حالة انبهار: لوحة طافحة بجموحاتٍ بارعة نحو رحابِ الطُّفولة/ صبري يوسف

هذه اللَّوحة تمنحني فرحاً عميقاً لا يضاهى، تحرِّضني على الرَّقص من بهجةِ الانتعاش، كأنّي أعبر في عوالم غابة حلميّة، متناغمة مع همهماتِ كائناتٍ مبهرة وتغريد وزقزقات طيور خرافيّة بديعة، منبعثة من أزمنة غابرة، تلهو مع كائنات متماهية مع آفاقٍ أسطوريّة في غاية الجَّمال والوئام. تعيد إلى ذاكرتنا عشرات القصص والحكايات التي كنّا نسمعها من خلال تدفُّقات روعة الخيال. ما هذا البهاء الموشوم على كائنات متراقصة بانسجامٍ مدهش، كائنات متلألئة بجمالٍ خلاب، كائنات فريدة، متعانقة مع سموِّ الرُّوح وهي تحلِّق عالياً كي تعانقَ ألق السَّماء وتعانقَ حميميّات الطُّفولة المعشَّشة في كينونتنا منذُ أمدٍ بعيد!                                               
كلَّما أنظرُ إلى هذه اللَّوحة، أزدادُ إندهاشاً، وكأنّي أراها للمرّة الأولى، تبدو لي متطايرة من بساتين الجّنة، من خيالٍ متهاطلٍ على إيقاعِ شهوةِ المطر، حيث الألفة منسابة بشكلٍ مبهر على مساحات اللَّوحة، بتقنياتِ فنّانٍ منعتقٍ من شوائب الحياة، بحثاً عن عرين الجَّمال المتناثر فوق أغصانِ الدُّنيا، وكأنَّ هدف الفنَّان هو استنهاض عالم طفولي شفيف من هذه الكائنات الَّتي تتراقص بمرحٍ كبير لبسمةِ وحنينِ الأطفال، حتّى أنّني في الكثير من الأحيان، أشعر وكأنَّ مملكة الفنّان مفتوحة على نضارة الأطفال وهم في أوج حبورهم وأحلامهم ولَهْوِهم في عالمٍ بديعٍ إلى أبعدِ درجاتِ البهجةِ والإمتاع!                                                                
لوحة تحمل بين فضاءاتها كرنفالاً لونيِّاً مخضَّلاً بالجَّمال، أشبه ما تكون سيمفونيّة مستنبطة من تلألؤاتِ الرُّوح في ليلةٍ قمراء، مملكة متعانقة مع أسرارِ الدُّنيا، شوقٌ مفتوح إلى الذَّاكرة البعيدة، هي تدفُّقات حنينيّة إلى مروج الطُّفولة، حلمٌ باذخ نحوَ ظلالِ السَّماء الشَّاهقة، قبلةُ عشقٍ على خدودِ الصَّباح، حوارُ الرُّوح مع الكائنات كلّ الكائنات، بسمةُ طفلٍ في وجهِ الرَّبيع، عناقُ الأمِّ لزخّاتِ المطر، لوحة من نكهةِ الإبتهال، تتعانقُ مع جموحِ الشُّعراء في أوجِ تحليقاتهم، هي رحيقُ الشّعرِ المندّى بسموِّ السَّنابل، هي روح الشِّعر في أوجِ الاشتعال، هي صدرالدِّين أمين وهو يحلِّق نحو معراجِ بهجةِ السَّماء، بحثاً عن أسرار الفرح، بحثاً عن الماءِ الزُّلال، بحثاً عن حوارِ الأرضِ والسَّماء، وغوصاً في سديمِ اللَّيلِ، لعلَّه يغفو بين أهازيجَ الطُّفولة.                                                          
الفنّان صدرالدِّين أمين طفلٌ معرَّشٌ في حبقِ النّعناع البرّي، طيوره الَّتي يرسمها شفيفة كمآقي الزُّهور، كأنَّ أجنحتها مستنبتة من بخورِ الأديرة القديمة، تعبقُ شذىً وألقاً، تناغي أزاهير غافية عند تخوم أحلام الطُّفولة. هل هي طفولة الفنّان أم طفولتي أم طفولة المشاهدين، أم هي حنين مفتوح إلى مروج طفولتنا البكر جميعاً؟ لماذا يحنُّ الفنَّان والشَّاعر والإنسان إلى الطِّين الأوَّل، هل تولد اللَّوحة من تطاير هواجس الأحلام المنبثقة من عطشِ الرُّوحِ إلى مهدِها الأوَّل، هل نحن أنشودةُ عشقٍ مفروشة على مآقي الغمام، أم أنَّنا تدفُّقات نسيم مندّى بتواشيح أريج الصَّباح؟!                                                                                                    
أرى عالماً معبّقاً بالابتهال على مساحاتِ اللَّوحة، وأطفالاً مضمّخينَ بنضارةِ الاخضرار. تمدُّ طفلةٌ يدها إلى طائرٍ موشّحٍ بازرقاقٍ فاتح، يهفو إلى مداعبة سمكة صغيرة، مسترخية بين أحضانِ طفلة حالمة بمرجان البحر! عناقات بهيجة على امتدادِ وهجِ الخيال، كأنّنا إزاء كرنفالٍ عشقي بين كائنات منسابة فرحاً ومتآلفة مع بعضها بعضاً، يقدّمُهُ لنا الفنّان في إطار طقوسٍ لونيّة راعشة، في غايةِ الرَّوعةِ والإنسجام. حوارات انتعاشيّة متماهية مع تلاطماتِ شهوةِ البحارِ وهي في خضمِّ بحبوحةِ الإنتشاء.                                  
تتراقصُ على مساحاتِ اللَّوحة، انسيابات لونيّة متدفِّقة فوقَ جباهِ كائناتٍ عطشى إلى عبقِ أزاهير برِّية، احمرارٌ ساحرٌ يتمايلُ فوق عيونٍ زرقاء وبتلات معرّشة باخضرارٍ شفيف. تسطع غزالة جامحة بشموخٍ وهي تصغي إلى هسيس دبيب الأرض وخشخشات بعض الزّواحف. اختبأ بعض القطا خلف تلّة مكتنفة بالسَّحالي الصّغيرة، كأنّها في انتظار هديل اليمام من جوف الوادي المملوء بالزَّنبقِ والنَّفلِ البرّي. ترقص الكائنات الجَّميلة على إيقاعِ دفءِ النّهار. تفرشُ الشَّمسُ حبّها على روعة المكان. يراودني كثيراً انكماش الإنسان بعيداً عن شموعِ الخير وأغصانِ الجِّمال. كيف لا يستمدُّ الإنسان من كلِّ هذه الحفاوة والتَّناغم بين الكائناتِ البرّية والأهلية، خيوط الحبِّ والمؤانسة بين بني جنسه، عابراً بكلِّ رعونةٍ دهاليز معتمة، كأنّه في سباقٍ مع ألسنة النّارِ في بثِّ جحيمِ نيرانه على خدودِ الدُّنيا!
مسحةٌ أليفة تضيءُ جفونَ الغابات، من خلال رؤى خلاقة تعرّشَتْ بينَ أجنحةِ الفنّان، منذ أن تفتَّحَتْ مآقيه على وجهِ الدُّنيا، لهذا تتبرعمُ كائناته في فضاءاتِ ألوانٍ مرفرفة بأجنحةِ الفرح والوئام والأمل، تسطع كوهجِ الشَّمسِ وسطوعِ منارةِ القلبِ، مترجماً بكلِّ ما لديه من جمالٍ خلاق، شوقَ الرّوحِ إلى أبهى ما في خصوبةِ الحياةِ من تدفُّقاتِ لجينِ الإبداع!                                           
                 
ستوكهولم: نيسان (أبريل) 2013                                                                                       صبري يوسف                                                                                                         أديب وفنّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
 

CONVERSATION

0 comments: