب أهلية مسلحة طويلة وان تنقسم ما بين مناطق تسيطر عليها المعارضة مدعومة من الغرب و خصوصا في مناطق تواجد النفط ومناطق تخضع لسيطرة ألقذافي وبعض المناطق التي ستعيش حالة من الفوضى والتي ستكون مجالا لعمل بعض الجماعات ، وفي كل الأحوال فإن الشعب الليبي هو من سيدفع الثمن مع احتمال أن تتحول ليبيا إلى ساحة لتصدير الفوضى والسلاح إلى الدول المجاورة.

اليمن

هذا البلد الذي يعيش فيه أكثر من 25 مليون نسمة يعد من أكثر البلدان العربية فقرا، حيث أن معدل دخل الفرد يقارب 1 دولار في اليوم ولا يأتي بعده في الترتيب بين الدول العربية سواء في معدلات الدخل أو التعليم او غيرها إلا الصومال إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والأمية وتراجع المؤشرات الصحية وتراجع معدلات الدخل.

وقد عرف عن اليمن عرف التفاعل المتواصل مع ما يدور حوله وفي الوطن العربي من قضايا فلم يترك الشعب اليمني فرصة إلا وعبر من خلالها وبكافة الطرق عن مشاركته هموم الشعوب العربية في المقاومة ومواجهة التدخلات الخارجية والحراك والتنظيم السياسي.

اليمن يعاني حالة عالية من تراجع دور الدولة المركزية وعودة المطالبات بانفصال الجنوب والمواجهات في الشمال مع الحوثيين بالإضافة إلى المعارضة الرسمية والعديد من التقارير عن استغلال بيئة ضعف السلطة المركزية لانتشار خلايا القاعدة.

لقد ارتفعت الأصوات المنتقدة للنظام في قضايا كثيرة كان على رأسها سياسات فتح الباب أمام التدخلات الخارجية وخاصة الأمريكية التي انتهكت سيادة البلاد في أكثر من مرة وكذلك الانتقادات المتعلقة بالفساد وسياسات التوريث والعطاء والمزيد من الصلاحيات لأسرة الرئيس وابنه وقد رشحها الكثيرون لان تكون الصومال رقم ثنين.

تميزت المظاهرات والاحتجاجات بالشكل السلمي رغم إطلاق النظام للأجهزة الأمنية والموالين من الحزب الحاكم والبلطجية على المتظاهرين إلا انه وأمام الانشقاقات المتواصلة من حلفاء الأمس والقياديين في الحزب الحاكم والتخوف من اندلاع المواجهة العنيفة التي لن تكون في صالح احد فقد حاول النظام جر المتظاهرين للعنف وكانت حكمة المتظاهرين ولا زالت تنتصر بالإبقاء على جماهيرية وسلمية الثورة ، ومن الواضح هنا أن الثورة في اليمن ومهمة تغيير النظام قد طغت على دعوات الاستقلال في الجنوب والإصلاح في الشمال ومطالب الحوثيين في صعده وكلها تتعامل بتفاهم ضمني على إسقاط النظام وهي ترقب الثورة المستمرة في تونس ومصر.



البحرين وغيرها

تعتبر البحرين الحالة الأكثر تعقيدا بسبب كونها منطقة إستراتيجية للسعودية العربية ومنطقة تمركز قوات البحرية الأمريكية في الخليج العربي إلى جانب بنيتها المجتمعية ذات الغالبية الشيعية المتهمة في ولائها لإيران وغياب البعد الإعلامي الذي تشكله الفضائيات الممولة خليجيا مما يرشح الثورة إلى أن تسير باتجاه تحقيق إصلاحات في النظام السياسي الملكي وهذا لا يعني أن تبقى بمعزل عن التأثيرات الناتجة عن تغير المنطقة بشكل عام فلا زالت الثورة مستمرة والأحداث والمظاهرات لم تترك دولة عربية واحدة دون أن تشهد مظاهرات مستمرة كالأردن والجزائر والعراق مع ترافق تلك المظاهرات بقمع دموي في عمان والمغرب بالإضافة إلى الحراك السياسي والمظاهرات في المنطقة الشرقية من السعودية وباقي الدول. كل ذلك يجب رؤيته في سياق الحراك العام الجاري في المنطقة سواء في بلدان الخليج العربي أو لبنان او فلسطين.

ردود الفعل الغربية والإسرائيلية

لقد كانت الثورات العربية مفاجأة كبيرة لكثير من الدوائر الاستخباراتية والأمنية وغيرها ، حيث كانت على ثقة من قدرة الأنظمة والطغم الحاكمة على قمع هذه الاحتجاجات كما فعلت سابقا فعبرت عن وجهها الحقيقي الذي ساند الأنظمة في قمعها للمتظاهرين في تونس والتي اعتبرت استقرار البلد أولوية وان طريقة تعامل النظام مع المتظاهرين شأن داخلي، ولكن مع تواصل الثورة وانتصارها تم تغيير اتجاه الموقف الغربي والأمريكي من الثورة أملا في إبقاء فرص التعاون على صعيد مقاومة الإرهاب وإبقاء حالة الانفتاح على الكيان الصهيوني وفي مصر هناك محاولات لاختطاف الثورة والالتفاف عليها عبر التخلي عن مبارك في سبيل الحفاظ على النظام عبر التنسيق المتواصل مع الجيش وبعض الرموز المحسوبة على الغرب ومحاولات ركوب موجة التغيير.

لقد أظهرت المواقف والتصريحات وشكل تفاعل الغرب مع هذه المتغيرات محددات أساسية للسياسة الغربية في المنطقة العربية تقوم على أولوية الحفاظ على امن ومصالح إسرائيل من جهة، والحفاظ على النفط والمصالح الاقتصادية للغرب في المنطقة من جهة أخرى حيث يهتم الغرب بالوقوف أمام أية تحولات قد تساهم في تعزيز مكانة قوى المعارضة للهيمنة الغربية سواء كانت إسلامية أو غيرها وأيضا منع الهجرة إلى أوروبا وهو هاجس أوروبي أكثر منه هاجس أمريكي.

لقد كان واضحا وجليا حالة الانزعاج الإسرائيلي من التغيرات التي تجري وتحديدا في مصر لما لذلك من آثار محتملة على اتفاقيات كامب ديفيد او على الوضع الأمني بالنسبة للحدود مع مصر ، فانطلقت مواقفهم من أن الاستقرار أولوية على الديمقراطية ،لهذا عملت إسرائيل كلوبي ضاغط لتخفيف الضغط عن مبارك ولإطلاق يده في قمع المظاهرات.

بعد ان انتصرت الثورة في مصر اهتمت إسرائيل بمدى قدرة الجيش على الالتزام بالاتفاقيات والقيام بدور الحارس للحدود الجنوبية وبقضية الحدود مع غزة وإبقاء حالة الحصار وبعد تأكدها من هذه القضايا بشكل مباشر ومن خلال العديد من الدوائر الأمريكية و الغربية بدأت إسرائيل تقدم نفسها كداعم للديمقراطيات الجدية وأطلقت أذرعتها الأمنية وغيرها لإحداث انحرافات في هذه الثورات في مناطق حدوثها فما بين سياسة علنية تقوم على أن التحول الديمقراطي في المجتمع العربي لا يضير إسرائيل إلى عمليات غير معلنة لحرف الثورات باتجاه الفوضى وتخريب الوعي والاستمرار في بناء جسور التطبيع على أرضية المصالح المشتركة في مواجهة الخطر الإيراني والدعم الإسرائيلي للتغيرات الداخلية المتعلقة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية ومحاربة التطرف الإسلامي والتعاون لقطف ثمار السلام.

تداعيات الثورة على القضية الفلسطينية

ان المنطقة العربية تدخل في حالة من عدم الاستقرار بكل ما فيها من احتمالات وإمكانيات قد تفتح الأبواب واسعة أمام مخاضات عنف ومواجهات داخلية وبينية وأشكال مختلفة من الانفجار والفوضى وستكون المنطقة ساحة صراع مفتوحة ما بين القوى العربية الطامحة لبناء وطن ودول عربية مدنية حرة من جهة، والجهات المعادية سواء كانت القوى العربية المتضررة من الثورة وحلفائها الأمريكيين والصهاينة من جهة أخرى، كما أن المنطقة مرشحة أيضا لمواجهات مختلفة الأشكال والسيناريوهات تتضمن بالإضافة إلى جهود البناء محاولات الارتداد وإشاعة الفوضى والنعرات الطائفية والدينية والجهوية في محاولة لحرف الثورة عن مسارها ومنعها من الوصول إلى غايتها.

كما ان المنطقة العربية مرشحة لحالة من عدم الاستقرار في السنين القادمة وبالتالي ستكون القضية الفلسطينية عرضة للتأثر بهذا الواقع أكثر من غيرها لانها في كثير من أبعادها تعتبر قضية عربية، ولان الفلسطينيون متواجدون في عدد من الدول العربية بالإضافة إلى كون السياسة الفلسطينية هي جزء من السياسة الإقليمية والعربية، لكن الثورة العربية وتحديدا المصرية سيكون لها بالغ الأثر على السلطة الفلسطينية وعلى كامل البنية السياسية التي خسرت أهم حليف لها بسقوط نظام مبارك، كما تخشى السلطة الفلسطينية من صعود الإخوان وأثرهم السياسي في مصر مما يستدعي إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإحياء جهود المصالحة وإعادة بناء منظمة التحرير مع إمكانية إجراء انتخابات جديدة للمجلس الوطني في فلسطين وأماكن الشتات وتحويل السلطة إلى إدارة مدنية تتولى إدارة شؤون الشعب الفلسطيني وترك الأمور السياسية لمنظمة التحرير الجديدة أو البنى السياسية الوطنية الجديدة.

لقد أرسلت الثورة العربية دفقا كبيرا من الأمل عند الشعب الفلسطيني وبان التغير الحاصل سيساهم في تغيير موازين القوى وتعديلها لصالحه مما سيعطيه مزيدا من القوة والدعم في كفاحه لنيل حقوقه المشروعة والوقوف أمام سياسات العدو الإسرائيلي، كما أن هذه الثورات ستدعم توجهات محاربة الفساد والمحسوبية وأهمية وبناء المؤسسات على أسس سليمة.

لقد أعادت الثورة العربية الحيوية للشعب الفلسطيني ولقواه السياسية فمنذ لحظات اندلاع الثورة في تونس وبعدها في مصر ازداد الحراك السياسي الشعبي على كافة المستويات، كما تتالت الدعوات للنزول للشارع تحت شعار إنهاء الانقسام وكذلك لانهاء اتفاقيات أوسلو أو إنهاء الاحتلال أو إجراء انتخابات للمجلس الوطني ، لقد تكونت عشرات المجموعات الشبابية التي تدعو وتعبر عن المطالب الوطنية للشعب الفلسطيني.،

إن من أهم تداعيات الثورة المصرية على القضية الفلسطينية هي أنها فتحت الباب والفرصة للعمل على إنهاء حالة الحصار على غزة وما لذلك من تبعات اجتماعية وسياسية على القضية الفلسطينية، كما إن التغير فتح الباب أمام تغيرات جدية في بنية الأحزاب السياسية وقياداتها وبرامجها ليمتد إلى إمكانيات بروز هياكل وبنى سياسية جديدة على المسرح السياسي الفلسطيني الراهن.

لقدت فتحت الثورة العربية الآفاق لبناء الدولة العربية المدنية الجديدة، كما أتاحت الفرص لعمل جدي لتفعيل الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفي في المجتمعات العربية، الأمر الذي قد يؤسس للمرحلة التاريخية القادمة من عمر المجتمعات والشعوب العربية التي ستمتد لعقود قادمة إذا لم يكن أكثر من ذلك.


CONVERSATION

0 comments: